الوطن يمر بمنعطف خطير آخر، والحزب الحاكم في أزمة، والعلاقة بين المنعطف والأزمة علاقة جدلية. ولقد وضح جلياً أن أداء المؤتمر الوطني في الحكم هو السبب الرئيس في كل المنعطفات الخطيرة التي تمر بالوطن، والتي تعمق من الأزمات الداخلية للحزب الحاكم. والحزب متشبث بمنهج واحد، يقوم على سياسة الموازنات المؤقتة والاتفاقات سريعة الذوبان والتعديلات الشكلية الديكورية. وكل ذلك، بغرض «البلف» وكسب مزيد من الوقت، لاستدامة البقاء في السلطة. والنتيجة دائماً بقاء العقدة كما هي، والمنشار الميت كما هو. لقد أرهقت سياسة العقدة والمنش?ر هذه البلاد وشعبها، لكن، إلى متى سيكون نصيبنا من الحلول هو الأوصال المتقطعة والجراح المتوزعة على أكثر من مدينة؟ ومتى سنواجه الأزمات الوطنية المتتابعة بطريقة صادقة وحاسمة تجعل المنشار قادراً فعلاً على حل العقدة؟. لقد آن أوان تأسيس ذاكرة متصلة لا تترك شاردة ولا واردة حتى تضعها في الحسبان من أجل وقف النزيف اليومي في البحث عن لقمة العيش والحقوق الضائعة في وطن مرهق، بعيداً عن التدليس ولعبة الاستغماية التي ظل يلعبها المؤتمر الوطني طوال عقدين من الزمان. وحده فقط، شباب المؤتمر الوطني هو الذي بهت بعد إعلان تشكيل ح?ومة «القاعدة العريضة»، حين رأى عجائز النادي مكنكشين في زمام الأمور، مع ممارسة غير «حريفة» للعبة كراسي باهتة! نحن، نرى هذا الوضع كالآتي: أولاً: واجه المؤتمر الوطني جراحات ما بعد تنفيذ انفصال الجنوب ومطالبات القوى السياسية والحركة الجماهيرية بضرورة تغيير التركيبة السياسية في الشمال، واجهها بشعار الجمهورية الثانية وحكومة القاعدة العريضة، دون إبداء أي استعداد لتبني برنامج جديد، وعريض، لهذه الحكومة، يأخذ في الاعتبار زلزال الانفصال وهزات التتابع بعد حرب جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والأزمات المتفاقمة في دارفور والشرق والجزيرة ومناطق السدود، إضافة إلى زلزال ضنك العيش ومعاناة المواطن في توفير قوت يومه. وحزب المؤتمر الوطني اختصر، بل ابتذل، مفهوم?توسيع قاعدة الحكم في إضافة طاقم جديد من الوزراء والتنفيذيين لينضموا لقافلة حكومة المجموعات «المتوالية» أصلاً منذ فترة طويلة، لمواصلة تنفيذ نفس البرامج والسياسات السابقة التي أدت إلى فصل الجنوب وتأجيج نيران الحرب الأهلية، وتعميق الأزمة الوطنية في البلاد. الدعوة لحكومة القاعدة العريضة كانت ستكون منطقية لو ارتبطت بالدعوة لأن تنفذ هذه الحكومة برنامجاً يقوم على أهداف واضحة ومحددة تشمل: وقف الحرب وإنصاف المتضررين، وإلغاء مؤسسة الاعتقال السياسي، ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والمتورطين في الفساد، وتخفيف أعباء المعي?ة، وإنصاف كل الذين فصلوا وشردوا من الخدمة، وكذلك الذين مورس بحقهم التعذيب وانتهاك حقوق الانسان، وعقد المؤتمر القومي الدستوري، وخلق توأمة وعلاقة تكامل مع دولة جنوب السودان. وبغير هذه الأهداف ستكون دعوة الحكومة العريضة، مجرد فصل آخر في مسرحية سخيفة عاف الجمهور مشاهدتها، كما هو الحال الآن. والسودان شهد عدداً من الاتفاقات التي وقعتها كل القوى السياسية السودانية مع المؤتمر الوطني: جيبوتي، اتفاقية السلام الشامل، اتفاق القاهرة، اتفاق أبوجا، اتفاق الشرق، الدوحة. وكان من الممكن أن تتمخض عن أي من تلك الاتفاقات حكومة?