يوم جاء زعيم الاتحاد السوفيتى السابق خروتشوف الى الأممالمتحدة ليسجل أكثر المواقف استهجاناً فى تاريخ المنظمة الدولية، عندما خلع حذاءه وراح يضرب ويصفق به على المقعد، علق يومها الرئيس الامريكى جون كينيدى على الحادث تعليقاً مريراًً وساخراً فقال: «إن النظام الديمقراطى الذى تتمتع به المنظمة الدولية قد سمح للسيد خروتشوف أن يستعمل حذاءه فى التصفيق، ولكنى أتساءل: هل يسمح النظام الاشتراكى الدكتاتورى للمواطن السوفيتى بلبس الحذاء الذى يريد؟». هذه الرواية تعزز صدق الرهان على الديمقراطية بوصفها قيمة سياسية رفيعة كان لها إسهام بالغ في تطور الحضارة الإنسانية وفي تحقيق القيم النبيلة، فبعد ما يقارب النصف قرن من هذا الحديث أصبحت الشيوعية باعتبارها منظومة حكم أثراً بعد عين، وانهارت كل مكوناتها سواء فى مجال الفكر والتنظير أو فى بنية الحكم، وتم إيداع مفردات سياسية مثل دكتاتورية البروليتاريا والستار الحديدى وحلف وارسو وال «كى. جى. بى» واللجنة المركزية والمكتب السياسى وغيرها من المفردات، فى متحف التاريخ السياسى وفى مدرجات العلوم السياسية بالجامعات، بحسبانها بعضاً من التجارب السياسية لمراحل غابرة اندثرت وأصبحت جزءاً من التاريخ الإنساني، مثلها مثل الدولة الإسلامية فى الاندلس أو الممالك الانجليزية والفرنسية القديمة. ولعل المرارات التى خلفها الإخفاق الشيوعى فى دول الاتحاد السوفيتى السابق بقومياته المختلفة، لم يكفها تفكيك النظام بكامله وانفراط عقده الى عدد من الدول والجمهوريات، فمضت تغير حتى أسماء المدن الروسية الشهيرة مثل ستالينغراد ولينينغراد وتعيدها الى أسمائها القديمة مثل فولجاغراد وبتروغراد على عهد القياصرة الروس قبل قيام الثورة البلشفية. ويرى معظم الباحثين ودارسو العلوم السياسية أن غيبة وتغييب الديمقراطية كان هو السبب الأساسى والرئيس فى هذا الانهيار المريع، تماماً كانهيار الجليد تحت وطأة حرارة المطالب الشعبية. إن بقاء الأنظمة الرأسمالية فى الغرب وتداعي وغياب الأنظمة الشيوعية فى الشرق لا يعود السبب فيه الى تفوق البناء الفكرى للرأسمالية على الشيوعية، لكن كل ما فى الأمر أن السبب الأساسى لصمود الرأسمالية هو إدراكها لحقيقة أن الديمقراطية هى احتياج إنسانى وفطرى لا يمكن تجاهله، بينما مضت الشيوعية غير عابئة بهذا الاحتياج فكان السقوط المريع. وبالعودة الى تجربتنا مع الديمقراطية فى السودان، فإننا نجدها كانت الخيار السياسى الأوحد لنا فى مرحلة الاستقلال والتحرر الوطنى، ولعل من المآثر القومية التى يجب أن نفاخر بها بين دول العالم الثالث والدول الأفريقية أننا بوصفنا دولة وشعباً كنا رواداً فى إنجاز الاستقلال والتحرر الوطنى عبر بوابة الديمقراطية. وكثير من الدول الافريقية والعربية من حولنا أدركت استقلالها عبر ملكيات موالية للمستعمر أو ثورات مسلحة لا يلبث قادتها الوطنيون أن يتحولوا الى أباطرة وطغاة. ورغم أننا فى السودان ربما كنا الاستثناء الوحيد حين تخيرنا الديمقراطية أداة نضال للتحرر الوطنى ثم منهجاً للحكم بعد الاستقلال، إلا أننا للأسف أخفقنا فى الحفاظ عليها وبددناها لعدة أسباب، من بينها ضعف الخبرة والتجربة السياسية، إلى جانب تداخل الولاءات الطائفية والمذهبية والقبلية فى السياسة، فلم نسلم من تلك الأمراض