ظل رئيس الجمهورية باعتباره حاجب السلطة التنفيذية «الحكومة» بواسطة «حزبه الحاكم» يدعو القوى السياسية الى المشاركة في الحكم، في حكومة ذات قاعدة عريضة حيث قرر ان يتفضل بمقاعد لها في السلطة التنفذية بشقيها الاتحادي الولائي، ولم يحدد سببا لهذه المنحة او هذا التفضل، غير انه قال ان البلاد، في حاجة لوحدة لمواجهة المخاطر الخارجية، وان البلاد مستهدفة بسبب مواردها الاقتصادية، كما ان انفصال الجنوب جعل السودان بشكله وهويته الجديدة، في حاجة للترابط وتضامن قواه السياسية، وعليها ان تترك خلافاتها القديمة، فقد اصبح السودان?امة واحدة ذات هوية واحدة «إسلامية عربية»، ومن ثم لا بد من حكومة موحدة للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية ومجابهة الاستهداف الخارجي، حكومة ذات قاعدة عريضة. والمقصود حقيقة من تلك الدعوة هو استيعاب القوى السياسية داخل حكومة حزب الحاكم المؤتمر الوطني، غير أن هذه الدعوة التي تقادم عليها العهد لم تجد الاستجابة المطلوبة، ولما اصبح الامر هكذا دون استجابة ولاقت رفضاً من معظم القوى السياسية، اقتصرت الدعوة على أحزاب اهل القبلة دون غيرهم، حيث رفضت بعض القوى السياسية مقولة المؤتمر الوطني بأن الهوية اصبحت عربية اسلامية بعد الانفصال. وكان فهم المؤتمر الوطني بشأن الهوية العربية الاسلامية لا يدخله في خلاف مع احزاب اهل القبلة، فرأى اقتصار الامر عليهم، حيث ان توجهات احزاب اهل ?لقبلة اسلامية عربية، فهذا فهم غير صحيح، حيث ان احزاب اهل القبلة التي يعنيها المؤتمر الوطني لا توافقه فهمه للهوية التي يعنيها. والواضح ان المؤتمر الوطني يخلط دائما بين الحكومة والدولة والهوية، فلا يضع اعتبارا بأن الدولة غير الحكومة، وان مهمتها، أي الدولة، هي المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه، كما ان الوضع الطبيعي هو ان الدولة بحكم طبيعتها يجب ان تعكس أهداف ومصالح وطموحات مختلف القوى والتكوينات الاجتماعية، ويعتبر ذلك احد المقومات الرئيسية لشرعية الحكومة في الدولة المعنية، لا أن تقسم شعبها لاهل القبلة او غير?، لأن هذا يعني تفتيتاً للوحدة التي تعنيها الدولة قبل الحكومة. صحيح أنه ليس من السهل التمييز بين ما للحكومة أو ما للدولة، غير ان السلطة هي التي تبني الدولة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فالدولة توجد قبل السلطة، وفهم المؤتمر الوطني بهذا الشأن اقرب الى الفهم الساذج الذي يقول بأن الاقتصاد هو الذي يبني الدولة، والعكس هو الصحيح، فإن الدولة هي التي تبني الاقتصاد. ونستطيع القول إن السودان السابق والحالي لم تستكمل فيه مقومات الدولة لأسباب كثيرة عناها الاستعمار، ولكن يجب علينا ان نتجاوز هذه المحنة بالديمقراطية وقبول الآخر وعدم التميز بين اهل القبلة وغيرهم، لذلك يقع على عاتق الحكومة عن أي طريق اتت ان تعمل على المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه حتى لا تقع فريسة للحروب الاهلية كما هو الحال في سوداننا الجديد، لان الامر اذا استمر على ما هو عليه الحال الآن فإننا سوف نصل الى حد انهيار الدولة وتفككها كما هو الحال في الصومال. ان دعوة المؤتمر الوطني لحكومة ذات قاعدة عريضة ليست دعوة صادقة بمشاركة الآخرين له ادارة الدولة، ففي النظام الرئاسي فإن رئيس الجمهورية هو صاحب السلطة المطلقة وصاحب القرار، فمشاركة الآخرين له «وإن صدقت» في رئاسة الدولة من مساعدين ومستشارين وكذلك المشاركة في مجلس الوزراء او الحكومة الولائية هي مشاركة شكلية لا قيمة لها، فالأمر في النهاية لرئيس الجمهورية في رئاسة الجمهورية وفي مجلس الوزراء، فمجلس الوزراء هو مجلس للمداولة وتقديم التقارير بشأن تنفيذ توجيهات رئيس الجمهورية، وكذلك الحال في حكومة الولاية بالنسبة للوا?