1 تناولت المقالات الثلاث الماضية من هذه السلسلة من المقالات الخلفية السياسية والتفاوضية لإتفاقية مياه النيل لعام 1959م، والتنازلات الكبيرة التي قدمها السودان والتي نتج عنها أن أصبح نصيبه 18.5 مليار متر مكعب من جملة وارد نهر النيل عند أسوان والتي إتفق الطرفان على أنها تبلغ 84 مليار متر مكعب. وقد صار نصيب مصر 55.5 مليار متر مكعب، ووافق السودان على تحمّل فاقد التبخر في بحيرة السد العالي والبالغ 10 مليار متر مكعب مناصفةً مع مصر. وتعرّضت المقالات للسلفة المائية المحدّدة بمليار ونصف المليار متر مكعب والتي وافق السودان على منحها لمصر بموجب إتفاقية مياه النيل حتى عام 1977م. وأشارت إلى عدّة ملاحظات بشأن السلفة المائية، منها أن مسألة إسترداد السلفة المائية هذه قد أصبحت مسألةً أكاديميةً بحتة لأن السودان لم ينجح على مدى الخمسين عاماً التى تلت توقيع إتفاقية مياه النيل لعام 1959م في إستعمال أكثر من 12 مليار متر مكعب من نصيبه من المياه المحدد ب 18.5 مليار متر مكعب. ناقشت المقالات الأسس القانونية التي تستند عليها مصر والسودان والتي تتمثّل في الحقوق المكتسبة لمصر والحقوق القائمة للسودان، وكذلك تلك التي تستند عليها الدول النيلية الأخرى والمتمثّلة في الإنتفاع المنصف والمعقول لمياه النيل بين الدول المشاطئة جميعها. وتناولت المقالات أيضاً الآثار العملية والقانونية التي قد تنتج جراء عدم تمكّن السودان من إستعمال نصيبه من المياه بموجب إتفاقية مياه النيل. أثارت هذه المقالات مجموعة من الأسئلة والمواضيع، من بينها موضوع قناة جونقلي والزيادة التي كان من المتوقع أن تضيفها هذه القناة إلى وارد مياه النيل، كما سنناقش في هذا المقال والمقال القادم. 2 بالقراءة المتأنّية للعلاقات المصرية السودانية حول نهر النيل يمكن وصف الخمسينيات من القرن الماضي بأنها عقد التفاوض وبداية وتأطير التعاون كما برز في إتفاقية مياه النيل التي تمّ توقيعها فى نوفمبر عام 1959م. ويمكن إعتبار الستينيات بأنها عقد السدود، حيث تمّ بناء السد العالي في مصر، وخزانيّ الروصيرص وخشم القربة في السودان. ومواصلةً لهذا التكييف النيليِّ للعلاقات المصرية السودانية، فإن السبعينيات والثمانينيات هى عقدا قناة جونقلي حيث أن الإتفاق والتخطيط والتنفيذ في بناء القناة بدأ في منتصف السبعينيات وتوقّف في منتصف الثمانينيات، بعد أن أوشكت القناة على الإكتمال. غير أنه لابدّ من الإشارة هنا إلى أن تاريخ الدراسة والتخطيط لقناة جونقلي يعود في حقيقة الأمر إلى بداية القرن الماضي وأوائل سنوات الحكم الثنائي. فلم تمضِ إلاّ أشهر قلائل من إستعادة السودان ووضعه تحت إدارة الحكم الثنائي حتى أوضح لورد كرومر، المندوب السامي لبريطانيا في مصر، لكتشنر أنه رغم أن كتشنر هو الحاكم العام للسودان، إلّا أنّ هناك أموراً تخص السودان ستُدار مباشرةً من القاهرة ومن بينها مياه النيل. وفي فبراير عام 1899م قام اللورد كرومر بإرسال السيد سير ويليام غارستين الذى كان يعمل وكيلاً لوزارة الأشغال العامة في مصر إلى السودان لإجراء فحصٍ عام على النيل في السودان وكتابة تقرير عن ملاحظاته. قضى السيد غارستين عدة أشهرٍ متجولاً فى السودان وجمع معلوماتٍ أوليّة ورجع إلى القاهرة. عاد السيد غارستين مرةً أخرى إلى السودان وقضى زمناً أطول، معظمه في مناطق النيل الأبيض الشاسعة، ثم أصدر في عام 1904م دراسةً مفصلة تحت عنوان «تقرير عن حوض أعالي النيل مع مقترحاتٍ لتحسين النهر.» يقع تقرير السيد غارستين في أكثر من 250 صفحة، ويتضمن وصفاً دقيقاً ومفصّلاً للنيل الأبيض وروافده من البحيرات