العالم بأسره يعيش مرحلة تقييم ومراجعة وإعادة ترتيب أولويات، وحتى في السودان نتحدث عن جمهورية ثانية بعد أن رفع الناس في مناطق الهامش السلاح واقتتلوا وجلسوا وكتبوا اتفاقات، وتصارعوا حتى في طريقة تنفيذ الاتفاقيات ولا يزالون. لكن في نهاية المطاف عرف أهل تلك المناطق ما لهم وما عليهم، ووحدها بقيت منطقة دار حامد تتحدث بحياء وهمس، ولو كنّا نعيش في بلد تحسن فيه إدارة الاولويات لما احتجنا للحديث بمرارة عن الواقع المزري الذي يعيشه الانسان في منطقة غرب بارا خصوصا وشمال كردفان عموما. إن دوائر صنع القرار ممثلة في مؤسسة الرئاسة وقيادة الجيش والبرلمان وكوادر الحزب الحاكم المتنفذة، لو أنها تجيد إدارة الاولويات او تنظر الى الامن القومي باستراتيجية شاملة لنظرت الى المناطق «الممكونة وصامتة»... نظرة اهتمام وعناية، اذ ليس من الحكمة في شيء أن ننتظر رفع السلاح او الاضراب او العصيان المدني حتى نلتفت الى المشكلة وننظر اليها بعناية واهتمام. إن معالجة المشكلات التي يعاني منها المجتمع معاناة حقيقية مثل مياه الشرب وخدمات الصحة والتعليم في مراحلها الأولى، تكون ذات جدوى كبيرة بالنسبة للمواطنين والحكومة، وهذا أمر بديهي، فكما يقول المثل الشعبي «الشقي بشوف في رقبتو والبخيت يشوف في أخو».. ففي المناطق التي بلغ فيها السيل الزبى ورفع شبابها السلاح، زادت معاناة الأهالي فيها أضعافاً مضاعفة، وتشتت إرادة الثوار وتوزعت ولاءاتهم على مموليهم خارج الحدود. وبالمقابل خسرت الحكومة سمعتها وأموالها وهيبتها ولم تعمر بلداً ولم تحفظ بلداً، بل تمزقت اللحمة الوطنية. ومن هنا يصبح الالتفات إلى شمال كردفان عموماً ومنطقة غرب بارا خصوصاً أمراً في غاية الأهمية، هذا اذا كان هناك من يُعطي الاستقرار والسلام أولوية في سياساته!! وبما أن العالم بأسره يعيش مرحلة مراجعة شاملة فإن منطقة غرب بارا وشمال كردفان عموما تعيش هذه المرحلة، لكن بلغة رصينة وحكمة ودراية ولا تخفى على المراقب المهتم بشأن المنطقة. هذه المراجعة التي تتم على ثلاثة مستويات، المستوى الاول متعلق بعلاقة الكوادر الشبابية الفاعلة مع الرموز السياسية من اهالي المنطقة، كما ورد ذلك في مقال للأستاذ صهيب حامد بعنوان «بين رئيس البرلمان ومذكرة دار حامد وآفاق التنمية المسدودة ببارا الكبرى».. رقم «1» جريدة التيار يوم الأحد 2011/8/7م. وسأتناول ما أورده الأخ صهيب في مقال قادم بإذن الله. اما المستوى الثاني فهو الشعور العام للناشطين ممن ابناء المنطقة تجاه مستقبل منطقتهم في ظل الاستقطابات التنموية الإقليمية، ان جاز لي التعبير، من حولهم شمالا وغربا وجنوبا وشرقا، وقد وضح ذلك جليا في كتابات عديدة لعل اهمها مقال الأخ محمد الامين النيل جمعة سهل من المملكة العربية السعودية بعنوان «شمال كردفان بين المطرقة والسندان»، وقد نشر في عمود الأستاذ النور احمد النور «حروف ونقاط»... بالصفحة الاخيرة بجريدة الصحافة الصادرة يوم الخميس 