عندما أشعل الشاب بوعزيزى النار في جسده احتجاجاً على القهر والظلم والتسلط الذى تمارسه السلطة الحاكمة على شعبها بتونس، لم يكن يدرى انه بفعله ذاك، سيعمل على إنقاذ كل الشعوب العربية من حكامها الذين جثموا على صدورها سنين عدداً. فما أن فهم حاكم تونس رفض الشعب القاطع لحكمه وحكومته، حتى هرب بجلده تاركاً خلفه جاهه وسلطانه وتسلطه، ومن بعد لحق به حاكم مصر ثم ليبيا، وسيلحق بهم قطعا حاكما اليمن وسوريا. فما لم يفهمه بعض الحكام العرب، أنه متى خرجت الجماهير إلى الشارع مطالبة بالتغيير فإنه لن يرجعها إلى حالها القديم، إلا ?لتأكد من تحقيق مطالبها وكاملة، كان ذلك بإجراء كل التغييرات التي تزيل كل الممارسات التي دفعت البوعزيزى للانتحار من أجل إزالتها، أو إزالة الحكام وحكوماتهم ذاتها، لأجل الوصول إلى أنظمة الحكم التي تفهم رشد الحكم قبل أن يفرض عليها ذلك الفهم. وللمرة الثانية يضرب شعب تونس مثلاً للشعوب العربية الأخرى، باجتيازه اختبار أول انتخابات تعددية ديمقراطية، شهد العالم بحريتها ونزاهتها وشفافيتها. وكانت دهشة الجميع أن مكن شعب تونس بكل ليبراليته وتحرره، لحركة النهضة الإسلامية من حصد غالبية مقاعد المجلس التأسيسي، بما يسمح لها بالانفراد بالسلطة تماماً. وقد مهد لفوز الإسلاميين الكاسح ذاك، أمران، أولهما ما تم وصفهم به من نظافة اليد والبعد عن الفساد، وثانياً طمأنتهم للمواطنين جميعا، بأنهم بوصفهم إسلاميين لن يفرضوا قيودا على المرأة، كالالتزام بارتداء الحجاب، الذى ?عتبره بعض الدول الإسلامية الدليل الأكبر على إسلاميتها. بجانب تأكيداتهم بعدم المساس بقطاع السياحة الذى يعتبر من أهم مصادر دخل الدولة، بما يؤثر سلباً عليه، مثل حظر الخمور أو ارتداء لباس البحر «المايوه»، ثم طمأنة المستثمرين بعدم الإقدام على فرض قواعد مصرفية إسلامية في التعاملات البنكية. فقد جعل قائد حركة النهضة، من كل تلك الممارسات التي لن يقوم حزبهم بمنعها، حريات شخصية يجب أن تكفل للأجنبي والتونسي على حد سواء. وهكذا أغلق رئيس حركة النهضة الباب أمام كل الذين سيزايدون بإمكانية فرض الحركة قيوداً على كل ما ظل يت?تع به الشعب التونسي من حريات. وحزب النهضة الإسلامية هذا، رغم حصوله على المقاعد التي تمكنه من الانفراد بالسلطة قانونا، إلا انه رأى أن الظرف الذى تمر به بلادهم، يحتاج إلى تكاتف الجميع من أجل النهوض بها. فكان أن مد يده لكل الأحزاب الأخرى، التي شاركت في الانتخابات بما فيها العلمانية، وغيرها من المواطنين، كي تشاركه في إدارة دفة الحكم، مشاركة عادلة وجادة. وقد بدأ عدالة المشاركة بأن خصص الحزب نصف المقاعد التي حصل عليها في المجلس التأسيسي لصالح النساء، والأهم أن جعل مشاركة المرأة بعيار نشاطها بالحركة، بصرف النظر عن ان كانت محجبة أو غير ذلك. وه?ا ينفى فرض الحركة قيوداً على أزياء النساء. ومن أكثر ما يميز دعوة حركة النهضة الإسلامية للمشاركة في الحكم، ترشيحها لعضوين من الأحزاب اليسارية، وصفتهما بالاعتدال، لرئاسة الجمهورية. قصدنا من عرض بعض مما انتهجته حركة النهضة الإسلامية من أساليب للكيفية التي ستدير بها الحكم، الذى دان لهم ديمقراطيا، أن ندلل على البون الشاسع بين رؤيتهم ونهجهم ذاك، ورؤية ونهج حكومة المشروع الحضاري التي تمثلها حكومة المؤتمر الوطني. فالإسلام هو الإسلام لا يمكن أن يكون الاهتداء به قائداً إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وكفالة حقوق الإنسان في بلد ما، ومانع لكل ذلك ببلد آخر. لكن المشكلة الرئيسية التي تواجه المواطن السوداني الآن، هي الوهم الكبير الذى تعيشه قيادات الحزب الحاكم، من أنه ليس في الإمكان أف?