ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان عندما هاجم ثوار السلطة -الذين آلت إليهم مقاليد البلاد عقب العهد التركي- كسلا فأحرقوا المدينة ومسجد السيد الحسن الذي «جلب إليه أمهر العمال والصناع وأفخر المواد» ومن بينها أثاث المسجد النبوي الشريف- من شبابيك وأبواب ومنبر- الذي تمَّ شراؤه من قبل السادة المراغنة بعد عملية التجديد التي طالت الحرم المدني تبركاً بالأثر النبوي الشريف في تشييد المسجد. وراح ضحية ذلك أعداد كبيرة من أهالي كسلا وحتى السيد البكري بن السيد جعفر الصادق الميرغني بن الإمام الختم -رضي الله عن الجميع- لم يسلم من غدر الثوار برغم المواثيق والعهود التي أبرمها معهم لتجنيب المدينة وأهلها هذا الواقع، وذلك حين خرج إليهم السيد البكري ومعه عدد قليل من الحلفاء والمحبين للتفاوض فإذا به يتفاجأ بقتالٍ ضارٍ وفي حرب غير متكافئة بين الطرفين قتل فيها مرافقوه وجرحت قدمه الشريفة جرحاً غائراً تسببت في انتقاله إلى الرفيق الأعلى في مكةالمكرمة بعد أن نُقل إليها عن طريق سواكن، وكان في رفقته الناظر أب سن وآخرون. وفي هذا المقام نشير على أن الروايات المنقولة عن بعض صالحي ذاك الزمان تؤكد أن بناء ما تهدم يتمُّ على يد السيد عثمان الميرغني الحالي وفيه إشارات ودلالات خفية نمسك عنها في هذا المقام. لم تقف تداعيات الأحداث عند هذا الحد، بل تمَّ التضييق على السادة المراغنة حتى هاجروا إلى خارج البلاد وبقي السيد محمد عثمان تاج السر بن السيد محمد سر الختم بن الإمام الختم يقوم بأعباء الطريقة الختمية في السودان من سنكات،وهو أحد العلماء الصلحاء والشعراء المجيدين في مدح جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو زوج الشريفة مريم الميرغنية التي سارت بذكرها الركبان وكانت تتولى فضُّ المنازعات وإصلاح ذات البين وإزالة الضغائن بين الأفراد وبين القبائل،وإشتهرت في الشرق بلقب»باقد بيست» وتعني باللسان البجاوي»من لاتكسر الخواطر قط». ومن المعروف أن السيد محمد عثمان تاج الميرغني-رضي الله عنه- كان المعين الصافي لتلقي العلم الشرعي لعدد من الأقطاب على رأسهم السيد علي الميرغني، الذي اتجه شمالاً آنذاك إلى مصر برفقة عمه السيد محمد سرالختم للالتحاق بجامعة الأزهر الشريف،ولم يكتفِ بعلومها فحسب بل ظل ينهل من معين عمه السيد محمد سرالختم الذي جلس للتدريس في الحرم المكي وعمره لم يتجاوز الأربعة عشر عاماً. وذُكر أن شيخ الأزهر الشريف قال للسيد إسماعيل بن السيد محمد سرالختم «يا ابني أتدري لماذا تجمَّع الناس هكذا في وفاة والدك؟ ألأنه شريف، كلا في مصر عددٌ لا يحصى من الأشراف ولكن كان والدك عالماً لايشق له غبار». إنَّ هذا العلم الغزير والحكمة التي عُرف بها السيد علي الميرغني-قدس الله سره- كان مرده إلى السيدين اللذين تعهداه بالرعاية والاهتمام لما ينتظره من مهام عظيمة اتضحت فيما بعد من خلال قيادته للحركة الوطنية حتى نال السودان استقلاله. ومن المعلوم أن المسألة التي قادت إلى تلك الأحداث التي ذكرناها آنفاً كانت تتعلق بحقيقة المهدي المنتظر الذي يظهر آخر الزمان والذي يبايع