تمثل انتفاضة 21 اكتوبر 1964م رقما مهماً في تاريخ الوعي السياسي السوداني، والعربي والافريقي والعالمي.. كانت انتفاضة شعبية في مواجهة نظام عسكري مدجج بانواع الأسلحة كافة في مقابل جماهير عزلاء من كل سلاح الا ايمانها بوطنها وحقها في الحرية والكرامة. ولأننا نحن السودانيين مقصرون في حق أنفسنا وفي حق تاريخ وطننا، فقد كانت ريادتنا محلا للتساؤلات وربما الانكار.. ولعلنا نذكر حينما قامت انتفاضة الشعب التونسي على نظام زين العابدين بن علي ان نسبت الريادة الى شعب تونس البطل، لولا ان جاء التصحيح من ان شعب السودان قد فعلها في اكتوبر 1964م وابريل 1985م. ولعل بعض الذين تربوا وعاشوا في احضان النظم الشمولية السودانية، ينكرون على اكتوبر وجيلها هذه الريادة، ويدخلون في مغالطات مع تاريخ امتهم، والتي حاولت الانظمة بعد ذلك طمس معالمها، وتشويه صورتها والقول انها كانت مدخلا للفوضي، وتصفية الحسابات، واضطراب الحياة السياسية. ومع بزوغ فجر اكتوبر كان المجال ممهداً اكثر من ذي قبل لنمو الحركات اليسارية والقومية والاسلامية.. وظهرت في ذلك الوقت وبشكل اكثر الحركات الجهوية: اتحاد جبال النوبة جبهة نهضة دارفور مؤتمر البجا وهي حركات ذات علاقة بالريف، وهي واجهة مطلبية سياسية لحقوق مواطني تلك المناطق، ولما كان الوعي السياسي قاصرا، فمل يأخذ الامر بجدية، وادخل النخب السياسية المناطقية في لعبة الكراسي السياسية التي ادمنها ساسة السودان. ولو تمت قراءة الامر في سياق التهميش الثقافي، وانعدام التوازن في التنمية والسير في الرؤى الاستعمارية التي اهملت وفق استراتيجية معينة اطراف الوطن، ومهدت لخلق بؤر الصراعات ومن ثم تفجرها في اوقات حاسمة ومصيرية، فقد سبق تمرد الجنوب استقلال السودان ببضعة اشهر. والوعي الفكري باشكالات بلد متعدد القوميات متنوع الثقافات كان ضروريا ولازما، ولكن الانظمة الشمولية ساهمت في تعقيد الاشكالات باعتمادها الحلول الامنية والعسكرية في مواجهة المطالبة بالحقوق: الحق في التنمية المتوازنة الحق في التفكير والتعبير، الحق في التعليم وحقوق الانسان الاخرى كافة التي اقرتها شرائع السماء ومواثيق المنظمات الدولية. وكانت اكتوبر خطوة متقدمة في هذا الاتجاه، فعن طريقها تم اعطاء المرأة السودانية حقوقها السياسية كافة، واصبحت عضوا في البرلمان، واصبح السودان مركزا لحركات التحرر الافريقية، وخطا خطوات للامام في سبيل ايجاد حل سلمي لمشكلة الجنوب، فكان ان انعقد مؤتمر المائدة المستديرة بمشاركة القوى السياسية في الشمال والجنوب ما خلق مناخا استثمرته مايو في بيان 9 يونيو 1969م الذي اعترف بالتمايز الثقافي بين الشمال والجنوب. في مجال الثقافة كانت اكتوبر تمثل حدا فاصلاً بين التقليد والتجديد.. اذ كانت حركة شعر التفعيلة، وما ادخلته على صعيد الشكل والمضمون من تجديد وتجريب سابقة لاكتوبر، ولكن مناخ الحريات بعد اكتوبر 1964م افسح المجال لقوى التجديد والحداثة ان يكون لها الصوت العالي، وان تحدث اختراقات في سكونية وحركة