أزمة مكتومة ظلت تراوح مكانها بين حكومة ولاية البحر الاحمر ووزارة الكهرباء التي تعتزم انشاء محطة لانتاج الكهرباء تقع على بعد «75» كيلو شمال بورتسودان وقبالة ساحل البحر الاحمر، وذلك لإنتاج «600» ميقاواط وتعمل بالفحم الحجري، وترى حكومة الولاية ان الموقع المقترح غير مناسب وان عمل المحطة سيضر بالبيئة والانسان، فيما دفعت الشركة السودانية للتوليد الحراري الجهه المسؤولة عن المشروع بدراسة توضح جدواه وعدم اضراره بالبيئة. وكانت بداية العمل في المشروع قد انطلقت في عهد حكومة الوالي السابق حاتم الوسيلة في عام 2003م، حيث أجريت الدراسة الاولية التي اوضحت امكانية تشييد المحطة في منطقة أركياي، وتشير الدراسات الى ان المحطة المقترحة ستنتج طاقة كهربائية تصل إلى «600» ميقاواط يومياً تسهم في تشغيل محطة تكرير وتحلية مياه البحر بطاقة «30» ألف متر مكعب من المياه يومياً، ويتوقع للطاقة المولدة في المدى البعيد أن تصل الى «4» آلاف ميقاواط بنهاية عام 2030م، وتبلغ التكلفة الكلية للمشروع مليار دولار.ومن مكونات المشروع إنشاء رصيف مرسى سفن بميناء ?ركياي لاستقبال السفن التي تحمل وقود الفحم الحجري المستورد لمحطة التوليد من جنوب افريقيا، ويسهم المشروع حسب دراسات في توفير فرص عمل مقدرة لأبناء المنطقة والولاية، عطفاً على إسهامه في تحويل منطقة أركياي الى مدينة متكاملة تتمتع بكافة الخدمات الضرورية، كما أن المشروع وحسب مختصين اقتصاديين سيعود بفوائد كبيرة على كل القطاعات الاقتصادية بالولاية، ويشيرون إلى أن الميناء المقترح لترسو عليه السفن المحملة بالفحم الحجري سيتيح هو الآخر فرصة للايدي العاملة، ويعتقدون أن الولاية ستجني منه عائداً جيداً أسوة بالولايات التي ?حتضن مشاريع قومية. ومن جانبها بدأت حكومة البحر الأحمر في مناهضة المشروع مبكراً عبر كافة الطرق، وذلك قبل معرفة الرأي الفني، فرغم توصيات الدار الاستشارية البريطانية المعدة في عام 2005م التي تشير إلى أن المشروع سيكون بطاقة تتراوح بين «500 600» ميقاواط من الكهرباء، وان إزدياد الطاقة المولدة يتناسب طردياً مع جملة التحوطات الواجب اتخاذها في التقليل الشديد من الأثر البيئي السالب، ترى حكومة الولاية أن هناك دراسة للأثر البيئي للمشروع المقترح معدة من قبل شركة mott mac Donald توضح أن وزارة السياحة حددت منطقة أركياي للتنمية السياحية?ذات الجدوى الاقتصادية الكبرى، وتوضح ان العالم يتجه نحو توليد ما يعرف بالطاقة النظيفة والطاقة البديلة أو الطاقة المتجددة، ويسير في هذا الاتجاه الحديث، وانه يتم تقليص دور محطات التوليد المعتمدة على الفحم الحجري تدريجياً لأنها أصبحت جزءاً من التأريخ القديم، ورغم أن المشروع المزمع إنشاؤه بأركياي يسهم في حل جزء من مشكلة نقص مياه الشرب ببورتسودان لقلة المصادر بإنتاج مياه تحلية بواسطة محطة تحلية خاصة بالمشروع تعتبر حلاً جزئياً لإمداد بورتسودان بالمياه، ترفض حكومة الولاية هذا الأمر، وتشير الى ان الدولة تنظر للحل ?