بعد أن كانت واقعاً معاشاً تحولت الى ماض يُحكى وذكريات مشحونة بالشجن تسرد لتضحى على أثر ما لحق بها صفحة من الماضي وأثراً بعد عين، وبعد أن كانت تضج محالجها ومزارعها ومصانعها بالحركة وتسهم اجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً، غابت الشمس عنها لتتوارى بعيداً مخلفة وراءها الحسرة، ومؤسسة جبال النوبة بولاية جنوب كردفان التي جرفتها رياح الخصخصة الهوجاء لم تكن معنية بزراعة الاقطان حسب ما خطط لذلك الانجليز، بل كانت تلعب أدواراً كبيرة في الاستقرار بالمنطقة، ورغم خصخصتها قبل عقد ويزيد ورغم تكوين هيئة جبال النوبة في عام 2004?اعترافاً من الدولة بخطأ خصخصة المؤسسة، مازالت الضبابية تحيط بهذا الملف، وأسئلة على شاكلة هل كانت هناك أجندة سياسية وراء خصخصتها؟ وأين ذهبت اصولها المتمثلة في 101 منزل واكثر من 300 جرار وتسعة محالج، وغيرها من آليات ومكاتب؟ ولماذا لم يتم إدراج الهيئة ضمن المشاريع الرائدة؟ وهل تستطيع زراعة 15 مليون فدان صالحة لزراعة القطن؟ وماذا جنت البلاد والولاية من ذهاب المؤسسة؟ وغيرها من الأسئلة التي مازال مواطنو الولاية يرددونها. أوراق التاريخ تشير الى ان مؤسسة جبال النوبة كانت أحد اعرق واكبر المشروعات الزراعية في السودان، وكثيرة هي الأهداف التي كان الإنجليز يرمون لتحقيقها من وراء إنشاء المؤسسة في عام 1924م، فغير تغذية المصانع الإنجليزية بالأقطان الجيدة التي اشتهرت بها المنطقة الغنية بالأمطار والأراضي الخصبة، كانوا يهدفون إلى انتشال المنطقة من التخلف الى الحداثة عبر محصول نقدي يعود بمقابل جيد للمزارعين يسهم في ترقية حياتهم ومعاشهم، عطفاً على إدخال الرحل ضمن دائرة الانتاج وترغيبهم ليستوطنوا في المنطقة، وفى سنة 1927م تم إنشاء أول ثلا?ة محالج فى كل من كادوقلى، تلودي، لقاوة، وكانت تعمل بمحركات احتراق خارجي كان وقودها بذرة القطن نفسها التى بعد فرزها من القطن الشعرة يتم تعبئة الأخير فى بالات التصدير الى بريطانيا، وتستخدم البذرة وقوداً يحترق لإدارة ماكينات الحليج، وقد تم تغيير المحركات الى محركات احتراق داخلى في عام 1958م، وبدأت المحالج في لعب دورها غير المباشر فى فك عزلة المنطقة وادخالها في دائرة التنمية والتعايش والانسجام، ولتصبح محور الالتقاء وبوتقة الانصهار، وفى عام 1939م تم إنشاء «التفاتيش» الزراعية تحت إدارة مدير المديرية بجنوب كردفان? واستمر العمل حتى تم إنشاء مؤسسة جبال النوبة الزراعية فى عام 1967 التى أدخلت فى 1970 برنامج تحديث الزراعة التقليدية، وأدخلت الجرارات الزراعية الحديثة فى جبال النوبة، وتم قبل ذلك إكمال المحالج الى تسعة، حيث تم انشاء محالج في كل من: كالوقى، الدلنج، أبو جبيهة، أمبرمبيطة، السميح والعباسية، وشهدت منطقة جنوب كردفان نهضة زراعية، وتم تحديث الاقتصاد الريفى، وحدثت هجرات للنوبة من سفوح الجبال الى الوديان، وحدث استقرار جزئى للرحل، ومازال كبار السن من قبيلة البقارة يتحدثون لأجيالهم عن سنة «خمى»، حيث أن كثيرين منهم ونت?جة للأموال التى جنوها من القطن أضافوا لقطعانهم من الأبقار الكثير، بل أن كثيراً منهم كانوا فقراء من ناحية امتلاكهم للأبقار، أى لم يكن فى استطاعتهم أن يكونوا سيارة «رحل» واستطاعوا بفضل زراعة القطن أن يصيروا من الرحل ويتركوا الاستقرار!! وهذا ما لاحظه بعض المسؤولين الانجليز، حيث أنه بدلاً من أن تساعد زراعة القطن فى دفع الرحل نحو الزراعة والاستقرار فإن بعضهم زرعوا القطن واشتروا بأموالهم منه المزيد من الأبقار واستمروا فى حياتهم فى الترحال!! وكما قال الدكتور حامد البشير إبراهيم فى مرافعته «لصالح الحقيقة والعدالة والوحدة» التى نشرها فى صحيفة «السودانى»، تعتبر مؤسسة جبال النوبة بمحالجها الباعث الأول للنهضة الزراعية فى ذلك الجزء من الوطن، وساهمت بفعالية فى تحديث الاقتصاديات الريفية واستقرار الرحل وهجرة المجموعات النوبية إلى الوديان وتمدد الاقتصاد النقدى وزيادة الاستهلاك ونمو المدن وفتح الطرق وترابط المجتمعات وزيادة وتيرة التداخل والتودد الاثني، وغيرها من بواعث واشراقات التنمية والنهوض الريفى والمجتمعى، وكانت بمثابة الرابط والضامن للنسيج الاجتماعي?