بين زمزم والمقام وله علامات منها ظهور الدابة ونزول عيسى عليه السلام وظهور الشمس من مغربها وغيرها مماورد في كتب السنة النبوية وكان هذا هو رأي السيد محمد عثمان الأقرب من خلال المراسلات التي تمت بين الطرفين وما ذهب إليه علماء زمانه ولكن الإمام المهدي أصرًّ على أن يذهب في هذا الاتجاه قدماً برغم تحذيرات شيخه الأستاذ محمد شريف نورالدائم، ويبدو أن الفكرة اختمرت في رأسه من خلال مناقشات علماء الأزهري في مجالس شيخه حول ضرورة إقامة الخلافة الإسلامية فأراد أن تتحقق دولة الخلافة على يديه باعتياره المهدي المنتظر. ولكن الإمام المهدي قد أدرك هذه الحقيقة حيث ذكر الشيخ أحمد حامد في كتابه» السيد الحسن إمام العارفين» قوله:»وخلاصة الأمر أن المهدي أقرَّ أن المسألة كانت سوء فهم كما تنبأ بذلك السيد الحسن وطلب الخلاص مما فعل فأخبره الحسين الزهراء بأن توبته ان يقف في المسجد ويحل الناس من بيعته قال له: أنا لا استطيع، قال: تحمل على سريرك فاعترض الخليفة وثار اللغط وبعدها بفترة وجيزة مات المهدي، وهذه الرواية سمعتها من والدي عن بعض الاشراف من الدناقلة»، ورغم تعدد الروايات حول أسباب وفاته إلا أن الرواية الصحيحة تؤكد أنه دعا ربَّه للانتقال إلى الدار الآخرة بعد أن تبين له الأمر وبعد أن سالت دماء كثيرة في سبيل هذه الدعوة. تلك أمة سلفت ولايقدح فيما جرى أن الإمام المهدي كان صالحاً تقياً وله أجر الاجتهاد لإقامة دولة إسلامية تقوم على الشريعة الغراء وشهد شيخه الأستاذ محمد الشريف نورالدائم بصلاحه ولكن اعتراضه كان على الفكرة والمنهج الذي سلكه في قصيدته التي يقول في بعض أبياتها: وكم بوضيء الليل كبَّر للضحى وكم ختم القرآن في سنة الوترِ وقال أنا المهدي فقلت له: استقم فهذا مقام في الطرق لمَنْ يدرِ ولاريب أن مبدأ تصدير الثورة وحمل الناس على رأي آحادي حتى في المسائل الخلافية هو الذي أدى إلى انحسار الدور الرسالي للطرق الصوفية وتعطيل العمل بالمذاهب الفقهية السائدة في العالم الإسلامي في ذاك العهد، وتذكر بعض الآثار الصحيحة أن الخليفة أبي جعفر المنصور بعد الحوار الذي تم بينه وبين إمام دار الهجرة الإمام مالك في المسجد النبوي الشريف أمره الخليفة أن يوطيء كتاباً يتعبد به الناس ولكن الإمام مالك رفض أن يحمل الأمة على مذهب واحد وبخاصة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى، فالاختلاف بين الفقهاء رحمة، ويقصد به مسائل الفروع وليست الأصول لأنها قطعية الدلالة. نعود ونقول إن هذه النظرة الآحادية بدورها أدت إلى ظهور النعرات القبلية وهي القشة التي قصمت ظهر البعير، ممَّا عجَّل بانهيار الثورة المهدية. ولهذا نرى أن القراءة التأملية من قيادات السلطة في تاريخ السودان تُعْدُّ وقفة للاعتبار من قصصه ووقائع أيامه، وكما قيل:العاقل من اتعظ بغيره!!. ونعلم يقيناً أن السادة المراغنة لايحبذون إلا الخوض فيما يجمع الناس ويوحد كلمتهم، ولكن قصدنا من ذلك تبرئة التاريخ من بعض الروايات المنقولة بصورة لاتمت للحقيقة بصلة ولذلك حاولنا تجلية الأمر بصورة لاتحدث شرخاً ولا تنكأُ جرحاً. وقد تجاوز السيد علي