لم يكن أكثر العزابة الذين يسكنون الميزات وبيوت الايجار المتهالكة «سبهللية»، ليتصور هذا الحال الذي عليه ميز الطبيبات الكائن خلف مبنى قاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات الفاخر، وشخصياً لم أكن أتخيل أنه بكل هذا السوء والنتانة لولا الصور التي لا تكذب التي إطلعت عليها في «بوست» البوردابية نجلاء سيد أحمد بموقع سودانيز أون لاين الاسفيري، وقد كانت بحق صور مقززة لا تحتمل رؤيتها مرتين، خرائب وزبالة ومياه طافحة تجعلك تضع يدك على أنفك لا شعورياً وتكاد تفرغ ما في بطنك بسبب «الطمام» لمجرد رؤية صور جامدة فما بالك إذا ساقك حظك العاثر لدخول هذا المستنقع الآسن المسمى ميز الطبيبات، والمفارقة أنه بكل قبحه وسوئه هذا يقع في منطقة عامرة بالعمائر والمباني الفخمة ومنها قاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات التي يفصلها عنه أقل كثيراً من مثل ذاك الذي يفصل بين الديوم والعمارات والذي قال فيه شاعرنا الفحل اسماعيل حسن -طيب الله ثراه- «بين الديوم والعمارات شارع ظلط للعين يبين، لكنو بالجد آلاف السنين»، فالذي يفصل بين هذا الميز البائس وجيرته من المباني الفاخرة من قدامه وخلفه وعن يمينه وشماله لا يبين في مظهر ومخبر المبنى فقط وإنما كذلك في المعنى الذي يكشف بوضوح ليس تردي حال هذا الميز فحسب بل قبل ذلك تردي الصحة وتدهورها وتدحرجها إلى أدنى سلم أولويات الصرف في دولة الخصخصة والجباية التي رفعت يدها عن قطاع الخدمات وأولته ظهرها، فتركت الرعاية وتفرغت للجباية التي وجدتها فيما يلي قطاع الصحة في إنشاء المستشفيات الخاصة التي ظلت تتوالد وتتكاثر بمتوالية هندسية، فما يمضي شهر وإلا وتسمع عن شموخ مشفى خاص جديد، وكل ذلك على حساب المؤسسات العلاجية الحكومية التي يرتادها الفقراء والضعفاء وذوي الدخل المحدود الذين لا قِبل لهم بالمستشفيات الخاصة والتي تضاهي أسعار غرف التنويم في بعضها أسعار غرف النوم في أفخم فنادق الخرطوم، وليت أمرها وقف عند حد المغالاة في أسعار العلاج لكان ذلك أهون، ولكنه للأسف تجاوز ذلك إلى التعالي على المرضى وذويهم ومرافقيهم والتشدد في «دفع الحساب» لدرجة إحتجاز المريض رهينة لحين السداد أو حجز الجنازة كما حدث لجثمان أحد أشهر قضاتنا هو المرحوم القاضي صلاح حسن الذي احتجزه أحد المشافي الخاصة رغم شهرة الميت رحمه الله وإقتدار أسرته التي عبثاً حاولت تقديم الضمانات لدفع ما عليها بعد إنقضاء يوم العطلة الذي صادف الوفاة.. إن حال هذا الميز يكفي وحده دليلاً على «اللكلكة» والتباطؤ والتسويف الذي لاقته قضية الأطباء العادلة من الجهات المعنية سواء كانت وزارة الصحة أو المالية وهو الأمر الذي جعل الأطباء المضربين لا يثقون في أية وعود ما لم يروها تتحقق على الارض وذلك من كثرة الوعود التي تلقوها دون جدوى، ولك عزيزي القارئ أن تقدر مدى المماطلة عن قصد كانت أو عن عجز في تلبية الحقوق المشروعة ولا نقول المطالب لهؤلاء الأطباء إذا علمت أن الوعد باصلاح ميزات الأطباء عموماً وهذا الميز تحديداً كان قد بُذل بشكل قاطع منذ فبراير الماضي، ومضى الآن قرابة الشهران دون ان تمتد إليه يد الاصلاح فأصبح حاله يزداد سوءاً على سوء ويوماً بعد يوم إلى أن بلغ هذا الوضع المزري اللا إنساني، فهل هذه هي المؤامرة التي يلغ فيها هؤلاء الأطباء والطبيبات الشرفاء، ما أبأس المطالبين بدماء هؤلاء النشامى وما أعجز الوزارة الساعية لتشريدهم.