قاعدة عريضة حقيقية تقود هذا الوطن إلى بر الأمان. والسؤال هو: لماذا فشلت كل هذه الاتفاقات في خلق حكومة قاعدة عريضة حقيقية لعلاج أزمة الوطن؟ وما الذي تغير حتى يكون للدعوة الجديدة فعل السحر لتأتي بما فشلت فيه تلك الاتفاقيات؟ هذه الأسئلة، التي قد تبدو للبعض ساذجة، معني بها في الأساس، كل من يقبل تلبية دعوة المؤتمر الوطني المشاركة في الحكومة الجديدة الشكل فقط، وقديمة المحتوى والجوهر. ومن ناحيتي، أقولها بكل صراحة، إن أي حزب، مهما إدعى أنه «الحزب الكبير»، يقبل المشاركة في حكومة يعلم جيداً أنها ستقتدي بذات البرنامج?والنهج القديمين، ويرضى بأن تكون مشاركته هامشية وبعيدة عن مواقع اتخاذ القرارات الرئيسية، سيرتد حزباً صغيراً جداً، وسيكون مشاركا في تنفيذ، إن لم يكن مفاقمة، ذات سيناريو الأزمة: الحرب الأهلية المستمرة، قمع المطالب الجماهيرية المتصاعدة دون استجابة، الفساد والإفساد، تمكين الأفراد والشركات الوهمية بغرض الاستيلاء على المشاريع الكبيرة كمشروع الجزيرة، مباركة وضع فيه القلة ترفل في النعيم وجموع الشعب تنتظر شوربة الحجارة!! ثانياً: أعتقد أن مشاركة أي حزب في أية حكومة، بدون مباركة قاعدته الاجتماعية ورضائها ودعمها، ستزيد الأمور تعقيداً، بما في ذلك فتح باب الانشقاقات والانقسامات داخل الحزب نفسه، مما يعني تصدع مفهوم القاعدة العريضة وانتفائه. ويا ترى، هل سيتحقق شعار القاعدة العريضة بتعيين نجلي الميرغني والمهدي في قمة الحكم، في حين أن جموع الختمية والأنصار والاتحاديين يطوفون الآفاق بحثاً عن وطن يسع الجميع؟ وأعتقد أن الكثيرين باتوا على قناعة تامة بأن ابتسار مفهوم «القاعدة العريضة» بهذا المستوى عند المؤتمر الوطني، هي طريقة مضروبة ومك?رة منذ بدعة «التوالي»، خاصة أن الجميع يعلم أن المؤتمر الوطني يهدف إلى إخفاء جلده الحقيقي وشق الصف الوطني المعارض. وقطعاً، لن تتحقق، في أية لحظة من اللحظات، فكرة الحكومة ذات القاعدة العريضة ما لم يشعر أي سوداني أن السودان وطنه وليس مقراً للحزب الحاكم. وأية محاولة لاختصار القاعدة العريضة في تمثيل أفراد ينتمون لهذه الأسرة أو تلك، في هذا الحزب أو ذاك، ستقابلها هجمة مرتدة من جماهير الاحزاب نفسها. هذه الجماهير التي تسعى سعياً حثيثاً نحو توطين الديمقراطية داخل أحزابها. وعموما، المؤتمر الوطني يلهث بعجلة تسارعية لي?ظى بزمن إضافي في دست الحكم، والجماهير أيضاً تتحرك بعجلة تسارعية لتحقيق مطالبها وطموحاتها. ونتيجة لتشابك العلاقة بين الجسمين المتحركين وتضاد اتجاه حركتهما، لا بد من الاصطدام وإن طال الزمن! ولنمعن النظر في مظاهر نمو وتفاقم السخط الشعبي: اعتصام أبناء المناصير، ومطالبات مزارعي الجزيرة، وحراك الشباب، ومظاهرات الأحياء الليلية..الخ. ثالثاً: في تسريبات صحفية من بعض اللصيقين بمطبخ السياسة السري، جاء أن الولاياتالمتحدة، في سعيها لتطويق انفجارات ثورات الربيع العربي ومنع انفلات الأمر من يديها، ضغطت، عبر وسطاء عرب، على بعض الأحزاب، لتلبية دعوة حكومة القاعدة العريضة، ومن لم يعجبه العرض المقدم، فليحتل موقعه في برواز أنيق اسمه معارضة مسؤولة ورشيدة، حيث المقصود بالرشد والمسؤولية، حسب تلك التسريبات، الضغط على النظام بهدف إصلاحه وليس إسقاطه. نحن، لا نجزم بصحة هذه التسريبات ولا ندعي قناعتنا بمعناها. لكننا، نقرأها مع حديث المبعوث الأمريكي ليمان، ل?