٭ الأحد، هذا الصباح، لن تداعب عيون القارئ الإنجليزي، صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد».. انكسرت الأقلام، وطويت الصحف. ٭ (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).. عقود من الزيف و(الفبركة) و(الدبلجة) وصناعة الكذب. ٭ الأحد، المنصرم، وقف فريق العمل، يتقدمهم رئيس التحرير كولني مايكر، ولوحوا بأيديهم للقراء: (شكراً ووداعاً). وحمل العدد الأخير من الصحيفة، تقريراً عن تأريخها عبر سرد موجز للروائي جورج اورييل عن عطلة يوم الأحد، في ظهيرة من عام 6491م. تكون فيه الزوجة نائمة، والأولاد يلعبون بعيداً عن البيت، حيث لا يملك غير أن يتمدد على الأريكة، ويقرأ صحيفة نيوز أوف ذا وورلد. صدر العدد الأول من نيوز اوف ذا وورلد في صباح الاحد الأول من أكتوبر، عام 3481. وآلت ملكيتها الى روبرت مردوخ في العام 9691م، ومنها تسلل مردوخ الى صحف أخرى مثل لندن تايمز وول ستريت جورنال وصن.. واصبح مردوخ (امبراطوراً) بمعنى الكلمة. ٭ واحتلت نيوز اوف ذا وورلد، ومعها صويحباتها أسواق التوزيع، وسجلت أعلى المبيعات (قراء نيوز اوف ذا وورلد - فقط- يقدرون ب 5،7 مليون قاريء). القاريء الانجليزي، وغير الانجليزي، يقرأ الصحف الصفراء، لكنه، بعد قراءتها يضعها في (الزبالة) مع العلب الفارغة والكؤوس، وأوراق التشيوز والمناشف. ٭ والقارئ الانجليزي وغير الانجليزي، يقرأ الصحافة (الرصينة)، باحترام ومحبة، يجلس لها خصيصاً، و(قد يخلف رجله)، ومنهم من يلبس لها الصندل الازرق وربطة العنق القانية، أو بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء، أو سروالا وعراقيا، ومنهم من يشعل غليونه، ثم ينساه. ً ٭ الصحافة الصفراء (مستهلكة Disposable)، أما الرصينة فتبقى طول اليوم، (ترفو جوارب الصباح بخيط من نور، وتحيك وجه النهار بعباءة فضية، وتمسح يد الغروب بجبين من ذهب). ٭ (من المهم أن يرى الصحفي ما لا يراه غيره من الناس الذين ينظرون معه الى الشيء نفسه، ويسمع ما لا يسمعه غيره ممن يشاركونه الاستماع الى الكلام نفسه). ومن المهم جداً، أن يكون للصحفي من المهارات، ما يمكنه من شم رائحة المطر قبل سقوطه. ٭ أما (الأهم جداً).. فهو أن يرى الصحفي ما لا يراه الآخرون،ويسمع ما لا يسمعه غيره ، ويتنبأ بسقوط المطر أو وقوع الكارثة.. عبر وسائل وطرق، في غاية الاحكام، ومبرأة من الشوائب، وخالية من الغرض، وبأخلاق ونزاهة.. بلا تدليس أو مواربة أو افتعال أو تجسس أو خلافه. ٭ السبق في الخبر، هو الغاية، التي تنشدها كل صحيفة، وليس الخبر (سوى) المعلومة الجديدة الجيدة (حسب جواد البشيتي).. فالجديد لا أهمية له إذا لم يكن (مفيداً)، والمفيد لا أهمية له في الصحافة إذا لم يكن (جديداً). ٭ لكن الصحافة (الصفراء)، في بريطانيا، وفي غير بريطانيا، في سبيل السبق والإثارة والكسب والترويج، سلكت مسالك (مظلمة)، ودخلت حتى (حجرات النوم) ولم تحتفظ للجزء السري من الحياة بأي تبجيل. ٭ (نيوز أوف ذا وورلد) تجسست وتحسست، وحصلت على (المعلومة بطريقة غير مشروعة) ولهذا السبب، لبس القاضي، بريان ليفيسون (الروب)، وبدأ في التقصي حول أعمال يمكن أن توصف بأنها (فاضحة) تسببت في اغتيال شخصيات وانهيار أسر، وتصدع بنيان سياسي، والتحري في علاقات مشبوهة بين صحفيين وسياسيين ورجال قوات نظامية. ٭ ومع نزاهة ليفيسون، أشارت مصادر إلى علاقته بعائلة موردوخ. قالوا: إنه حضر أمسيتين استضافتهما اليزابيث موردوخ ابنة روبرت موردوخ (المالك لصحيفة نيوز اوف ذا وورلد) وزوجها رجل العلاقات العامة (!!) ماثيو فرويد. لكن