الادب السوداني، وجاء ذلك مواكباً لمتغيرات في المنطقة العربية والافريقية والعالم.. ورغم الوجود القوي لليسار هنا فان حركة الاسلاميين والقوميين وكذلك الجمهوريين كانت لها انعكاساتها ونزعم هنا ان اكتوبر 1964م في السودان كان? سابقة لربيع براغ 1968م ولثورة الشباب في العام ذاته التي اصابت اوروبا والعالم، معبرة عن الرغبة في التغيير، وهو ما يذكر بربيع الثورات العربية، وان اختلفت الامكنة والمقاصد والازمنة. وعلى صعيد الفن والادب في السودان بزغت شمس بعض المنظمات كأباداماك التي خلقت حراكا ثقافيا في المركز وبعض الولايات وكانت بعد اكتوبر حركة ثقافية نشطة في مجال المسرح، وتكفي شهادة الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس الذي قال ان مسرحية حفلة سمر من اجل حزيران قد جرى تمثيلها في السودان قبل ان تمثل في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد. وهذا سبق لحركة المسرح في السودان التي التقطت بوعي فكري وثقافي ومسرحي هذه المسرحية المهمة التي مثلت انعطافا في حركة المسرح العربي. وهناك ملاحظة تتعلق بتاريخ ثورة اكتوبر وبعض المغالطات والادعاءات حول احداث مازال بعض صناعها وشهودها مازالوا على قيد الحياة.. وباستثناء كتابات قليلة هنا وهناك عن ثورة اكتوبر منها الثورة الظافرة لأحمد محمد شاموق وثورة شعب للحزب الشيوعي وأوراق سودانية لشوقي ملاسي وكتابات متفرقة هنا وهناك والامر يتطلب وقفة جادة للتاريخ لثورة 21 اكتوبر 1964م ونذكر هنا ان جماعة اباداماك قد اخرجت للناس كراسة شعرية عن اكتوبر حوت مجموعة من القصائد. وكذلك الامر يتطلب توثيقا للشهداء الذين سقطوا بنيران الحكم العسكري وكذلك الجرحى الذين استشهد بعضهم بعد ايام قليلة كبابكر حسن عبد الحفيظ وحران وكذلك شهيد ود مدني وقرية ام دقرسي بالجزيرة وحسن أحمد يابس والذي ننشر صورته هنا كتذكار لهذا الشاب الذي نالته رصاصة غادرة بجمع من شهدوا الحادث انها عملية اغتيال.. والامر يتطلب ان نوثق لهذه الاحداث الوطنية الكبرى. ونريد من هذا التوثيق ان يشمل جوانب غير منظورة من هذه الثورة في بعدها الاجتماعي والسياسي والثقافي.. فالنظام كان قد أثار مثلا اهالي حلفا بتوقيعه على اتفاقي? مع الجمهورية العربية المتحدة آنذاك فيها من الاجحاف بحقوق السودانيين الكثير وكذلك الحل العسكري لمشكلة الجنوب، وكبت الحريات وتكميم الافواه، ما شكل صدمة للسودانيين بعد عامين من احتفالهم بنيلهم لحريتهم واستقلالهم عن الاستعمار. ولهذا لابد ان يجيء التوثيق كاملاً وشاملاً فقد كان رفاق الشهيد أحمد القرشي طه كثر في انحاء البلاد كافة، وقد كان لكل منطقة شهداؤها واحداثها، وما تجربة قطار كسلا ببعيدة، وتحرك الجزيرة في ليلة المتاريس 9 نوفمبر، وغير ذلك من المبادرات. والمطلوب تجذير الوعي الثقافي، وتحصين الوعي بالديمقراطية باعتبارها من مكتسبات اكتوبر، وربط ذلك بالتنمية المتوازنة، وبالانفتاح على ثقافات الآخرين، واعتماد لغة الحوار بين المجموعات السودانية المختلفة.