بالمنطقة. وبعد أن وصلت آليات المؤسسة إلى أرقام كبيرة وتوسعت أصولها ومساحتها المزروعة وارتفع دخلها وتعاظم أثرها في المنطقة وأسهمت في الاستقرار وتوفير مصدر دخل، جاءت الدولة في عام 1991م لترفع يدها وتقوم بخصخصة المؤسسة، وهو الأمر الذي ادى الى تشريد اكثر من سبعة آلاف عامل، وتأثر أربعون الف مزارع، لتأتي أخيرا وتعترف بطريقة غير مباشرة بخطأ خصخصة المؤسسة، وتصدر قراراً في ابريل 2004م يقضي بتكوين هيئة جبال النوبة الزراعية ذات الشخصية المستقلة عن الدولة، أو هكذا أردات السلطات التي منحت الهيئة صلاحيات واسعة ولكن حرمتها من التم?يل، وهو الأمر الذي وصفه مدير هيئة جبال النوبة السر عبد الرحيم توتو بالعقبة الكبيرة التي تقف في طريق تحقيق اهداف الهيئة التي وصفها بأنها أكبر من تلك التي كانت تنفذها المؤسسة، مشيراً إلى أنهم كانوا يهدفون الى تحقيق التنمية المستدامة عبر ترقية القطاعات الزراعية والنباتية والحيوانية، وتأهيل البنيات التحتية، والكثير من الأهداف الاقتصادية والاجتاعية، وقال إن الدولة منحت الهيئة صلاحيات واسعة، ولكن لم تستطع منذ عام 2004م تحقيق أهدافها نسبة لضعف إمكانياتها التي اعتمدت على أصول مؤسسة جبال النوبة الزراعية بولاية جنو? كردفان، بالاضافة الى القروض، وأشار إلى أنه رغم تسجيل الأصول باسم الهيئة منذ عام 2004 إلا أن حكومة الولاية لم تقم بتسليم المنازل والمكاتب وغيرها من مبانٍ لظروف اوضحتها كانت وزارة المالية الاتحادية ترى ضرورة استغلالها لتوفير رأس مال للهيئة، وكشف عن بيع الجرارات التي يربو عددها على ال 300 في مزاد، مشيراً الى ان الهيئة تملك عشرين فقط لا تكفي للعمل في تفتيش واحد، وأوضح أن الهيئة تواجه معاناة حقيقية في توفير الفصل الاول والتسيير، وقال إن هذا يعني عدم امتلاكها المال الذي يساعدها في تأهيل البنية التحتية للمشاريع?الزراعية، وأشار الى أنهم يبذلون جهوداً مقدرة لادخال الهيئة ضمن منظومة المشاريع الرائدة التي ترعاها الدولة وتوجه لها المال، وذلك حتى ينجحوا في تأهيل البنية التحتية، وطالب بدعم الهيئة لخمس سنوات فقط، ونفى بيع المحالج، وقال إن هناك تفاهمات تمت مع شركة الأقطان توصلت الى حلول حول المحالج، وكشف عن استهدافهم تأهيل 83 مشروعاً زراعياً يستفيد منه 40 الف مزارع في مساحة تتجاوز ال 270 الف فدان، وقال إن الهيئة وقعت شراكات مع عدد من الجهات منها شركة صينية بدأت في العمل بالولاية لاستزراع 30 الف فدان، ولكن الحرب الاخيرة أ?قفت عملها، وقال إن المرحلة القادمة سوف تشهد تحركات كبيرة من جانب الهيئة لتوفير التمويل واقناع الدولة بضرورة ادراج الهيئة ضمن المشاريع الرائدة، وناشد حكومة الولاية العمل على توفير الدعم السياسي للهيئة. ويشير المهتم بشؤون ولاية جنوب كردفان الدكتور صديق تاور إلى أن مؤسسة جبال النوبة الزراعية كانت تضطلع بأدوار كبيرة في شتى مناحي الحياة، ونفى أن تكون خصخصتها نتاجاً لخسارتها، وقال إنها كانت ناجحة اقتصادياً، مشيراً إلى مساهماتها الاجتماعية والإنسانية ودعم المدارس والخدمات بالولاية، وقال إنها كانت توفر فرص عمل لأعداد كبيرة من مواطني الولاية وتقوم بصيانة وتأهيل الطرق وغيرها من خدمات كانت تقدمها، عطفاً على مساهمتها في تحريك عجلة اقتصاد الولاية، وقال إنها تعتبر من أبرز العوامل التي كانت تسهم في تقوية النسيج الاجتم?عي بالولاية، وتحسر تاور على ذهاب أيامها، مطالباً بتصحيح خطأ خصخصتها عبر الاهتمام بهيئة جبال النوبة الزراعية. في أبريل 2004م صدر قرار رئيس الجمهورية بإنشاء هيئة جبال النوبة الزراعية، وتم تعيين مجلس إدارتها وأجيز أمر تأسيسها. ولكنها لم تنهض بدورها لعدم حصولها على الدعم الكافي. ومازالت الأصول التي تركتها المؤسسة ضائعة، وبعض منها تتنازعه عدة جهات، والأرض أصابها البوار، ومنسوبوها لاذوا بالفرار إلى العواصم والمدن الكبيرة بلا متاع تاركين ديارهم للضياع.