ل مما كان، في أسلوب وطريقة حكمهم، الأمر الذى يقلل من احتمال تحقيق التغيير المطلوب للوصول إلى صيغة حكم ترضى الجميع. فلا زالت بعض قيادات المؤتمر الوطني تتحدث عن أن تجربتهم السودانية في الحكم، أصبحت مثالاً للشعوب العربية التي انتفضت ضد حكامها مطالبة بالحرية والشريعة الإسلامية، تحتذي بها، ذلك لأن السودان قد حسم أمره من حيث الشريعة والحرية، حديث السيد والى الولاية الشمالية. ودون الخوض في الرد على هذا الحديث الذى يعنى أيضاً أن حركة النهضة الإسلامية بتونس، هي الأخرى قد اقتدت بشريعة الإنقاذ، التي وصفها السيد الرئي? «بالدغمسة»، نرجو أن نحيل الجميع إلى تاريخ حكومة الإنقاذ في السلطة لنرى. عندما أطلت الإنقاذ على البلاد، رفعت شعارها المحبب، الحكم بشرع الله، الذى ظل قولا وانتفى فعلا. ففي بداية عهدها كان التركيز في تطبيق شرع الله بالتضييق على النساء، بدءاً بالمطالبة بارتدائهن للحجاب، بصرف النظر عن أن كن مسلمات أو غير ذلك، ومن بعد ربط الالتزام بذلك الزى بحق العمل والترقي والتعليم بمرحلتيه الثانوي والعالي. وقد أصبح مألوفاً مشاهدة من سمين بالمرابطات، اللائي تم تدريبهن خصيصا ليرابطن إمام مداخل المؤسسات الحكومية والتعليمية، للتأكد من التزام العاملات والطالبات بالزى الذى أطلق عليه اسم «إسلامي». ومر ع?ى المرأة السودانية حين من الدهر أصبحت فيه مطالبتها بارتداء العباءة والتخلي عن زيها السوداني، الثوب، أمرا لازما، لولا تصدى بعض القيادات النسائية لتلك الهجمة، التي في ظاهرها احتشام المرأة وفى باطنها صفقات تجارية تعود على بعض الداعين لها أو من ولاهم بالربح الوفير. ثم خرج علينا قانون النظام العام، الذى جعل من حياة المواطنين رجالا ونساء، جحيما لا يطاق. فالقانون أصبح أداة لكشف عورات المواطنين، بعد أن أباح عملية التجسس عليهم داخل منازلهم، ثم الحق ذلك بعملية الجلد، خاصة بالنسبة للنساء. حتى أصبحت تلك الممارسة من أسوأ معالم حكم الإنقاذ، والقانون اجتهد في تغيير العديد من عادات وتقاليد المجتمع السوداني التي ألفها وسار عليها طيلة عمره. فكانت الدعوة لمنع الاختلاط، كان ذلك بالمركبات العامة، أو في مناسبات الأعراس بالأندية المختلفة، إضافة إلى الرقص الذى سمى مختلطا، وأصبح في مقدم? الأسباب التي تدعو شرطة النظام العام لمداهمة الحفلات أياً كان موقعها، للقبض على من يخالفون القانون، أو إلغاء الحفل بأكمله.. وقد تم التخلي عن بعض تلك الممارسات المتنافية مع حقوق المواطنين وحرياتهم، أخيراً، بعد ان وجد ذلك القانون أشرس مقاومة من جانب المواطن ومن مختلف منظمات المجتمع المدني. وحركة النهضة التي ترى بعض من قيادات المؤتمر الوطني أنها اقتدت بحكمهم، اتصفت قياداتها بنظافة اليد والبعد عن الفساد كما أسلفنا، والتي تعتبر من بين أهم صفات المسلم، الأمر الذى جعل المواطن التونسي يأتمنها على قيادة وطنه، بينما حكومة الإنقاذ، ومنذ مقدمها، لم تعر أمر الشفافية ونظافة اليد أدنى اعتبار، بل ظلت تكابر وتسارع لنفى أي ذكر لفساد يلتحق بأى من كوادرها، الأمر الذى أدى إلى نمو الفساد وترعرعه، فأصبح من بين أهم الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما تعيشه اليوم من مشكلات اقتصادية استعصت على الحلول، ومازالت حكومة ال?شروع الحضاري تمارس ذات نهجها القديم في مواجهة فساد كوادرها، فإما ان تسارع بنفيه، أو المطالبة بإثباته، ومتى تم لها الإثبات بما لا يدع مجالا للشك، تلوذ بالصمت ريثما تجد مخرجاً للمتهم. وحركة النهضة قد منحتها غالبية جماهير تونس ثقتها ومكنتها من أن تنفرد بالسلطة ان أرادت ذلك، لكنها لم تهدف من الوصول إلى السلطة، كي تمكن لحزبها أو كوادرها، بل فقط لتمكين وطنها من الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة. فقد علمت بحسها الوطني ان بناء الأوطان يجب ان يشارك فيه كل قادر على ذلك من المواطنين، بصرف النظر عن الانتماءات السياسية أو الاختلافات الآيديولوجية، بينما حزب المؤتمر الوطني، ومنذ أن اغتصب السلطة بليل من حكومتها الشرعية، ظل منفرداً بها وبالثروة، كان ذلك وهو مشارك للحركة الشعبية لتحرير السودان، حيث ظل ممت?