وكأن الساعتين ونصف الساعة التى أعلنها مساعد الكابتن زمناً لوصول الطائره التي تقل النائب الاول علي عثمان محمد طه في رحلة العودة من القاهره الى الخرطوم، هما دقيقتان ونصف الدقيقة. فقد مرت كلمح البصر، وبدأنا لا ننفك ننظر الى الساعه تتبعها نظرة أخرى الى الكرسي المجاور للنائب الأول الذي مر عليه كل افراد الطاقم الوزاري الذي رافقه في الرحلة في حديث منفرد، تنفسنا بعمق بعد أن ترجل آخر الجالسين - نائب مدير البنك المركزي-، لكن بدت آنسات الضيافة الجوية للخطوط الجوية السودانية كأنهن يحكن مؤامرة كبرى مع الوقت ضدنا، نح? الصحفيتين اللتين كنا في معية طه ضمن الوفد الصحفي، لم تكن مهمتنا الصحفية ستكتمل ابداً مالم نتحدث مع النائب الأول على الاقل لربع ساعة من الزمن. ظللن نحملق في موظفات الضيافة وهن يزرعن الممر جيئةً وذهاباً، ما أن يفرغن من تقديم صنف حتى يأتين بآخر، ونحن في انتظار أن يفرغن من آخر سلسلة ضيافتهن لجميع الركاب، سيما ركاب الصف الأول - الوزراء -، ألا وهو الشاي الذي استعنا ببعضٍ منه في ازالة التوتر بعد ان وجد طريقه الينا، ودخلنا بعده في حالة من الصمت الذي كنا نكسره بسؤال موجه الى جارنا في المقاعد الأماميه أمير. وهو م?اعد ادارة المراسم في القصر، قال لنا ما أن يفرغ المنشد من اداء المدائح النبوية التي طلبها النائب الأول سنتوجه مباشرة اليه لنحدثه في الأمر، وحمدنا الله أن المادح الذي كان فردا من الأمن، لم يكن يحفظ كل قصيدة « يا راحلين الى منن»، في تلك الاثناء سبقنا رئيس تحرير صحيفة الأحداث الاستاذ عادل الباز الى الكرسي بجوار النائب الذي كان قد فرغ تواً، وبدأنا نراقب الوضع.. أحسسنا أن الوقت قد حان عندما رأينا مدير المكتب الصحفي بمكتب النائب الأول ناجي علي ، الذي وعدنا منذ أن كنا في القاهرة بتسهيل إجراء مقابلة مع النائب الاو? اثناء رحلة العودة، وقد أوفى بما وعد، همس ناجي في أذن امير الحسن، وتوجه بعدها إلى مقدمة الطائرة، حيث كان النائب الاول يجلس في أول صف من الكراسي يمين الطائرة مباشرة بعد كابينة القيادة، عاد سريعاً وأعطانا اشارة التحرك، كنا في حالة تأهبٍ تام، كل أدواتنا الصحفية بجوارنا، حملناها على عجل وانطلقنا، رغم أنني أعقت زميلتي في الرحلة هبة عبد العظيم، عندما وضعت لها كوب القهوة خاصتي على منضدتها، ونهضت أنا مسرعة، لا أدري بعدها ماذا فعلت بالأكواب التي أمامها، لكنني وجدتها خلفي مباشرة، لم يكن حينها ثمة سؤال واحد في أذاه?نا، فقط كنا نريد التحدث مع النائب الاول وبعدها ستأتي الأسئلة لاحقاً، ألقينا التحية وبدأنا بالتعريف بأنفسنا، وقبل الجلوس كانت أول جملة قالها لنا، « تفضلن بالجلوس، وبعد ذلك عرفنني بأنفسكن»، كانت هذه الجملة كافية لتدخل في النفس احساس الراحة والاطمئنان، بعد أن ذكر نا له اسماءنا والصحف التي ننتمي اليها، سألنا إن كانت هذه أول تغطية خارجية لنا، أجبناه بالإيجاب، وأردف مستفسراً عن عدد سنواتنا التي قضيناها في بلاط صاحبة الجلالة، أجابت كل واحده منا بعمرها المهني، شكرناه على إتاحته الفرصة لصحفيات «إناث» لتغطية الزيار?