الإستوائية وحتى نقطة إلتقائه بالنيل الأزرق في الخرطوم. والتقرير مدعّمٌ بالحقائق التاريخية والأرقام والخرط والجداول والرسومات التوضيحية. ويمتاز التقرير بالدقة في معلوماته، والتى أكّدت الدراسات اللاحقة كلها صحتها ودقتها، وبمجموعةٍ من المقترحات التى ظلت محل نقاشٍ وجدلٍ لسنوات طويلة بعد ذلك. وقد أعدّ السيد شارلس دُوبوي، أول مفتشٍ عامٍ للري المصري في السودان، دراسةً مفصّلة عن بحيرة تانا وأنهر السودان الشرقية في نفس تلك الأعوام. وقد تمَّ ضمُّ هذه الدراسة كملحقٍ لتقرير السيد غارستين ليصبحا معاً تقريراً كاملاً عن نهر النيل كله، مفصّلاً من حيث الأرقام والمعلومات الفنية والمقترحات. يتضمن التقرير مجموعة من المقترحات لزيادة وارد مياه نهر النيل من أجل إستعمالات الري في مصر تشمل عدداً من السدود عند مخرج النيل الأزرق من بحيرة تانا، والنيل الأبيض من بحيرة فكتوريا. وتشمل المقترحات أيضاً حفر قناة من منطقة بور حتى ملكال في جنوب السودان بطولٍ قدره 340 كيلومتر لتحمل مياه بحر الجبل مباشرةً إلى النيل الأبيض دون أن تمر هذه المياه بمنطقة المستنقعات المعروفة ب السُد، حيث يتبخّر ويتسرّب معظمها. وعبر هذه القناة يمكن، حسب تقرير السيد غارستين، إضافة حوالى خمس مليارات متر مكعب من المياه للنيل الأبيض. بهذا المقترح (والذى عُرِف ب قَطْع غارستين) بذر السيد غارستين بذور مشروع قناة جونقلي عام 1904م، أي بعد حوالى خمسة أعوام فقط من بداية الحكم الثنائي في السودان. 3 تلت دراسة السيد غارستين مجموعة كبيرة من الدراسات حول مستنقعات جنوب السودان وإمكانية إستخلاص المياه منها وإضافتها للنيل الأبيض لزيادة كمية المياه المُتاحة لمصر. ومن أميز الدراسات (بعد دراسة السيد غارستين بالطبع) تلك التى أعدها السيد ميردوك ماكدونالد عام 1920م بعنوان ضبط النيل والتى تطرّق فيها إلى مستنقعات جنوب السودان والقنوات المقترحة، مُركّزاً على قناة جونقلي. كما صدرت عدة دراسات عن النيل الأبيض ومناطق المستنقعات فى جنوب السودان بين الأعوام 1936م و1939م. وقد شكّلت إدارة الحكم الثنائي فى السودان فى عام 1946م فريق عمل لدراسة قناة جونقلي وأصدر الفريق مجموعة من الدراسات بعنوان «تقرير فريق تحري قناة جونقلي» كان آخرها الدراسة التى أصدرها هذا الفريق عام 1953م. مما يجدر ذكره هنا أن كلّ الدراسات اللاحقة، وحتى يومنا هذا، لقناة جونقلي ظلت تدور حول فلك دراسة السيد غارستين. يمكن تلخيص المقترحات التى نتجت عن دراسات النصف الأول من القرن الماضي حول مستنقعات جنوب السودان فى شقّ أربع قنواتٍ، إثنتين منها للإستفادة من مياه مستنقعات السُد هى قناة جونقلي الأولى والتى يُتوقع أن تُضيف حوالي خمسة مليارات متر مكعّب، وقناة جونقلي الثانية والتى يُتوقع أن تُضيف حوالي أربعة مليارات متر مكعب أخرى. ولكن كبرى هذه القنوات المقترحة هي قناة بحر الغزال، إذ أن حجم المياه المتوقعة من هذه القناة، بسبب الحجم الكبير لمستنقعات بحر الغزال، تصل إلى سبع مليارات متر مكعب، بينما يُتوقع أن تُضيف قناة السوباط/مشار حوالى أربعة مليارات أخرى. ومجموع كمية المياه التى يُمكن إستخلاصها عبر هذه القنوات الأربع تساوي حوالي 20 مليار متر مكعب، وهى تساوي قرابة مياه النيل الأبيض كلها مقاسةً عند أسوان والبالغة حوالي 23 مليار متر مكعب (11.5 لكلٍ من النيل الأبيض، ونهر السوباط). لكن مصر إنشغلت في بداية القرن الماضي بالمفاوضات حول مشروع الجزيرة وخزان سنار، ثم ببناء خزان جبل أولياء الذي اكتمل عام 1937م. وأوقفت الحرب العالمية الثانية التفكير والتخطيط للمشاريع النيلية، وتلى ذلك الصراع السياسي حول وحدة وادي النيل وإستقلال السودان. بعد ذلك طغت فكرة بناء السد العالي على كل الخطط التنموية المصرية للنيل، كما برزخلال مفاوضات مياه النيل بين مصر والسودان والتي بدأت عام 1954م وانتهت بتوقيع إتفاقية مياه النيل عام 1959م. وقد شملت الإتفاقية نصوصاً مفصّلة حول القنوات التي إتفق البلدان على شقها عبر مستنقعات جنوب السودان بغرض زيادة مياه النيل الأبيض. 