لاستراتيجي الذي يتضمن تزويد المدينة بالمياه من النيل، بل حتى النسبة المقررة من المياه التي ستضخها المحطة للمدينة تعتبرها حكومة الولاية غير كافية ويمكن انتاجها من محطة تحلية أخرى، وكذلك ترى سلطات الولاية انه لا يوجد اتفاق مبدئي حول الجهة التي ستتكفل بتشييد الأنبوب الناقل للمياه من المحطة بأركياي. وخلصت اللجنة الفنية المختصة بدراسة المشروع التي كونتها حكومة الولاية، الى ان الاضرار المتوقعة تتمثل في تلوث المياه، لأن المشروع ينتج مياها عالية التركيز المحلي، وذلك نتاجاً لعمل محطة التحلية التي ستعمل بمبدأ تبخير ثم تقطير مياه البحر، وستنتج ما قدره «30» ألف متر مكعب من المياه المقطرة يومياً وتضخ المياه الباقية ذات الملوحة الزائدة إلى البحر مرة أخرى، وتقدر بحوالي «20» ألف متر مكعب، وهي مياه عالية التركيز الملحي وأعلى ملوحةً من مياه البحر، وسيتسبب ذلك في قتل الأحياء المائية الدقيقة التي تشكل المنتجات الأولي? الأساسية للشبكة الغذائية للنظام الغذائي في الحيز البحري الضيق والقريب من شاطئ البحر بجانب تلويث الهواء، بالرغم من أنه لا توجد مرجعية لتقدير حجم التلوث الهوائي، مما يترك الباب مفتوحاً أمام التقديرات التي قد لا تتطابق مع المعايير الدولية، وتشير اللجنة الى ان المشروع يخلف كميات كبيرة من الرماد ستنتج من عمليات التوليد، وان التخلص منه سيشكل مشكلة لاحقة، خاصة أن الفحم اللازم حرقه سنوياً يقدر بمليون ومئتين وخمسين ألف طن في السنة ولمدة ثلاثين عاماً «العمر الافتراضي للمشروع» بينما يبلغ حجم الحجر الجيري اللازم لخفض?تأثير أكاسيد الكبريت «326» طناً في الساعة الواحدة أي مليونين وتسعمائة ألف طن في السنة. رئيس جمعية حماية البيئة البحرية اللواء نور الدين محمد محمد فرح، أكد في حديث ل «الصحافة» أن رأي الجمعية ومنظمات المجتمع المدني مناهض لقيام محطة توليد الكهرباء، وذلك من حيث الموقع والوقود المستخدم، وقال: في ما يختص برفضنا لقيام المشروع في الموقع المقترح لا بد من الإشارة الى انه سبق أن تم عمل خريطة موجهة لساحل البحر الاحمر بواسطة جهات بحثية وعلمية مختصة من قبل مؤسسة ألمانية مهتمة بقضية الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، وحاليا اضحى علم السواحل يدرس في الجامعات والكليات المختصة بعلوم البحار، وكل الدراسات تؤك? أن ساحل البحر الاحمر خاص مثل خصوصية البحر الاحمر الذي اثبتت الدراسات أن لا مثيل له في العالم من كل النواحي، خاصة من ناحية التكوين الجغرافي، لأنه لا يشبه كل بحار وخلجان ومحيطات العالم، وأكد كل العلماء والمنظمات العالمية ضرورة الحفاظ عليه وعلى بيئته، وذلك لأن مياه هذا البحر لا تتجدد ولا وجود لأنهار ترفده بالمياه، بل أن الأممالمتحدة وجهت السفن بعدم تفريغ الوقود والزيوت والنفايات داخله، بل ذهبت منظمة البيئة التابعة للأمم المتحدة بعيداً برعايتها لبروتكول جدة الذي توافقت خلاله كل الدول المطلة على البحر الاحمر ?استثناء إسرائيل على المحافظة على البحر الاحمر وخليج عدن. ويرى رئيس منظمة حماية البيئة البحرية أن هناك أضراراً كبيرة ستنتج عن المشروع، موضحاً أن اللجنة التي كونتها الولاية وضمت عدداً من المختصين توصلت بعد دراسة علمية مستفيضة الى ان تشييد وعمل المحطة في موقعها المقترح سيدمر البيئة البحرية، وسيلقى هذا الدور على السياحة بصفة عامة وسياحة الغوص بصفة خاصة، وسيصل التأثير الى محمية دنقناب البحرية التي صادق رئيس الجمهورية على انشائها، كما أن المياه «الراجعة» التي يستفاد منها في عمليات المحطة المختلفة وهي ساخنة وحارقة ستصيب كل الحيوانات البحرية الصغيرة بالموت، وعلى صعيد ?