ت الخارجية لكبار المسئولين، بعد أن كانت حكراً على رؤساء التحرير، قطعاً الرجال، ليس لتميزهم علينا، وإنما لإنعدام وجود رئيس تحرير من العنصر النسائي. وكأن النائب الأول قرأ ما يدور في خلدنا، لأن أول سؤال كان يدور في الأذهان «ماهي فلسفتكم من اشراك الصحفيات في التغطيات الخارجية»؟ أخبرنا أنه يريد أن تتدرج المرأه في مهنة الصحافة حتى تصل الى رئيس تحرير، لأنها لا تنقصها الكفاءة اللازمة لذلك، وابدى تعجبه قائلاً: «منذ عهد آمال عباس في الرأي الآخر، لم نرَ رئيسة تحرير حتى الآن»!.. هذه الأسئلة المفتاحية شجعتنا على طلب المزيد، وبدأنا أولاً بالاستئذان بفتح جهاز التسجيل، وكأنه أراد لذاكرتنا أن تتمرن تمريناً نهارياً أقل ما يوصف به أنه تمرين صعب، فقد رفض طلب التسجيل، مع السماح لنا بنشر كل ما دار بيننا من حديث، لا بأس إذاً بذلك، نعلم جيداً أن الذاكرة لن تخوننا في مثل هكذا مواقف، استأنف حديثه معنا قائلاً «الصحفي الحقيقى ليس هو الذي يكتفي بنقل اقوال المسؤولين، وكرر بما يشبه الاستنكار، «الصحفي لا ينقل الوقائع بل يخضعها للتحليل وفهم ما وراء الحديث». واضاف، «استمعوا للمسؤولين ولكن لا تنقلوا ا?حديث كما هو، بل اخضعوه للتحليل، هكذا تنمون مقدراتكم التحليلية والمهنية». لم نشعر أبداً بالرهبة أو الخوف، فالوقت لا يسمح بذلك، والحس الصحفي كان في أعلى معدلاته لدينا، حيث اردنا الخروج بأكبر قدر من المعلومات. أوصانا بأن نكتب ما تمليه علينا ضمائرنا، وحذّرنا من مجاملة اي شخص مهما كانت صفته، وأن لا نكتب ما لا نراه متسقاً مع الخط الذي نسير عليه، وان لا نخشى في ذلك أحدا. استمر بنا الحديث الى النقطة التي جعلت النائب الأول للرئيس يجحم عن التصريحات الصحفية أو المقابلات الخاصة، حكى لنا عن واقعة حدثت معه منذ أن كان وزيراً للخارجية في منتصف التسعينيات وحتى العام 1998، أخبرنا أنه كان وقتذاك في إحدى زياراته الخارجية الى احدى الدول الأوربية، - ايطاليا - تحديداً، وهناك التقى بوفدٍ عالي المستوى من جمهورية مصر العربية، في وقت كان التوتر على أوجه بين الدولتين بسبب حادثة محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك، وعند عودته الى الخرطوم وجد اجهزة الاعلام الرسمية في انتظاره بالمطار، تحدث?معهم حديثاً وصفه ب(الونسة) العادية، وإذا به يفاجأ بذاك الحديث عنوان رئيس في نشرة أخبار التلفزيون الرئيسية، ومنذ ذلك الوقت اكتفى فقط بالأحاديث الرسمية، وفي المناسبات الرسمية التي تكون مشهودة من جميع وسائل الاعلام، أثناء رواية النائب الاول على عثمان لتلك الواقعة، أكد لنا أن لا علاقة له بما يروج من قبل الاجهزة المصرية في العهد البائد من تورطه في محاولة اغتيال حسني مبارك في اديس أبابا، وقال «هذا الحديث غير صحيح». لكن لم تكن تلك الحادثة ل»طه» مع اجهزة الاعلام الرسمية هي السبب الوحيد وراء عدم اجرائه احاديث و?