فى يوم الأحد الماضى ألقت السلطات الأمنية فى إحدى مناطق الخرطوم القبض على شاب عشرينى، كان يقود سيارة مسروقة تتبع لإحدى المنظمات الطوعية، وعندما تم تفتيش العربة وجدت فيها عدد من الاسلحة والوثائق والبيانات والمخططات وجهاز كمبيوتر محمول وعدد من السى ديز، وتبين أن هذا الشاب بعد فحص المحتويات والبيانات، يتبع لتنظيم القاعدة، وبعد أن اعترف بذلك بنفسه لاحقا، الاكثر من ذلك أن هذا الشاب هو ابن أحد السياسيين الأغنياء، وصاحب النفوذ الواسع فى أوساط المجتمع. وفى يوم الجمعة الماضى كان الشاب الثلاثينى «م. ح» يخرج من منزله?المتواضع بأحد احياء ام درمان ويتوجه غرباً الى اقاصى منطقة دار السلام بغرب امدرمان، حيث درج على اداء صلاة الجمعة مع عدد من المصلين الذين يأتون كل جمعة للصلاة فى المسجد المتواضع المبنى من الطين والقش، حث يعتنق هؤلاء منهج تكفير المجتمع، وقرروا ان يعتزلوه تماما، واقامة شعائرهم الدينية لوحدهم، وينصتون، وهم يبكون، لخطيب مسجدهم الذى يطالبهم بالدوام على اعتزال المجتمع، ولو ان يعض احدهم على اصل شجرة! تكفيريون وتنظيم قاعدة: والشاهدان اللذان سردتهما أعلاه ما هما إلا أنموذج موجود ومتكرر لما بات يعرف باسم التكفيريين الجدد فى الحالة الثانية، ووجود تنظيم القاعدة فى السودان أو ما يشبه ذلك فى الحالة الاولى. فقد ظهر جيل جديد من الشباب المتشدد الذى لا يخشى ان يعلن انه ينتمي لتنظيم القاعدة ويشرفه ذلك، ويكثر وجود هؤلاء الشباب فى اوساط الطبقة الراقية والغنية، حيث يقطنون فى مناطق مثل الرياض والعمارات والطائف وكافورى، وهم جيدو التعليم وحاصلون على شهادات جامعية وشهادات دراسات عليا مثل الماجستير والدكتوراة من جامعات مرموقة بعضها من خارج السو?ان، ولديهم مصادر متعددة للأموال التي ينفقونها فى تنظيمهم وتسيير أعمالهم. ولقد ظهروا بشكل لافت خلال، صلاة الغائب التى أقيمت على مؤسس تنظيم القاعدة اسامة بن لادن بعد أن اغتالته القوات الامريكية فى باكستان فى وقت سابق من هذا العام. حيث توافد على الميدان الذى أقيمت فيه الصلاة بالخرطوم مئات من هؤلاء الشباب الذين كانوا يقودون السيارات الفارهة ويلبسون الملابس الفخيمة، ولا يتقيدون بلبس الجلابية فقط بل يلبسون أقمصة وبناطلين من ماركات عالمية معروفة. والملاحظة المثيرة للانتباه فى هؤلاء الشباب، أنهم أبناء سياسيين ودبل?ماسيين ورجال دين معروفين وأثرياء. اما بالنسبة للتكفيريين الجدد فهم فى الغالب فقراء، وغير متعلمين، وبعضهم يحمل الشهادة الثانوية السودانية، ويعيشون فى المناطق الفقيرة والطرفية فى الخرطوم بطبيعة الحال مثل أمبدة والحاج يوسف ودار السلام وبعض من حارات الثورة بأم درمان ومايو والدروشاب وغيرها من المناطق. ولهؤلاء آراء متشددة فى الدين، فهم يعتقدون أن كل المجتمع كافر، ومن الأفضل أن يتم اعتزاله، فلذا فهم يعيشون فى مجموعات فيما بينهم ويتزوجون فيما بينهم، ولا يرتدون سوى الجلاليب، ولا يقصون لحاهم اطلاقا، وبعضهم لديه قطي?ة تامة مع وسائل الحياة من تكنولجيا وسيارات، حيث أن بعضهم لا يركب السيارة اطلاقا ويمشى مشاويره المحدودة راجلا، ولا يستعمل اجهزة الهاتف الجوال، ولا غيرها من الاجهزة مثل التلفاز والراديو. شهادات ووقائع: يقول الشاب الثلاثيني «م.