2011/8/11م، اما المستوى الثالث فيتعلق بمجاهدات الاستاذ معتصم ميرغني زاكي الدين والي ولاية شمال كردفان في تحسين وترقية الاداء التنفيذي لحكومة ولايته، وسأتناول التقرير الذي ورد بجريدة السوداني الصادرة يوم الأحد 2011/8/7 م، ص 12 في هذا المقال: بالنسبة لتقرير الوالي عن اداء حكومته والذي نشر في جريدة السوداني الصادرة يوم الاحد 2011/8/7م، ص 12، بعد التأكيد على الاستقرار الامني والسياسي، استعرض الانجازات في كافة المجالات، وقد حفل التقرير بانجازات كبيرة وجبارة ولكنها في نفس الوقت ومع عظمتها لا تلبي الطموحات ولا تستجيب للواقع المر الذي يعيشه اهل الولاية كافة ومنطقة بارا الكبرى على وجه الخصوص، حيث أشار الى تفعيل الايرادات وزيادتها في المحليات والمرافق الحكومية. وأشار إلى بارقة أمل تمثلت في مفوضية الاستثمار التي نجحت في جذب المستثمرين الوطنيين والاجانب مثل شركة الراجحي لتوطين الضأن الصحراوي التي ستبدأ العمل في محليتي غبيش والرهد، وقد اثلج صدري هذا الخبر لأن محلية غبيش والرهد وغيرها تصدر الضأن ربما منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث يباع من المنتج بأبخس الاثمان ويصدر بالعملة الصعبة دون أي عائد لتنمية مناطق الرعي والانتاج، ودون شراكة عادلة لأبناء المنطقة في استثمار حقيقي لمنتجاتهم، وبهذا يكون الوالي ومفوضية الاستثمار قد وضعا المنتج والانتاج في المسار الصحيح، ونكون بذلك قد جنينا ثمار الفيدرالية المالية الحقيقية التي كان من المفترض أن تدير الموارد بما يعود للمواطن ليس بالخير والنفع فقط، انما بفتح آفاق الازدهار والتطور، كذلك أشار تقرير مفوضية الاستثمار الى المستثمر معاوية البرير الذي منحته الولاية وملكته أرضاً لإنشاء المصانع في الولاية، ويحمد لمعاوية البرير اتجاهه للاستثمار في الداخل، في وقت قدرت المصادر الرسمية السودانية حجم أموال السودانيين المستثمرة بالخارج بانه يتجاوز ال 49 مليار دولار، بينما قدرها آخرون بما يتجاوز ال 70 مليار دولار موزعة بين مصر ودول خليجية عربية، اضافة الي دول افريقية «انظر السودان حروب الهوية والموارد ص 20».. لكن على مفوضية الاستثمار بشمال كردفان ان تستصحب معها وهي تمنح المستثمرين الفرص القضايا الاجتماعية الإنسانية مثل إيجاد فرص عمل للسكان المحليين، وتدريب العمال وتأهيلهم وتوفير السكن اللائق لهم، لذلك يجب ألا يسمح بتصدير المواد الخام لتصنيعها في الخرطوم مهما كان، لأن الشباب والنساء والرجال سيهاجرون الى الخرطوم ليعملوا لدى اصحاب هذه المصانع في وضع مزرٍ وبائس لا يليق بحقوق المواطنة ولا العمل، كما هو كائن الآن في الخرطوم. وإذا لم يلتزم المستثمرون أجانب أم وطنيون بالشروط التي ترقي المجتمع المحلي وتخدمه، على حكومة الولاية أن تعمد إلى انشاء تعاونيات صناعية وشركات مساهمة محلية، فالولاية تزخر بالخيرات والخبرات. لقد عانت شمال كردفان من استنزاف الموارد الطبيعية منذ أيام