ي. وسبق أن قلت إن مجلس الوزراء ليس مجلساً بالمعني المعروف في النظام الرئاسي، فهم بالكثير «سكرتارية» تساعد الرئيس في تنفيذ مهامه، ولا يستطيع مجلس الوزراء الاجتماع بدون الرئيس او من يفوضه، ولا يستطيع هذا المجلس اتخاذ قرار او امر دون موافقة الرئيس ولو اجتمعوا، كما انه ليس من حقه الدعوة للتصويت حتي عند الاختلاف اثناء التداول، وهذا ما شهدناه طيلة فترة «الحكم الرئاسي هذا»، فالأمر في النهاية بيد الرئيس بحكم الدستور، حيث يمنحه كافة السلطات والصلاحيات، وليس هذا الامر بدعة ابتدعها دستور الفترة الانتقالية لسنة 2005م، ?انما هو أمر متعارف عليه في الدساتير التي تقرُّ النظام الرئاسي، حيث ان النظام الرئاسي هو نوع من أنظمة الحكم يضع الهيئة التنفيذية بيد رئيس الدولة، وهو رئيس الصفوة الحاكمة تعاونه مجموعة وزراء يعدون بمثابة مستشارين وأحياناً يطلق عليهم اسم سكرتارية كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية وغيرها، ويكون رئيس الدولة هو رئيس الحكومة في الوقت نفسه، ويكون غير مسؤول سياسياً أمام السلطة التشريعية، ويختار رئيس الدولة «الحكومة» من قبل الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر سواء من حزبه او من غيره، وهذا الأمر هو واحد من أب?ز العيوب الأساسية في النظام الرئاسي تليه العيوب الآتية: 1 إن تطبيق هذا النظام الذي يقوم على الفصل بين السلطات غير ممكن لأنه يشابه الفصل بين أجزاء الجسم البشري، لان الاتصال بين السلطات الثلاث اتصال عضوي. 2 إنه يلغي مبدأ المسؤولية السياسية، مما يعني إمكانية التهرب من المسؤولية وصعوبة معرفة المسؤول الحقيقي عن الخطأ، حيث أن المسؤولية تقع على عاتق الرئيس دون فاعلها الأصلي. 3 يؤدي لاستبداد السلطة التنفيذية وهيمنة الرئيس سياسياً ودستورياً في الحياة الوطنية، وإعادة انتخابه لأكثر من مرة، وهذا ما هو ملحوظ في دول العالم الثالث والعالم العربي والسودان، ويؤدي ايضا في النهاية الى ما يسمى الربيع العربي غير مضمون النتائج القائم الآن. 4 يذكر بعض المفكرين العرب أن الأنظمة العربية وبشكل عام هي نظم محافظة، وهي على النقيض من النصوص الدستورية والقانونية لا تسمح بتغيير قمة النظام السياسي والهياكل الأساسية بنحو سلمي واستجابةً لمطالب الرأي العام، بل إن الأدهى من ذلك إنه ليس هناك تغير لأي نظام سياسي عربي قد تم بصورة سلمية ومن خلال عملية ديمقراطية سلمية، وإنما يكون التغيير إما عن طريق العنف المسلح أو الوفاة الطبيعية. ولذلك فالنظام الرئاسي يزيد من الغطاء الدستوري والقانوني للاستبداد بالسلطة والديكتاتورية. وحتى لا نطلق الحديث هكذا دون دليل بالنسبة لسوء النظام الرئاسي، فإنني أورد نص المادة «58» من الدستور كما هي دون تعدل لأنها قائمة كهذا الى يومنا هذا، وهي تقرأ: «1» رئيس الجمهورية هو رأس الدولة والحكومة ويمثل إرادة الشعب وسلطان الدولة، وله في ذلك ممارسة الاختصاصات التي يمنحها هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل، ومع عدم الإخلال بعموم ما تقدم يتولى المهام التالية: «أ» يصون أمن البلاد ويحمي سلامتها. «ب» يشرف على المؤسسات الدستورية التنفيذية ويقدم نموذجاً للقيادة في الحياة العامة. «ج» يعين شاغلي المناصب الدستورية والقضائية وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون. «د» يرأس مجلس الوزراء القومي. «ه» يدعو الهيئة التشريعية القومية للانعقاد أو يؤجل انعقادها أو ينهي دورتها. «و» يعلن الحرب وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون. «ز» يعلن وينهي حالة الطوارئ وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون. «ح» يبتدر التعديلات الدستورية والتشريعات ويصادق على القوانين. «ط» يصادق على أحكام الإعدام ويمنح العفو ويرفع الإدانة ويخفف العقوبة وفقاً لنصوص هذا للدستور والقانون القومي. «ى» يمثل الدولة في علاقاتها الخارجية ويعين سفراء الدولة ويعتمد السفراء الأجانب. «ك» يوجه السياسة الخارجية للدولة ويشرف عليها ويصادق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بموافقة الهيئة التشريعية القومية. «ل» ينشد رأي المحكمة الدستورية في أية مسألة تنشأ حول الدستور. «م» أية مهام أخرى يحددها هذا الدستور