حيفة «الشرق الأوسط» الذي جاء فيه أن أمريكا تفضل خيار الإصلاح على خيار الؤسقاط بالنسبة لنظام الإنقاذ. ومباشرة نقول، واهم من يظن أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي ترسم وتحدد خطوات حل الأزمة السودانية، على الرغم من أن الواقع يقول إن أمريكا قد تلعب دوراً مؤثراً وخطيراً لصالح أي من القوى المتحركة في السودان، الحكومة أو المعارضة. صحيح، ربما أشاع تصريح السيد ليمان قدراً من الارتياح وسط قادة المؤتمر الوطني، لكننا نقول إن مظاهرات الشعب التونسي حتى النصر، وشعلة الثورة في ميدان التحرير في القاهرة، وهدير شباب اليم? في صنعاء وتعز وعدن، كل هذه لم تكن من بنات خيال السياسة الامريكية، مثلما لم تكن كذلك ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1989 في السودان، اللتان أسقطتا نظامين حليفين تماما لأمريكا. وعموماً أن يوضع نظام في خانة «اليك»، يعني أن كل الظروف تلعب ضده. وفي النهاية، وفي ظل توافر ظروف محددة، فإن خياري الاصلاح والاسقاط يبطنان شيئاً واحداً، مع اختلاف التكلفة، ويمكن أن يؤديا إلى نفس النتيجة: رحيل حكومة الحزب الواحد، وتغيير السياسات المتبعة حالياً، أي وقف الحرب، ومعالجة أوضاع النازحين والمشردين، ومعاقبة المفسدين وناهبي الم?ل العام ومنتهكي حقوق الإنسان، ولجم الغلاء واتباع سياسة اقتصادية ترفع المعاناة عن كاهل المواطن. وهل يعقل أن يكون هنالك أي إصلاح من غير كل ذلك؟ رابعاً: لكن، ما يزعجنا حقاً، ويثير عندنا الريبة والشكوك في الموقف الأمريكي، هو التزام أمريكا جانب الصمت طوال فترة الحرب الأهلية في الجنوب حتى عام 2002م، وعندما نطقت، كان حديثها، في مفاوضات مشاكوس، دعماً لتقرير المصير في اتجاه الانفصال. وذات الموقف المريب يتكرر الآن من أمريكا تجاه الحرب الضروس في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان: التجاهل لما يجري في المنطقتين، وفي نفس الوقت العمل بمهارة هائلة لتشذيب المؤتمر الوطني، وقصقصة أجنحته، بحيث تتناغم خطواته مع إرادتها، وكأن أمريكا تنتظر بلوغ معاناة المنطقتين حداً يدفع?ما لرفع شعار تقرير المصير، لتتدخل عندئذٍ في اتجاه تجزئة وانفصال آخرين! خامساً: العديد من أقطاب المجتمع الدولي، وأقطاب السياسة السودانية أيضاً، يشيرون إلى أن المطلوب هو الاتفاق على كيف سيحكم السودان وليس من يحكمه. وهي إشارة ربما يقصد بها أولوية «كيف» وثانوية «من»، ولا اعتراض لدينا على ذلك. لكن وضع الأمر بهذه المفاضلة المطلقة ليس صحيحاً في تقديري. فالوقائع اليومية للتاريخ السياسي للسودان منذ استقلاله، تؤكد أن الشعب السوداني كره من ظل يستحلب البلاد ويحتكر خيرها على حساب الأغلبية، كما كره من غيَّر خريطة الوطن وخسف بالأمن والأمان الأرض، وجعل الغذاء والكساء والعلاج والتعليم للأغنيا? فقط، ويكره أن يحكمه من جعل الفساد ديدنه. الشعب السوداني معني بكيف يكون الحكم، ومن سيكون الحاكم. آخر الكلام، أن حكام الإنقاذ، ومنذ أن ابتدعوا مسرحية التوالي، ظلوا يحكمون البلاد من خلال حكومة قاعدة عريضة، حسب رؤيتهم لمعنى هذه القاعدة العريضة، حتى وصل الائتلاف الحاكم إلى «14» حزباً في الحكومة الحالية. لكنا جميعاً نعلم تماماً أن هذه كذبة كبيرة، وأن المؤتمر الوطني ظل قابضاً على السلطة بمفرده منذ 30 يونيو 1989م وحتى اليوم، حيث الوضع في البلاد يسير من سيئ إلى أسوأ. فالعقدة تتضخم يوماً بعد يوم، والمنشار ميت، ولا مخرج سوى تغييره. لذلك، مرة أخرى نقولها: ارحل!