الرأسمالية الوطنية والمشاريع الزراعية في خور أبو حبل ومنطقة ام روابة وبارا والنهود، وقد أثر هذا الاستنزاف على انسان الولاية فهاجر الرجال بمئات الآلاف الى ليبيا ودول الخليج، وهاجرت النساء الى اطراف المدن «بائعات شاي وكسرة» وفي سوق الناقة، واهدرنا بيئات طبيعية وثقافية، وغدت كرامة وأخلاق انسان المنطقة في محك، فماذا بعد هجر الأمهات بيئاتهن الثقافية وتركهن لرعاية اطفالهن وتفرغهن لسد الرمق بكفة الوسائل؟ ماذا بعد ماذا تبقى؟!! ثم ماذا بعد تشرد الاطفال لغسيل العربات والعمل في اسواق الخضار وبيع المناديل في حر الهجير... ماذا تبقى كي نستثمره؟! إن مفوضية الاستثمار في شمال كردفان يقع على عاتقها عبء تصحيح المسار وعبء ادارة الموارد وعبء التخطيط السليم لحفظ أمانة اجيال المستقبل من موارد ورفاهية وكرامة. إن المصانع الغذائية المزمع إنشاؤها في منطقة بارا يجب أن يتم منح التراخيص لها لأهالي منطقة بارا، وان تعطى لهم الاولوية لاقامة الشركات والشراكات والتعاونيات، لأننا حقيقة بحاجة الى تفعيل المجتمع واشراكه في ادارة موارده وتحقيق امنه الغذائي واستقراره النفسي والعائلي الذي يسهم في بناء حسه الوطني. أما النقطة المهمة جداً في تقرير والي شمال كردفان، فهي حديثه عن مشاريع المياه والطلمبات الغاطسة ذات السعات العالية «1000» متر في الساعة، وقال إن هناك وعدا من وزارة المالية بدعم «200» طلمبة غاطسة، وهي تناسب المناطق ذات الأحواض السطحية، ان مثل هذا الدعم يجب ان يتم فورا من وزارة المالية ومن جهات اخرى عديدة تتحكم في المال العام. وكذلك القطاع الخاص يجب أن يساهم بحس وطني غيور في توفير مياه الشرب بولاية شمال كردفان. ان الضريبة الوطنية ولكي يبقى السودان مستقرا آمنا يجب أن يدفعها القطاع الخاص والشركات التي حصلت على امتيازات واحتكارات وافضليات، ولا يوجد مجال اهم من توفير مياه الشرب. إن مسألة مياه الشرب في شمال كردفان تحتاج الى دفعة قوية من منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص ووزارة المالية، لأنها مسألة تجاوزت كونها مسألة إنسانية ملحمة الى مسألة تمس الامن القومي لمن يرى الاشياء في أبعادها المتكاملة، فمثلاً دارفور الآن تنتظر المانحين واستراتيجية الحكومة المعلنة بشأن دارفور، وتنتظر منحة قطر لتنفرج ازمة عطشها إلى الابد بإذن الله، لكن دارفور نالت ما تستحق بعد أن سالت فيها دماء غزيرة .. وشرق السودان الآن تسير أموره باتجاه الانفراج مع المانحين واستحقاقات اتفاقية الشرق، والولاية الشمالية تنهال عليها المشاريع والسدود «اللهم احسن وبارك».. فهل تكافأ شمال كردفان على صمتها اهمالا وتجاهلا..؟! وتحدث الوالي بأدب جم عن الانتهاء من تجهيز «60» حفيرا كبيرا بدعم من وحدة تنفيذ السدود. ولا ادري هل نشكر وحدة تنفيذ السدود لدعمها تجهيز «60» حفيرا علي طريقة الرجل في قناة الجزيرة «شكر الله سعيكم»، أم نشكرها بأسلوب لا يليق بحقوق المواطنة «شكر المسكين