4 تشير إتفاقية مياه النيل لعام 1959م إلى أن كمياتٍ من مياه النيل تضيع فى مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر السوباط، وتتضمّن الإتفاقية مجموعةً من الإجراءات لإقامة مشاريع لزيادة مياه نهر النيل من هذه المستنقعات لصالح التوسع الزراعى فى مصر والسودان، على أن يُوزّع صافي المياه والتكاليف مناصفةً بينهما. وتنصّ الإتفاقية على أن يتولى السودان الإنفاق على هذه المشروعات من ماله وتدفع مصر نصيبها فى التكاليف بنفس نسبة النصف المقررة لها فى فائدة هذه المشروعات. وتعطي الإتفاقية مصر الحق فى البدء فى أيٍ من هذه المشروعات إذا دعتْ حاجتُها للتوسع الزراعي لذلك. فى هذه الحالة تُخْطِر مصرُ السودانَ بالميعاد الذى يناسبها للبدء فى المشروع. وفى خلال عامين من تاريخ هذا الإخطار يتقدم كلٌ من البلدين ببرنامجه للإنتفاع بنصيبه فى المياه. وبعد إنتهاء العامين تبدأ مصر فى التنفيذ بتكاليفٍ من عندها، وعندما يتهيأ السودان لإستغلال نصيبه فإنه يدفع نسبةً من جملة التكاليف تتفق مع نسبة المياه التى سيحصل عليها، على ألا تتجاوز حصة أىٍ من البلدين نصف الفائدة. ويُلاحظ هنا الحق الآحادي الكبير الذي تعطيه إتفاقية مياه النيل لمصر للبدء في أيٍ من هذه المشاريع في السودان، ودور السودان الذي لايتعدى إخطار مصر له. بعد توقيع الإتفاقية في 8 نوفمبر عام 1959م ركّزت مصر والسودان جلّ اهتمامها في بناء السد العالي وخزاني الروصيرص وخشم القربة. ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أنه حتى لو لم تنشغل مصر والسودان ببناء السدود فقد كانت الحرب الأهلية مستعرةً فى جنوب السودان ولم تكن الحالة الأمنية لتسمح بتنفيذ أي عملٍ في البنية التحتية هناك. 5 فى 12 مارس عام 1972م تم التوقيع على إتفاقية أديس أبابا بين حكومة السيد جعفر محمد نميري وحركة تحرير جنوب السودان بقيادة السيد جوزيف لاقو. وقد منحت الإتفاقية جنوب السودان الحكم الذاتي الإقليمي، وتوقفت إثر ذلك الحرب الأهلية فى جنوب السودان التي كانت مستعرةً منذ عام 1955م. وقد ساهم فشل إنقلاب الرائد هاشم العطا ومواقف الأحزاب السياسية الأخرى المعارضة لنظام مايو فى توطيد العلاقة بين نظامي السيد جعفر نميري والسيد أنور السادات، وتمّ الإتفاق بين البلدين في 12 فبرائرعام 1974م على «منهاج العمل التكاملي» بين مصر والسودان. وكان من أوائل المشاريع التي بدأ التفكير في التخطيط لبنائها هي قناة جونقلي. وهكذا مهّدت عودة السلام فى جنوب السودان والتطور في العلاقات المصرية السودانية لفتح ملف قناة جونقلي بغرض البدء في تنفيذها بعد حوالي سبعين عاماً من صدور تقرير السيد غارستين. لا بد من الإشارة هنا إلى أن مصر كانت قد أكملت بناء السد العالي عام 1971م. وفي 6 يوليو عام 1974م قامت مصر والسودان بتوقيع إتفاقية بناء قناة جونقلي، لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ وشائكةً في حوض النيل، إذ أن مشروع قناة جونقلي ما لبث أن أصبح محوراً كبيراً للخلاف بين جوباوالخرطوم، ثم داخل الجنوب نفسه، ثم بين الشمال والجنوب وهدفاً رئيسياً في الحرب الأهلية بينهما، كما سنناقش في المقال القادم.