السياسية التى أسلمتنا الى دوامة الانقلابات العسكرية التي كانت السبب المباشر في أن تحول الديمقراطية إلى أنقاض قبل بنائها، والواقع الذي نعيشه اليوم أوضح دليل على ما نقول. ولقد أشرنا مراراً الى الهند باعتبارها نموذجاً يحتذى فى الانتقال عبر الديمقراطية من عهد المستعمر الى العهد الوطنى، فالهند رغم كونها من دول العالم الثالث إلا أنها وبفعل الديمقراطية الراشدة - ظلت محصنة من جرثومة الانقلابات العسكرية، وكانت النتيجة أن أصبحت اليوم فى مصاف الدول العظمى بسبب ثبات وازدهار اقتصادها ونهضتها الزراعية والصناعية وتفوقها فى البحث العلمى الذى أوصلها الى الفضاء والى النادى النووى. ويجب أن تظل التجربة الهندية ماثلة بقوة فى وجداننا السياسى لأنها كدولة شاسعة «شبه قارة» ظلت ترزح تحت مشكلات التنوع والتعدد العرقى والمذهبى والجهوى بأكثر مما اكتوينا بناره فى السودان، الى جانب أعباء إعاشة وإطعام ما يقارب المليارى مواطن، بجانب الكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل وبراكين وسيول تضربها كل عام.. رغم كل هذا ظلت التجربة الهندية صامدة ومثمرة وباهرة بسبب الديمقراطية ولا شىء سواها. لقد تضافر عاملان خارجيان بجانب عوامل داخلية أخرى فى توجهنا عشية الاستقلال نحو الديمقراطية البرلمانية بوصفها نظاماً للحكم، العامل الأول هو تأثرنا بالتراث السياسى للمستعمر البريطانى، وقد مضت كثير من الشعوب المستعمرة فى هذا النهج وانضمت الى تجمع رابطة الشعوب البريطانية (الكومنويلث)، كذلك تأثرنا بالتجربة الليبرالية فى مصر فى عهد ما قبل الثورة، فقد كان بعض منا يرى فى الزعيم الأزهرى صورة الزعيم الوطنى المصرى النحاس باشا، والدينمو يحيى الفضلى كنا نراه كفؤاد سراج الدين سكرتير حزب الوفد. ربما هذا التأثر هو ما قاد الحزب الوطنى الاتحادى الى نفض يديه عن المشروع الوحدوى مع مصر والتوجه نحو الاستقلال، بعد أن أسفرت الثورة فى مصر عن وجهها الشمولى وأدارت ظهرها لأى توجه ديمقراطى. وقد يرى البعض أن مرارة تجاربنا مع الديمقراطية على قلتها ومحدودية سنواتها كفيلة بصرف الأنظار عنها بوصفها قيمة سياسية راشدة للحكم، إلا أن العكس هو الصحيح، فقد أثبتت تجاربنا مع الأنظمة الشمولية المتوالية أن فشلنا السياسى تحت ظل الشمولية كان أكثر فداحةً عما خسرناه فى التجارب الديمقراطية. وهذه الحقيقة السياسية تبدو فى أيامنا الماثلة هذه أكثر جلاءً ووضوحاً فالأزمة السياسية الحادة التى نعيشها اليوم لا نرى مخرجاً منها إلا بإنفاذ الديمقراطية وإقامة دولة المواطنة التى يتساوى فيها المواطنون فى الحقوق والواجبات، بغض النظر عن أعراقهم أو مذاهبهم أو انتماءاتهم الجهوية. إن الأزمات المتلاحقة التى تمسك بخناق هذا الوطن، والتى تستتر وراء رايات التهميش والاقتسام المخل للسلطة والثروة وغياب التنمية المتوازنة لا يمكن مجابهتها إلا بترياق الديمقراطية ودولة المواطنة، وقد أثبتت التجارب المريرة أن الايديولوجيات المذهبية والعقائدية لا تقدم حلاً ناجعاً فى هذا الشأن بل تزيد من ضرام النيران وتشعلل الأزمات فوق ما هي مشتعلة. إننا نأمل خيراً أن تدرك كافة قوانا السياسية حاكمة ومعارضة هذا الأمر، فما عاد الوطن يحتمل المزيد من سياسات التجريب، وما عاد الزمن يسعف بمزيدٍ من التنظير والمراوغة.