الذي يرجو الزيادة»، ام نطالبها بصفتنا مواطنين اصحاب حقوق متساوية أن تلتفت وحدة السدود الى شمال كردفان كلها التفاتة همة ومسؤولية ووعي كامل بمعاناة الاهالي لتنفيذ مئات الحفائر، وفي خطة عاجلة وسريعة حتى يشعر المواطنون «بمواطنتهم» وأن وحدة السدود وحدة قومية تعمل للسودان كله. وحسنا فعلت وزارة الطرق عندما تعاونت مع حكومة ولاية شمال كردفان في دراسة لخط ناقل للمياه من حوض ام مراحيك الى عيال بخيت، وكنتُ على يقين بأن طريق الغرب عندما يخرج من النهود سواء متجها الى ام كدادة او الى الضعين فإن وزارة الطرق ستكتشف أغرب حالة تأقلم وتكيف مع العطش يمارسها الاحياء على وجه هذه الارض، لذلك نرجو أن تتعاون وزارة الطرق وحكومة الولاية مع وزارة الثروة الحيوانية والشؤون الإنسانية في تقديم دراسات وبرامج لتوفير المياه في هذه المنطقة ومنطقة بارا الكبرى والمنطقة حول ام روابة. وذكر الوالي اهتمامهم بمشروع السميح، وذلك برفع المساحة من 17 الف فدان الى 30 الف فدان، لكن هذا لا يكفي مع انه جهد مقدر نسبة لامكانيات حكومة الولاية، لا يكفي لأن الزراعة المطرية في شمال كردفان على نمطها القديم لم تعد تجدي، ولا بد من التفكير في زراعة مشاريع كبرى على النمط الذي تم في جنوب كردفان عندما قامت مؤسسة الزراعة الآلية 1968م، بتمويل من البنك الدولي، فاقامت مشاريع في مناطق هبيلا والبيضاء وام لوبيا وكرندل وتوس.. إلخ والآن يمكن للبنك الافريقي للتنمية او منظمة التعاون الاسلامي او جهات أخرى ان تساهم في اقامة مشاريع زراعية في شمال كردفان بالشراكة مع اصحاب الارض، والى ذلك الحين يجب أن يتم تسهيل مد المزارعين في الولاية بالجرارات الخفيفة، و 200 جرار لا تكفي يا البنك الزراعي!! أما أكثر ما اثلج صدري في حديث والي شمال كردفان، فهو تحويل ادارة الدوانكي والحفائر للمحليات، وبذلك يكون السيد الوالي قد خطا خطوة مهمة في اتجاه تحقيق الفيدرالية المالية من الوحدات الادارية الى اعلى الهرم، وهو الأمر الذي افتقرت اليه تجربة الحكم الفيدرالي في السوداني، حيث فصّل الدستور في الايرادات للولاة دون المعتمدين والمحليات والادارات. إن انسان كردفان في القرى الذي يزرع السمسم والكركدي والفول باعتبارها محاصيل نقدية، إنما ينفقها في شراء الماء له ولبهائمه، ولا يعود عليه شيء في تحسين خدمات المياه، الامر الذي يتطلب تدخل القطاع الخاص في مجال المياه، وكذلك الإدارة المحلية للمياه. هذا بعض ما ورد في تقرير والي شمال كردفان وهو يعدد المنجزات وموجهات المرحلة المقبلة. إن أهل شمال كردفان لسان حالهم قول الشاعر محمد علي أبو قطاطي: نحن ترانا بالحاصل نوري الفينا نحكي نبانا للدايرنا والما بينا في السلام والوئام ولدونا واتربينا ونرجو أن تكون الظروف الوطنية باتساع الأفق الذي يمكن إنسان شمال كردفان من العيش في سلام ووئام.. وأن يقرأ المسؤولون التحديات التي تواجه شمال كردفان قراءة تضع الأمن القومي نصب أعينهم.