أو القانون. «2» دون إخلال بما جاء في أحكام البند «1» يصدر رئيس الجمهورية قراراته بموافقة النائب الأول بشأن المسائل التالية: «أ» إعلان حالة الطوارئ وإنهائها. «ب» إعلان الحرب. «ج» التعيينات التي يجريها رئيس الجمهورية حسبما وردت في الملحق «ب» «1» من اتفاقية السلام الشامل. «د» دعوة الهيئة التشريعية القومية للانعقاد أو تأجيل انعقادها أو إنهاء دورتها. ومن هنا يتضح أن السلطة التشريعية لا سلطان لها على رئيس الجمهورية ولا على وزرائه، فلا يستطيع المجلس الوطني سؤاله غير انه يستطيع سؤال وزرائه، «وهذا يتم نادراً» ولكن ليست له للمجلس سلطة عزل الوزراء أو محاسبتهم. المؤتمر الوطني يسعى لاكتساب شرعية بدعوته لحكومة القاعدة العريضة لتقاسمه الهم الوطني«على حسب رأيه وبرنامجه»، لهذا رفض مبدأ برنامج وطني يلتزم رئيس الجمهورية بتنفيذه من خلال تلك الحكومة، لأن هذا هو الحل الوحيد الذي يمكن الغير من المشاركة الفاعلة حتى لا ينفرد رئيس الجمهورية بالرأي وفصل الخطاب، وللحيلولة دون هذا الالتزام يتحدث المؤتمر الوطني الآن عن اتفاق مع بعض القوى السياسية وليس برنامجاً، والاتفاق خلاف البرنامج، فالاتفاق لا يكون ملزماً إذا تعارض مع البرنامج، لأن البرنامج هو الاصل، أما الاتفاق فهو تسوية سياس?ة، وهذا ما تم بشأن «اتفاق القاهرة» الذي لم ير النور بعد، ولهذا ولغيره رفضت القوى السياسية دعوة للمشاركة عدا الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل الذي وافق على المشاركة لاعتبارات لا تقرها جماهيره، ومن ثم فإن مشاركة الحزب الاتحادي الديمقراطي هي مشاركة قمة وقيادة، اما القاعدة فلا تقر بتلك المشاركة، وكان هدف المؤتمر الوطني هو مشاركة عريضة، أي مشاركة الجماهير الاتحادية لا النخبة او القيادة، لأن المؤتمر الوطني يعلم علم اليقين أن قاعدته بصفته حزباً ليست عريضة، لذا ظل يدعو حتى بحَّ صوته فلم يجد استجابة الا من قيادة ال?زب الاتحادي الديمقراطي الاصل دون قاعدته، فهذه المشاركة هي مشاركة لم يقصدها المؤتمر الوطني. والمؤتمر الوطني يعلم ان جماهيره هي جماهير غير حقيقية، أشبه بجماهير الاتحادي الاشتراكي في السابق، فعندما يجد الجد فإنه لن يجد حوله من الجماهير الا الإخوان المسلمين وبعض من الجماعة الإسلامية، اما البقية فسوف ينفضون من حوله ويتركونه قائماً، ومن ثم يلتفت فلا يجد جماهير الاتحادي الديمقراطي الأصل لأنها غير راضية بتلك المشاركة التي قررتها قيادته، وسيكتشف حينها انه لا جماهير له، وان عضويته هي عضوية ورقية لا تمارس أي عمل سياسي وليست مستعدة لتقديم أية تضحية من اجل المؤتمر الوطني، وسوف يكتشف أيضاً أن مشاركة الاتحاد? الديمقراطي الأصل هي والعدم سواء، وإنها مشاركة قمة لا تقدم ولا تؤخر، وان هدفه من توحيد الجبهة الداخلية واستيعاب القوى السياسية المعتبرة لم يتحقق. صحيح أن أعضاء الحزب جميعاً ملتزمون بمقررات هيئاته القيادية في كل ما يطرح على الجماهير، ولكن يبقى هذا صحيحاً متى كانت تلك القرارات صادرة بعد مناقشات صريحة وعبر الاختلافات في وجهات النظر، كذلك يتعين أن تتفادى الهيئات القيادية التصدي لأمور لا تعني جماهيرها من اجل مصالح غير معروفة ومخالفة لمبادئ الحزب او مواقفه المبدئية، ففشل الحزب في إقناع جماهيره وإصرار على تنفيذ مقررات هيئاته القيادية تصبح مقرراته هذه فوقية، ويصعب عليه تنفيذ تلك القرارات. أود أن اقول إن المؤتمر الوطني عجز تماماً عن ايجاد حكومة ذات قاعدة عريضة، ولكنه وجد حكومة ذات قمة عريضة من حيث الشكل لا من حيث المضمون، فهذا الجيش الجرار في رئاسة الجمهورية لا يغني عن الحق شيئاً، وهي محاولة يائسة لإقناع الرأي العام بأن القوى السياسية المعتبرة قد شاركته الحكم، فهذا يدخل في باب «خداع الذات»، وسوف يتضح ذلك في أول أزمة تواجه الحكومة تتطلب تأييد جماهير. وعندها سيكتشف المؤتمر الوطني أنه قبض الريح، وأنه أهدر المال العام في تلك الحكومة ذات القمة العريضة، وسيعود ثانية للبحث عن الجماهير بعد فوات الأوان.