ح» الذى التقيت به في منزله بأحد الأحياء الطرفية بام درمان، وبعد ان وافق على الحديث مع «الصحافة» بعد طول تمنع واشتراط عدم ذكر اسمه كاملا وعدم تصويره ايضا: «إن المجتمع السودانى باكمله مغرر به وكافر ولا يتبع الطريق القويم .. كلهم كفار ابتداءً من الرئيس الطاغوت الذى لا يحكم بما انزل الله وغيره من المسؤولين، وليس انتهاءً بالمجتمع الفاسق الخارج عن رؤية الاسلام.. وانا لا يمكننى العيش مع هؤلاء وافضل لى ان اعتزلهم كما طلب منا الرسول الكريم .. ونحن لا نعادى احدا، ولا نريد من احد ان يعادينا، و?كننا لن نغير قناعاتنا ولن ننضم الى هذا المجتمع الا بعد ان يغير دينه وطريقة تعامله مع الأوضاع الدينية». وعندما سألته هل لديكم تنظيم يدير اموركم وينظمها فاجاب قائلا: «لا ليس لدينا تنظيم، لأن التنظيم فى حد ذاته حرام ولا يقبله الدين الحنيف، والرسول الكريم ليس لديه تنظيم، وانما نجتمع كل يوم جمعة لاداء صلاة الجمعة بمسجدنا، ثم نقوم بتلاوة القرآن حتى موعد صلاة العصر، وبعد الصلاة يعود كل واحد منا ادراجه، وفى حال احتاج احد منا لشيء فإن اخوته يمدونه بالمساعدة، ومعظمنا يعمل فى الأعمال الحرة مثل البناء والحدادة وبعضنا ?عمل فى مجال التجارة». وفى هذا الصدد يقول الباحث فى مجال الجماعات الإسلامية السودانية الهادى محمد الامين ل «الصحافة» خلال اتصال هاتفي: «مثل هذا الشاب وغيره يعتبرون من التكفيريين الذين يعتزلون المجتمع، وهم لا يشكلون خطراً عليه، بمعنى أنهم لا يقومون بأعمال العنف والقتل كما يفعل غيرهم من التكفيريين المتطرفين.. وانما كل الخطر من المتطرفين الذين ينتمون الى تنظيم القاعدة!». وعندما سألته هل فعلاً تنظيم القاعدة موجود فى السودان؟ اجاب الامين قائلا: «نعم .. هم موجودون بيننا تنظيما وافرادا، غير أن تنظيمهم يختلف عن ذلك الموجود فى البلدان ا?اخرى مثل اليمن والسعودية والعراق وافغانستان .. فالقاعدة فى السودان ليس لها مكان محدد ومعروف، وهم يظهرون فى المناسبات، وبعضهم يعمل فى الخفاء.. كما أن السلطات لا تقوم بمطاردتهم، وهم مرتاحون من هذا الأمر مقارنة برصفائهم من البلدان الاخرى، مع أن محاربتهم غير صعبة لأنهم فى طور التجربة والتكوين». فزاعة حكومية: رسمياً أعلنت السلطات الحكومية، اكثر من مرة، انه لا يوجد تنظيم للقاعدة فى السودان، وان الاحداث التى وقعت وسجلت فى محاضر الشرطة والامن هى محض احداث معزولة. وكان المديرالعام لجهاز الأمن والمخابرات الوطنى الفريق محمد عطا الله قد اعلن لعدد من رؤساء تحرير الصحف، فى وقت سابق من هذا العام، ان الاجهزة الامنية قامت بعقد عدد من المناقشات والجلسات التفاكرية مع عدد من الذين يحملون افكارا اسلامية متطرفة، ومن ثم اطلقت سراح عدد منهم بعد ان اقتنعوا بخطأ المنهج الذي يسيرون فيه. غير أن مصادر «الصحافة» علمت ان هنالك عدداً غي? قليل من الاسلاميين المتشددين من داخل وخارج السودان مازالوا خلف القضبان والمعتقلات، وانهم يرفضون تغيير الافكار التى يؤمنون بها. ويصر الامين على وجود القاعدة على الرغم من النفي الحكومي، ويستدل قائلاً: «نحن نعرف أن الظواهري كان قد طلب من انصاره فى السودان ان يقاتلوا القوات الاجنبية الموجودة فى السودان .. وهو لن يطلب منهم اذا لم يكونوا موجودين، كما أن تنظيم القاعدة في السودان هو من النوع الانتهازى، بمعنى ان ليست لهم عقيدة دينية واحدة، وهم يستخدمون نظرية الغاية تبرر الوسيلة، حيث يمكن لأي واحد منهم أن يحلق لحيت? ويرتدي بنطالا ويجلس معك من أجل أن يحصل على بعض المعلومات منك .. وإذا عدت لأحداث السلمة فإن أحداً من المقبوض عليهم كان شكله غير ملفت للنظر، ولا يمكنك ان تقول انه من تنظيم القاعدة من شكله الخارجى، وهم يستخدمون وسائل الاتصال الحديثة مثل الانترنت والهواتف الجوالة بما فيها الثريا، هذا فضلا عن انهم يستخدمون الاموال لتجنيد الاعضاء الجدد». ويعتقد رئيس حزب الوسط الإسلامى الدكتور يوسف الكودة أنه لا وجود لتنظيم القاعدة في السودان بالشكل التنظيمى المحدد: «لا استطيع أن أقول إن القاعدة موجودة بوصفها تنظيماً فى السودان، وانما موجودة بوصفها أفكاراً، فهنالك الكثير من الشباب من يحمل فكر تنظيم القاعدة ويمشى بها بين الناس». لكن الكودة يعود ويقول ل «الصحافة» خلال اتصال هاتفى: «الحكومة تستخدم هؤلاء المتشددين من أجل أن تكسب بهم بعض المعارك الخارجية.. وربما تستخدم هؤلاء فزاعة وورقة ضغط خلال خلافاتها وتكتيكاتها المتواصلة مع المجتمع الدولى». وربما يكون حديث?الكودة صحيحا اذا تمت مقارنته بتصريح سربه موقع ويكيليكس الشهير، الاسبوع الماضى، عندما نسب الى مدير جهاز الامن والمخابرات السابق الفريق صلاح عبد الله قوش حديثا اكد فيه ان الخرطوم ظلت تتعاون ولمدة 9 سنوات مع المخابرات الامريكية من اجل مكافحة الارهاب فى المنطقة، ولكن هذا التعاون لم يثمر عن تطبيع العلاقات بين البلدين كما تسعى الخرطوم الى ذلك منذ فترة طويلة. حوادث ودلائل: هنالك الكثير من احداث العنف والحوادث التى وقعت فى الخرطوم، والتى يمكن أن تشتم منها رائحة القاعدة او طريقة عملها، ففي اغسطس 2007م قالت الاجهزة الأمنية إنها كشفت مؤامرة لمهاجمة البعثات الدبلوماسية الفرنسية والبريطانية والامريكية وبعثة الاممالمتحدة في الخرطوم، بعد ان اكتشفت خلية لمجموعة متشددة في حي «السلمة» بالخرطوم، ومعهم متفجرات واسلحة وغيرها من المعدات والاجهزة التى يستخدمها تنظيم القاعدة فى السودان. وفى عام 2008م، حذَّرت الولاياتالمتحدة رعاياها من السفر الى السودان، والمقيمين منهم من التحرك وسط العاصمة?وفي مناطق بعينها لتخوفها من تعرضهم لمكروه على خلفية ظهور تنظيم يحمل اسم «القاعدة في بلاد النيلين»، يهدد باستهداف الأمريكيين في الأراضي السودانية، مع أن المتحدث باسم الخارجية السودانية وقتها علي الصادق نفى وجود تنظيم بمثل هذا الاسم على الارض . كما أن الطريقة التى اغتيل بها الدبلوماسى الامريكى جون غرانفيلد وسائقه السودانى عباس عبد الرحمن خلال ليلة رأس السنة فى عام 2008م، تشير الى انها نفس الطريقة التى يستخدمها التنظيم العالمى فى تصفية خصومه بالقتل المباشر وباستخدام الرشاشات، ثم أن الطريقة التى هرب بها هؤلاء ?