الميرغني والسيد عبدالرحمن تلك الأحداث من خلال العمل الوطني المشترك إبان فترة الإستعمار الأجنبي للبلاد، وذكر لشخصي الضعيف الخليفة عبدالله محمد إبراهيم أنه»قد اشتهر عن الإمام السيد عبدالرحمن المهدي رضي الله عنه حينما كانت الشريفة مريم بمصر للاستشفاء -إرسال برقية في صباح كلِّ يومٍ وبصيغة واحدة لاتتغير يقول فيها:»طمئنونا على صحة ست السودان»،وصادف وصول إحدى البرقيات في حضور الخليفة عيسى جيلاني أحد خلفاء الطريقة الختمية في الشرق-المرافقين لها- ليبشر الشريفة مريم بوصول برقية من السودان تفيد بأنه قد رزق مولوداً، وتيمناً ببرقيات السيد عبدالرحمن حمل المولود اسم عبد الرحمن عندما استشارها الخليفة. وعلى نهج السيد علي الميرغني -أبوالوطنية- سار مولانا وظل يؤكد في الشأن الوطني على أنه يجب أن «نسعى لدرء المخاطر والتدخلات الأجنبية في الوطن، وأهل السودان والقيادات السياسية المختلفة يمكن أن يختلفوا فيما بينهم ولكن أن يتسبب هذا في الإضرار بالوطن والمواطن فلا». هذا الموروث مازال يشكل ملامح الحاضر ويرسم طريقاً جديداً إلى مستقبل البلاد على أيدي أئمة آل البيت النبوي -السادة المراغنة- وعلى رأسهم السيد محمد عثمان الميرغني مرشد الطريقة الختمية ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي باعتباره رجل المرحلة وصاحب الوقت بلغة أهل القوم، وكثيراً ما يشير السادة المراغنة إلى السمات التي يتصف بها السيد محمد عثمان الميرغني وقلَّما تجتمع في رجلٍ ويكفي استدلالاً على هذا الأمر حديث السيد تاج السر بن السيد محمد سرالختم الميرغني في كلمته التي ألقاها إبان زيارته إلى سنار بتاريخ 13/2/2010م بدعوة كريمة من الخليفة محمد سيد أحمد حين قال «إن مولانا السيد محمد عثمان الميرغني حفظه الله وأيده بنصره، هو أبي وقدوتي ومرشدي وهو قمرنا الذي يضيء لنا الطريق وكبيرنا الذي نحتكم إليه ونأتمر بأمره، وهو بين الناس بطلاً وبين الأبطال مثلاً، نسأل الله أن يمدَّ لنا في عمره وينفع به البلاد والعباد». وظل مولانا وفياً لمبادئه التي نذر نفسه من أجلها ولهذا كان همَّه الشاغل هو السودان ومواطنه دون اعتبار لمكاسب سياسية أوشخصية،فكان ومايزال السند الخفي وراء كل خطوة لدفع العملية السلمية في السودان وإزالة المعوقات التي تعترض مسارها، وقد أشار في خطابه إلى مساعيه لتحقيق السلام في ربوع البلاد المختلفة، بدءاً من مبادرة السلام السودانية»اتفاقية الميرغني-قرنق»، والاتفاقيات الأخرى التي تم توقيعها في نيفاشا وأبوجا وتوقيعه لاتفاق القاهرة في 18يونيو 2005م بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي، واتفاق الشرق ولم تنقطع اتصالاته مع الأطراف والفصائل المعنية بقضية دارفور للتوصل لحل نهائي وشامل يرتضيه الجميع، وهناك دائرة خاصة في الحزب تعني بهذا الملف. ولكي نضع هذه المواقف بصورة واضحة أمام القاريء علينا أن نتحدث عن اتفاقية الشرق -تحديداً- توافقاً مع الزيارة، فحينما تأزمت الأمور في شرق السودان يأتي وفد رفيع المستوى إلى السيد محمد عثمان الميرغني من القيادة الإريترية بقيادة الأستاذ الأمين