كا لحق النقض وحده، بسبب منح حزبه الأغلبية في الجهازين التنفيذي والتشريعي، أو أخيراً عبر الانتخابات التي قاطعتها كل الأحزاب الفاعلة فعاد للانفراد بالسلطة، بصرف النظر عن تفضله بمشاركة ضئيلة لبعض الأحزاب التي لا أثر ولا تأثير لها في مسيرة الحكم. وعندما فكر المؤتمر الوطني أخيراً، في أن يفسح مجالاً للآخرين للمشاركة معه في السلطة، خرج على الجميع بفكرة الحكومة ذات القاعدة العريضة التي جعلت المشاركة في إطارها بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فهي أى المشاركة، بعد أن تم حصرها في الجهاز التنفيذي، تم ربط طريق الوصول إليها ع?ر القبول بما يحدد هو من برامج، فكان رفضها من كل الأحزاب التي تحترم ماضيها وجماهيرها، ومن ثم فقد يعود المؤتمر الوطني إلى شموليته القديمة مرة أخرى بحجة أنه سعى للتخلص منها ورفض الآخرون.. فأين دعوة المؤتمر الوطني للمشاركة هذه، من الدعوة التي أطلقتها حركة النهضة الإسلامية بتونس، ولكل الأحزاب وبمختلف الأجهزة، ومن بينها رئاسة الجمهورية التي جعلتها من نصيب الأحزاب اليسارية؟ لكل ذلك لا يمكن المقارنة بين حكومة حركة النهضة بتونس، وحكومة المؤتمر الوطني بالسودان، فرغم إنهما يشتركان في كونهما حكومات إسلامية، إلا أن الأولى التزمت بتعاليم الإسلام في نفسها، من طهارة في اليد وعفة في اللسان، بجانب التزامها بالعدل والمساواة بين الناس، وبكفالة حرياتهم وحقوقهم الإنسانية، ومن ثم وظفت الإسلام وتعاليمه لصالح خدمة ورفعة وطنها، وأثبتت بأسلوبها الوسطى ذاك، صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، بينما استغلت الثانية الإسلام ووظفته تماماً لصالح حزبها وكوادرها، بدءاً باستئثارها بكل السلطة والثروة في حكمها ?باسمه، وبحرمانها لكل الآخرين من حقهم في كليهما، بجانب حرمانهم أيضاً، من التمتع بحقوقهم حتى تلك التي كفلها لهم الدستور الذى وضعته ذات الحكومة. وحكومة المؤتمر الوطني تتحدث الآن عن دور لها في إنجاح ثورة ليبيا، بتصريح السيد الرئيس الذى أعلن فيه أن السلاح الذى مكن الثوار من دخول وتحرير طرابلس، كان جميعه وبنسبة 100% سوداني. مبررا ذلك الفعل بأنه انتقام من حاكم ليبيا المخلوع، الذى ظل يمد كل المعارضين للحكومات السودانية بكل ما يحتاجون من سلاح لأجل إسقاطها. فنخشى من أن تطالب الحكومة ثوار ليبيا برد جميلها ذاك، وتبنيهم نمط الحكم الإسلامى الذى مارسته بالسودان، أي الشريعة «المدغمسة». فقد أعلن السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي بليبيا، أنهم سيعتبرون ?لشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع بليبيا، وهى ذات لغة الإنقاذ التي فشلت في ترجمتها إلى صيغة حكم يحتذي بها. على كل فإن الاعتراف وبالصوت العالي، بأن حكومة السودان هي التي أمدت ثوار ليبيا بالأسلحة التي حررت بها طرابلس، قد لا تحمد عواقبه. فعملية مساندة الحركات المناوئة لحكوماتها، كالتي ظل يمارسها العقيد القذافى مع الحركات المختلفة، كان النظر إليها من كل دول العالم بأنها إرهاب، وبما أن حكومة السودان مازالت تلهث كي «تخارج» نفسها من بين قائمة الدول الراعية للإرهاب، فما بالها تعلن عن مثل تلك الممارسة، التي إن تمت من خلف ظهر العالم، ستثبتها على رأس قائمة الإرهاب، وإن كانت بعلمه ورضائه، فقد تعرضها للانتقام ممن مازالوا ي?الون القذافي. فماذا لو تم قضاء تلك الحاجة بالكتمان؟ وأخيرا نسأل عمن الذى في حاجة لكي يقتدي بطريقة ونهج حكم الآخر؟