لقتلة من سجن كوبر عالى التحصين، وقتلهم لرجال الشرطة ومن ثم الفرار الى خارج الحدود واستخدامهم لوسائل تمويه وسيارات ومعدات لا تتوفر لافراد بسيطين، وانما لا بد من وجود تنظيم ما خلفهم. والاكثر من ذلك، أن أحد المطلوبين فى هذه القضية، مهند عثمان يوسف، وهو احد ابناء الوزراء السابقين فى حكومة الإنقاذ، كان منضما إلى تنظيم «شباب المجاهدين» فى الصومال قبل أن يلقى حتفه هنالك. هذا فضلا عن اسامة بن لادن نفسه كان مستضافا فى السودان منذ عام 1993م، وهو السبب الرئيس الذى جعل الادارة الامريكية تدرج اسم السودان مع الدول الراع?ة للارهاب. وفى العام الماضى ظهر تنظيم اسمه الرابطة الشرعية للعلماء فى السودان بقيادة الداعية الاسلامى والدكتور محمد عبد الكريم، وعدد من العلماء الشرعيين امثال الامين محمد الحاج وعثمان ابو نارو والدكتور علاء الدين الزاكى، والهدف من هذه الرابطة هو انها بديل لهيئة علماء السودان الذين لا يعترفون بها ويعتبرونها جسما حكومياً، وانها لا تقوم بدورها على الوجه الاكمل فى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وذهب البعض الى ربط تنظيم القاعدة بهذه الرابطة بعد تكفيرها للحزب الشيوعى فى منطقة الجريف، ومحاولتهم للاعتداء على شباب يتبع للح?ب بالاسلحة البيضاء. كما أن تنظيما طلابيا باسم «الكتاب والسنة» يقوده الدكتور عبد الحي يوسف قام بحرق أحد المعارض الطلابية فى عام 1998 داخل حرم جامعة الخرطوم، والاعتداء على بعض الطلاب بدعوى الدعوة للكتاب المقدس «الإنجيل» والترويج للخمور البلدية «المريسة» فى الجامعة، بعد ان اعتبر هذا الامر منافيا للدين الحنيف. وحاليا تمدد نفوذ الدكتور عبد الحي يوسف بعد انفصال الجنوب، وصار قريبا من مراكز صنع القرار الحكومية. واستطاع ان ينشئ عدداً من المراكز الاسلامية وبمواصفات عالية جدا التى تشمل المسجد ومرفقات اخرى من أماكن لت?ريس الطلاب ومقار لمنظمات طوعية اسلامية تعمل فى ذات المراكز، وفى اماكن استراتيجية داخل ولاية الخرطوم. كما أن لديه اذاعة «اف، ام» وتلفزيون يعمل طوال «24» ساعة بعد أن استقطب عدداً من الاعلانات من شركات كبرى. خطورة كبيرة: ويرى زعيم حزب الامة القومى الصادق المهدى ان ظاهرة «التكفيريين الجدد» او ظاهرة التشدد الاسلامى، من اكبر مهددات الاوضاع فى السودان. وقال ل «الصحافة» فى وقت سابق إن هذه الظاهرة لا تقل خطورتها عن الحروب والنزاعات القبلية والغلاء المعيشى الذى يضرب البلاد. ونوَّه إلى ضرورة قيام السلطات الحكومية بدراسة الظاهرة واستئصالها من جذورها حتى لا تتفاقم ويتحول السودان الى مأوى لهذه الجماعات. وقال المهدى الذى له كتب وبحوث ودراسات عن ظاهرة التطرف الدينى، إن الحكومة تغض الطرف أحياناً عن هؤلاء لاسباب تعلمها، ولكنها قد تصاب ب?ذى من هؤلاء الشباب المتحمسين الذين يمكنهم فعل كل شيء من اجل تطبيق مبادئهم وافكارهم بأية طريقة يريدونها. ويتفق يوسف الكودة مع المهدي في ضرورة مقاومة الفكر المتشدد عن طريق «نشر الفقه السليم والصحيح، وضرورة الاهتمام بنشر الفقه الغائب وسط الشباب والاجيال الجديدة عن طريق تضمين هذا النوع من الفقه فى المناهج التربوية، وألا يترك هذا الأمر الخطير لاجتهادات جماعات دينية بعينها تقوم بالمراقبة والمتابعة». ويرى الكودة أن الدور الحكومي غير موجود أو «سلبى فى اغلب الاحيان، وبحكم خبرتى الطويلة فإن الحكومة تقوم باستغلال هذه الجماعات وتحاول ان تستفيد منها، وهذا خطأ كبير ربما سيجر عليها وعلى المجتمع ويلات كثيرة». {}{