قابلات صحفية خاصة، فللرجل أسبابٌ أخرى ربما تكون فلسفية يؤمن بها كمسئول في الدولة، مهمته الاولى خدمة المواطن، ففي نظر النائب الاول ان المسؤول لا يحتاج الى ان يخرج كل يوم عبر الوسائط الاعلامية ليطلق تصريحات تؤكد أنه يخدم المواطنين، وزاد «دائما أفضّل أن تكون علاقة المسؤول بالمواطنين فيما يتعلق بقضاياهم عبر القرارات، ولا أفضّل ان يقضي المسؤول كل يومه في الحديث بدلا من العمل، وحل قضايا الناس يكمن في قلمه الذي يسطر به هذه القرارات لتتنزل على ارض الواقع، واردف «إذا ما استمر المسؤول في الكلام فمتى يجد الوقت ليقضي ?وائج الناس». وبرهن لنا صحة حديثه بأن كثرة التصريحات والحديث اطاحت بمسؤولين سبق وأن تقلدوا سدة الحكم في السودان، قائلاً «التجربة موجودة لدينا، فثمة مسؤولين سابقين كانت كثرة الكلام امام وسائل الاعلام السبب الرئيسي في ضياعهم». تمتع النائب الأول وطيلة الثلاثة ايام التي قضاها في ارض الكنانه بروح معنوية عالية، غير أن الراحة النفسية بدت ظاهرة على محياه في ختام الزيارة، ما يعني ان الزيارة قد أدت الغرض والنتائج المرجوة منها، وهو ما أكده لنا عندما نقلنا له هذه الملاحظة، قال لنا مبتسماً «هل ترون ذلك فعلاً، أي هل ترون انني اشعر بالراحة النفسية»، ثم واصل «نعم الزيارة كانت ناجحة وأدت الغرض المرجو منها»، لكننا لم نتركه عند هذا الحد وعكسنا له وجهة نظرنا في أن الشعب والقيادة المصرية ينظران الى السودان نظرة استنزافية، يريد أن يأخذ من غير أن?يُعطي شيئاً، قلنا له انعكس ذلك جلياً في الاسئلة التي كان يوجهها الصحفيون المصريون من شاكلة «ماهي التسهيلات التي ستُقدم»، وكل الاسئله يمكن اختزالها في «هل من مزيد».. في المقابل فإن الحكومة السودانية التزمت، بل ونفّذت فعلياً كل ما اتفق عليه منذ الاطاحة بنظام مبارك، قلنا له حتى اتفاق الحريات الاربع لم يُفعّل من الجانب المصري حتى الآن.. كانت الاسئلة تترى وتنهال على النائب الأول الذي كان يستمع الينا بإهتمام بالغ، وأجابنا قائلاً: «للمصريين مشاكل فنية واضحة في قضية انفاذ اتفاقية الحريات الاربع، ونحن نقدر ذلك، كم? أننا لمسنا منهم جدية في ازالة تلك العقبات تمهيداً للإنفاذ. ثم قال نحن نعي ذلك تماماً ونأخذ منهم ما يتسق مع مصالحنا. وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية حكومة انتقالية، إلاّ أن الخرطوم ربما أرادت أن تكون علاقتها بالمصريين علاقة استراتيجية دائمة المدى، لا تتأثر بمجيئ الحكومات أو ذهابها. مر الوقت كلمح البصر، وأُشعرنا بحركة في الممر من قِبل افراد الحراسة والمراسم، لكننا تجاهلنا الجميع واستمرينا في الحديث مع النائب الأول، لم نتوانَ في توصيل شكوى اطلقنا عليها رئاسية من ضعف المرتبات داخل الصحف، جاء ذلك بعد أن سألنا عن السبب وراء ضعف لياقتنا «ليه لياقتكم تعبانة، مرتباتكم ضعيفه؟». تلقفنا تلك العباره وأجبناه «نعم ضعيفة ويمكنك اعتبار ذلك شكوى رئاسية». ضحك كثيراً خاصه بعد أن عقبنا عليه بقولنا «أنت أيضاً ما زلت محافظاً على مظهرك الخارجي - من حيث الوزن - ولم تؤثر فيك السلطة. أدركنا أنه وبعد تلك القفش?