استغربت جدا قول بعضهم مؤخرا إن الشيوعيين السودانيين هم كفار فهذا النوع من التفكير والوصف ينم عن جهل واضح للشيوعية النسخة السودانية. لقد كانت فترة ما بعد الحرب الثانية هى فترة للتحرر الوطني من حقبة الاستعمار وانتشار الفكر الاشتراكي المناوئ للرأسمالية التى أصابتها لعنة الأزمة المالية الشهيرة عام 1929 وتبعاتها من حروب وكساد وفاشية ونازية. ثم أحداث فيتنام والدور الأمريكي البشع فيها فالثورة الصينية وبروز ماو تسي تونغ. فى السودان كانت قضية الاستقلال من الاستعمار تطرح نفسها بشدة وكان المتعلمون السودانيون فى مصر قد تأثروا كثيرا بالفكر الاشتراكي مثلما تأثر بعضهم بحركة الإخوان المسلمين. كان الشيوعيون السودانيون هم الوحيدون الذين طرحوا فكرة التعمير والبعد والتحرر الاقتصادي لقضية التحرر السياسي (انظر كتابي الإعلام الاقتصادي وأثره على الاقتصاد السوداني). لقد نافس الشيوعيون الفعاليات الاتحادية والإسلامية فى المجتمع المدني السوداني(وأخيرا العسكرية!؟) فخشي هؤلاء من تكرار تجارب عربية وعالمثالثية باستيلاء الشيوعيين وحلفائهم الناصريين والقوميين العرب على السلطة بالقوة خاصة بعد تحول ثورة يوليو المصرية نحو الكتلة الاشتراكية وانقلابات ثورية عديدة فى العالم العربى. ولذلك استدعى الإسلاميون النظرية الماركسية التى لا تضع للدين مكانا فى النظرية والفكر كما استدعوا التجربة السوفياتية وضربها للإسلام والمسلمين فى إمبراطوريتها الإسلامية. كانت الحرب الفكرية والسياسية شديدة فأطلقوا شعار أن الشيوعية فى السودان هى (إلحاد وديكتاتورية وعمالة) وانتهى ذلك الى حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان فى عملية غير ديمقراطية ومناقضة للدستور السوداني. الشيوعيون السودانيون – عدا أفراد تأثروا بدراستهم فى روسيا – لم يكونوا ملحدين أو كفارا ولعلي أورد هنا بعض مقتطفات من مقال لقيادي شيوعي هو المرحوم عمر مصطفى المكي فى رده الشهير على المرحوم صلاح أحمد ابراهيم فى المساجلة الشهيرة بجريدة الصحافة عام 1968 والتى تعيد جريدة الصحافة نشرها هذه الأيام. لست معنيا بردود الأستاذ عمر ولكني أقتبس منه الآتي لأدلل على إيمان الشيوعيين السودانيين بالله وعدم كفرهم أو إلحادهم. يقول: (أنا والله).. و (أدعو لك الله ليعيد إليك ذاكرتك).. (أقال الله عثرتك وشفاك). (هذا دعاء لوجه الله لا أريد منه جزاءً أو شكورا).. (الحمد لله).. (لم يفتح الله عليك يومها بكلمة واحدة)..(سبحان الله عن جز النواصي)..(صلِّ بالله عليك).. وبعد هل يمكن أن تصدر تلك العبارات من كافر أو ملحد؟ لا أعتقد فمن يقول لا إله إلا الله لا يمكن أن نصفه بالكفر.. لقد كانت أطروحات الشيوعيين السودانيين طرحا سياسيا واقتصاديا بين يدي الحرب الباردة فكانوا بحكم حيويتهم الفكرية والثقافية أقرب للمعسكر الأشتراكي. ولعل التطورات الفكرية والسياسية الآن وبعد فشل وانهيار المعسكر السوفياتي وفشل الاقتصاديات الاشتراكية ونمو الديمقراطية وأفكار حقوق الإنسان وتعري الأنظمة الثورية الديكتاتورية قد يدفع بالشيوعيين السودانيين الى توجه جديد.. نرجو ذلك.