محمد سعيد وقيادات من التجمع والحزب الاتحادي إلى دار مولانا بأسمرا الذي استأجره من أحد خلفاء الطريقة الختمية في اريتريا -أي غير ممنوحة من أحد- فيقول لهم صاحب السيادة:»أهلنا في شرق السودان وغرب إريتريا الروح السائدة الآن قد أضرَّت بهم هنا وهناك، في غرب إريتريا وشرق السودان وأرى التطبيع هو الحل». وفي ذاك الوقت كانت الحرب مستعرة بين الخرطوم وأسمرا ولكن رؤية مولانا وهدفه ألا نختلف فيما ينفع الناس. وبعد ذلك استأذن الوفد الاريتري للذهاب فقال لهم مولانا يبدو أنكم أتيتم لأمر مهم،فأجاب رئيس الوفد: لقد حسمت ما نحن بصدده. وحقاً كما يقال: من رأى يعلم والسوى محجوب ومضى مولانا قدماً في هذا الأمر فاتصل من أسمرا بالمشير عمر البشير وذكر له مولانا أن الأوضاع لا يمكن أن تستقر في الشرق إلا بحدوث تقارب بين أسمرا والخرطوم، وطلب منه أن يتدخل في هذا الأمر، فقال له البشير «أنا موافق على هذا الكلام لكن لابصفتك رئيساً للتجمع الوطني الديمقراطي ولا بصفتك رئيساً للحزب الاتحادي الديمقراطي ولكن بصفتك مرشداً للطريقة الختمية، والختمية هنا وهناك». وبعد نجاح مساعيه المباركة والتي أثمرت بتوقيع اتفاق الشرق في أسمرا في 14اكتوبر2006م، وعقب مراسم التوقيع مباشرة، وفي جلسة خماسية ضمت مولانا والمشير عمر البشير وسلفاكير من الجانب السوداني والرئيس أسياسي أفورقي والأستاذ الأمين محمد سعيد من الجانب الاريتري، فإذا المشير عمر البشير يلتفت إلى مولانا وإلى الجميع ويقول»أهو مرشد الختمية قام بواجبه وثمرته هذا الاجتماع»، ثم يهز سلفاكير النائب الأول ب»عصا» كان يحملها تأكيداً لقول البشير،وجاء الدور على الأستاذ الأمين محمد سعيد الأمين العام للجبهة الشعبية للعدالة والديموقراطية الإريتري فيقول وعلامات الرِّضى تبدو على محيَّاه:المهمة التاريخية المزدوجة أدت مهمتها» في إشارة إلى دور الطريقة الختمية في القطرين. وهذه دروس مجانية في مبدأ الوطنية دون غرض أو أجندة شخصية وكما ذكر مولانا في مدينة حلفا»فعلنا كل ذلك وممتلكاتنا مصادرة من قبل الحكومة لكننا لانخلط القضايا العامة بالحزازات ولانحمل الحقد والضغائن بل نسير بنهج الحكمة بلا حقد ولا كراهية وذلك ابتغاء لمرضاة الله ولكسب الأجر». وقد كانت زيارة صاحب السيادة إلى مقام السيد إبراهم بن السيد عبدالله المحجوب الميرغني وقفة أمام معلم يجسِّد الارتباط الوثيق بين أهالي حلفا والسادة المراغنة عندما جاء نفر كريم من مدينة حلفا يشتكون من معضلة حلَّت بالمنطقة فأرسل معهم ابنه السيد إبراهيم فعاش بينهم ودفن في ترابهم،وتذكر روايات الوفد الذي نقل الجثمان الطاهر إلى حلفاالجديدة أنه وجد بكامل هيأته لم يتغير شيء، وهذه من نعم الله سبحانه وتعالى على أوليائه في حياتهم ومماتهم. ونذكر في ختام هذا المقال أنه مما لاشكَّ فيه أن نهج الحكمة والتناصح الذي يجسِّد علاقة مولانا مع الكيانات الدينية والقيادات السياسية كان ومازال هو مفتاح الحلَّ للقضايا التي تؤرق مضاجع الوطن إذا تجرد الجميع من الهواجس النفسية والمكاسب الآنية. والحق أبلج والباطل لجلج ومن أراد أن يذهب إلى لجلج فاتركوه!.