ت سيكون الختام، لذلك استأذناه في التقاط بعض الصور الفتوغرافية، فوافق بكل ترحاب، ولأن لا احد يمر بالقرب منا نهضت أولاً رفيقتي هبة لتلتقط لي الصورة، لكنها وقفت في الزاويه الخطأ بعد تشويش افراد الحراسة الذين رأتهم بعد أن نهضت، قمت أنا بدوري واخذت للنائب الأول أول صور له مع صحفيات داخل الطائره الرئاسية. ألقينا عليه تحية الوداع وانطلقنا صوب مقاعدنا، وقبل أن نصل اليها وجدنا رؤوس كل الوفد الوزاري مشرئبة تنظر الينا، لمحنا تلك النظرات التي تحولت الى كلام منطوق، حيث داعبنا وزير الزراعة عبدالحليم المتعافي الذي كان ي?لس خلف النائب الاول ومعه وزير التعاون جلال الدقير قائلاً، «جيبو حق البياض». وهناك في منتصف الطائره حيث الوفد الصحفي، ما إنفكت الاسئله تنهال علينا من مدير تحرير الرأي العام محمد عبدالقادر، والاستاذ عادل الباز «ماذا قال لكم؟».. بصعوبة اقنعنا الجميع بأننا لم نجرِ مقابلة صحفية، بل كانت مجرد «دردشة» اما أحمد عبدالوهاب بدا زاهداً فيما يمكن ان يكون بجعبتنا. انتهت رحلة العودة، وحينما جلسنا على مقاعدنا كانت الطائرة تحلق فوق سماء الخرطوم. كان التعجب متملكاً الجميع رفقاء الرحلة، ماذا فعلتن لتخرجن في هذه الرحلة، وقالها لنا مساعد المراسم أمير «اريد أن أعرف ماذا فعلتن حت تتمكن من المشاركة في هذه الزيارة». ربما سيجد الآن الاجابه في ردود النائب الأول، وعلى الرغم من أنها المرة الاولى التي تخرج فيها صحفيات برفقة رؤساء تحرير، الاّ أن الجميع كان متعاوناً معنا وزالت بيننا حواجز هذا رئيس تحرير وتلك محررة، بل أننا كنا نتفق على شكل المواد التي سنمد بها صحفنا، الباز كان خير د?يل لنا في شوارع القاهره وانفاقها و»مولاتها»، حيث انتزع لنا خروجه في زمن ضيق لنجري جولة سريعة في احد المولات. محمد عبدالقادر كان فاكهة الرحلة، سيما عندما نتقابل في مطعم فندق «سونستا» حيث نقيم. مندوبو الأجهزة الرسمية اذاعة وتلفزيون، اضافة الى وكالة السودان للأنباء، خير من قدم لنا دعماً لوجستياً ومدنا بمعينات العمل «فلاش» وغيره،فكان الزميل على المبارك المحرر بالتلفزيون، الذي ارهقناه صعوداً وهبوطاً حاملاً معه تارةً «الفلاش»، وتارة الأوراق، ليمدنا بأخبار المقابلات التي سُمح بتغطيتها من قبل المصورين فقط، بعد ا? يخرجها من كاميرا المصور التلفزيوني الساخر «الزين». المصور الرئاسي كمال عمر لم يتوان عن مدنا بصور جميع المقابلات لتبرز اخبارنا بصوره أجمل. أما أزهري فني الارسال بالقصر الجمهوري فقد اتحفنا بحكاياته التي لا تنتهي بلكنته «الشايقية» الظاهرة. كنا أول صحفيات يرافقن النائب الاول في رحلة عمل خارجية، نأمل أن نكون قد ارسينا ارضية ثابتة لبقية زميلاتنا الصحفيات، اللاتي لا تنقصهن الخبرة في تغطية أي محفل محلي أو خارجي.