في مطلع الستينيات من القرن الماضي، أصيبت أختنا «أم قزاز السماني» بجرح في رجلها، ما لبث أن تطور وأدي لبتر الرجل، ثم أدى لوفاتها وهي في ريعان الشاب ونضارته. وكانت تلك من الحالات المبكرة لمعرفتنا بداء السرطان الذي كانت الإصابة به نادرة الحدوث، أو لعل من توفوا جراء هذا الداء لم يتم الكشف عليهم وتشخيصهم كسائر الناس الذين دخلوا الحياة الدنيا وغادروها بكل هدوء مثلما تمر النسمات. ومع تعاقب الأيام ومرور السنوات، أصبحت تلك الربوع النائية شمال بربر وهي مجموعة القرى التي تعارف الناس على تسميتها حاليا بمحلية الفاروق، أصبحت مصيبة الموت عندهم مرتبطة بالإصابة الحتمية بداء السرطان، وذلك منذ سنوات خلت، وحتى آخر الراحلين إلى الرفيق الأعلى الأخ والصديق «صلاح عبد الباسط»، وما منهم أحد إلا وقد عانى أشد المعاناة جراء هذا الداء القاتل والخبيث. لقد أدبنا الدين الحنيف على الإيمان بالقدر خيره وشره، والصبر على الابتلاء والمصائب من أمراض وعنت ومشقة ومشكلات لا تحصى تصاحب مسيرة الإنسان طوال عمره. وقد استوعب أهلنا الطيبون هذه المعاني وعرفوا قدرها وقيمتها عندما تتلاقي مع الحديث الشريف الذي يوضح مقدار قيمة المرض وكونه يمحو الذنوب والآثام، ومن هنا أصبحت التعزية للمريض والمواساة له بأن هذا المرض كفارة له، حتى سارت هذه الكلمة على الألسن لتصبح لازمة ضرورية عند عيادة المريض. لكن هذا الإيمان العميق لا يتنافى مع الضيق الشديد والحسرة والألم الذي أصبح يحسه الناس تجاه هذا الداء المستشري الذي صار عنوانا للموت وفراق الأحبة خاصة، وهمس الناس وحديثهم الخافت أصبح جهراً، فالمصيبة عظمت والإصابات تتزايد، مما جعل هناك شبه اعتقاد بأن أمراً ما قد حدث وأن سبباً معينا جعل المنطقة بؤرة للمرض جعلته ينتشر بهذه العددية الظاهرة، رغم تعداد السكان القليل أصلاً. وللناس في ظنونهم الحق، فهم يشاهدون ذويهم يرحلون أمامهم دون أن تقوم جهة ما بدراسة الأمر، ومعرفة ما إذا كانت ظاهرة تستحق الدراسة أو أمرا عاديا يح?ث في كل السودان، ولا يستحق أن نعتبره نتاج فعل معين. ومن هنا فإن النداء بالصوت العالي لكل الجهات ذات الشأن والعلاقة بالصحة، بدايةً من وزارتي الصحة الاتحادية والولائية، إلى منظمات الأممالمتحدة، إلى كلية الطب بجامعة وادي النيل، إلى الوسائط الإعلامية.. بأن يأخذوا الأمر مأخذ الجد، ويحركوا معهم وسائل البحث العلمي وأدواته للمعرفة والتثبت، ثم النداء الأهم لوالي نهر النيل بأن تولي حكومته اهتماما بهذا الداء العضال بصفة خاصة والنواحي الصحية عامة. وفي هذا الصدد لا بد من التوقف عند الحالة المزرية التي آل إليها مستشفى عطبرة وهو قبلة أهل الولاية، فإذا كان المستشفى بهذا ا?وضع المتردي فهل يحق للناس أن تطمع في علاج مرض فتاك على شاكلة السرطان. أخيراً فإن الأمل معقود على أبنائنا الشباب بالمنطقة، وقد استفزهم الموضوع وحرك مشاعرهم وأحاسيسهم، فسارعوا بداهة وعقدوا العزم على الحركة، فإننا نهيب بهم أن يعملوا على التوعية والتثقيف بما تيسر لهم من معلومات ووسائل مهما كان حجمها وندرتها، فسوف تسجل لهم رصيد السبق، وتؤسس لعمل توعوي كبير قد يتحقق قريباً طالما حسنت النيَّات. إعلامي مقيم بالسعودية