ليفيسيون قال إن ماثيو فرويد كان يشغل منصب مستشاراً قضائياً، ونفى أية اتهامات بالتواطؤ مع مجموعة موردوك، ولم يتستر على حضور الأمسيتين، وقال: (إن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون على علم بهما). ٭ الصحافة سلطة، دائماً ما يقولون (رابعة)، وعندي أن الصحافة سلطة أولى. والسلطة في اللغة تحيل إما على التسلط والإكراه أو على معنى السلط والسليط. (السلط: طويل اللسان، والسليط: الزيت الذي يضاء به). والصحافة تستمد سلطتها (عندي) من سلاطة اللسان، أي حدته وفصاحته، أما كما قال الشنوفي: كأن السلطة هنا تعني الإثارة والقدرة على قهر الظلام، والسلطان لغة: الحجة والبرهان، وكأن هذا المعنى يدل على أن السلطة لا تحيل على التسلط فقط بل القدرة على امتلاك الحجة، لإقناع الناس، وإنارة طريقهم. ٭ قال شاعر الضاد العظيم أحمد شوقي في تقديمه لديوان ابن زيدون، من شرح وضبط كامل كيلاني وعبد الرحمن خليفة، الذي صدر في العام 2391، قال شوقي: يا ابن زيدون مرحبا قد أطلت الغيابا أنت في القول كله أجمل الناس مذهبا شاعراً أو مصوراً، كنت أم كنت مطربا وكنت أتساءل بيني وبين نفسي، لماذا لم (يحشر) شوقي الصحفيين ضمن الشعراء والمصورين والمطربين (وهو الذي لا تعوزه اللغة ولا ناصية الخطاب)؟، لكن شوقي، يبدو بحدسه وخياله المعافى، رأى فيما رأى، أن صحافة صفراء قادمة، وصحفيين (صُفر) قادمون فأحجم. ٭ في تقديري، من حق الصحفي أن تكون له (نبرة غير مسبوقة)، ومع ذلك ليس من حق الكتابة الصحفية أن (تحرضك على اقتلاع الوشم من جبين أمك، أو إحراق النخلة الوحيدة التي تتوسط حوش جدك القديم). ٭ ومن حق الصحفي أن (يجادل)، ولكن من حق القارئ ألا تجادله بعواطفك، جادله بعقل مدفوع بالعواطف.. وكفى.. الكتابة بدفع العاطفة فقط (سلسلة جبال لا تتعدى كثافة من الغبار). ٭ الكتابة الفجة مطر السوء. والكتابة المسؤولة غيث، ينبت زرعاً (تغيظ به الكفار). ً٭ والصحفي المسؤول يراعي الله فيما يكتب، ويكتب ليستكمل إيمانه (إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا قدر لم يأخذ ما ليس له). لا يعود من الطريق الذي تورط في وعورته، ولا يكتفي من الغنيمة بالإياب.. (حر يحاسب نفسه أن ترعوي، حتى يروح لمن سواه محاسباً).. أو كمال قال الجواهري. ٭ الصحافة الجادة، مسؤولة عن تقديم (دهشة مفتوحة) على قارعة الطريق، تدهش قارئها كل صباح، بإبصار عميق متجدد، تختزن المآثر والعبر، وتزلزل الأرض، وتجري أنهارًا كالعروق في جسد الوطن. ٭ الصحافة الجادة مسؤولة من تحرير المواطن وتحرير الوطن، وتحرير القضايا وتحرير اللغة من بلاغتها وإرجاع الصدى إلى الصوت، و(دس الدسم في السم). والصحفي المسؤول، يطارد عمره الهارب، يستمر طفلاً لا تدركه الشيخوخة، يصعد (أسفل) النهر، ليلتقي الملائكة، ولا (يصعد) أعلى الجبال لمؤانسة الشياطين. ُ٭ وفي بلد -كالسودان- قراؤه قليلون، وفقراؤه غفير، وكثير من الأميين والمظلومين، يصبح للصحافة واجب أعظم. ٭ ذهبت (نيوز اوف ذا وورلد)، وتتردد -الآن- في أنحاء العالم أصداء الفضيحة، واحتلت علاقة الصحفيين بالسياسيين أعلى الأجندة: يواجه رئيس الوزراء البريطاني كاميرون، تساؤلات عن السبب الذي دعاه إلى تعيين رئيسة تحرير سابقة لنيوز اوف ذا وورلد مسؤولة اتصالات لديه. ودعا الكونجرس الأميركي لإجراء تحقيق حول اختراقات الهواتف الجوالة، والبريد الصوتي. وقالت جوليا جيلارد، رئيسة وزراء أستراليا (التي ولد فيها مردوخ): إن حكومتها ربما تعيد النظر في قوانين الإعلام. ٭ ذهبت نيوز أوف ذا وورلد، والعاقل من اتعظ بغيره.