خر ستؤثر الغازات التي تنبعث من عوادم المحطة على الجو، وسوف تتسبب في هطول الامطار الحمضية الضارة التي قطعا ستصل الى دلتا اربعات التي لا تبعد كثيراً عن المحطة وهي المصدر الرئيسي لمياه بورتسودان، وهذه الأمطار ستؤثر على الخضروات بالدلتا، وحتى الملاحات التي تنتج الملح سوف تتأثر. ويقول إن اضرار المحطة لا حصر لها على الانسان والحياة البحرية والبرية، مؤكداً عدم رفضهم لقيام المشروع، مشيراً الى انهم مع التنمية ولكن يجب مراعاة الحفاظ على البيئة، وقال: إن المحطة ستخلف خمسة ملايين طن من الرماد فكيف سيكون مصيره، وكيف سي?م التخلص منه، ويضيف: الجهة المنفذة تتعامل بصلف كبير، ولا نعرف سر إصرارها على تنفيذ المشروع في الموقع الذي قامت بتحديده، رغم أن الخيارات أمامها متاحة لاختيار موقع آخر اقل ضرراً، وأعتقد أن اصرارهم على هذا الموقع نابع من ثقتهم في امكانية استصدار قرار رئاسي لصالحهم، وهذا هو الأمر المؤسف المتوقع حدوثه. وعلى النقيض من الرأي السابق يؤكد الناشط البيئي الدكتور طه بدوي أهمية قيام المشروع الذي قال إنه سيعود بفوائد كبيرة على الولاية، مضيفاً في حديثه ل «الصحافة» أن الدراسة التي قامت بها شركة ألمانية خبرتها تتجاوز المائة عام اوضحت جدوى قيام المشروع من ناحية اقتصادية، ورغم ذلك اعترضنا عليه في بداية الامر، ولكن بعد استجابة شركة الكهرباء لملاحظاتنا قامت بإعداد دراسة علمية اعتبرها الافضل في السودان والاكثر شمولاً، واوضحت كل ما يختص بالمشروع. وقال: في تقديري ان الدراسة جاءت وافية ومقنعة لجدوى قيام المشروع الذي سيسهم?في تطوير المنطقة، بل ومد حاضرة الولاية بمياه شرب من محطة التحلية التي سيتم تشييدها، وفوائد المشروع لا تحصى، والولاية ستجد حظها ونصيبها من الثروة القومية عبر تخصيص نسبة جيدة من عائدات المشروع. ويضيف: بخصوص التلوث أعتقد أن العالم اتجه لمعالجات أكثر علمية لتخفيض الآثار البيئية، وذلك عبر التقنية الحديثة، واعتقد ان اهم المكاسب تتمثل في امداد كل محليات وقرى الولاية بالكهرباء التي تعتبر حجر الزاوية في التنمية المنشودة. ويرى الكاتب الصحافي عبد القادر باكاش، أن المشروع غير ذي جدوى خاصة بعد قيام سد مروي وتوفيره تياراً كهربائياً مستقراً نسبياً للبحر الأحمر ولم تتم الاستفادة القصوى منه في الولاية بعد، ولم يتم استغلاله الاستغلال الأمثل حتى الآن. وقال في حديث هاتفي مع «الصحافة» إن مشروع إنتاج الكهرباء بالفحم الحجري أضراره أكثر من فوائده، لجهة أن التوليد الحراري بالفحم الحجري تقليد قديم وملوث للبيئة، وقد ظهرت أساليب وتقنيات أجدى وأنفع، أولها الاعتماد على موارد نظيفة ومتجددة ومتاحة مثل التوليد بالطاقة بالرياح والغاز والمياه. و?شير إلى أن مشروع كهرباء أركياي قائم على مصدر غير مضمون وقابل للنفاد، وهو استيراد فحم حجري من جنوب إفريقيا، ثم أن موقع المشروع حيوي بالنسبة للولاية ومهم سياحياً واقتصادياً وجغرافيا، إذ يقع شمال بورتسودان بحوالى «75» كلم و«40» كلم عن أربعات المصدر الرئيسي لمياه بورتسودان. ويتوقع أن يكون المشروع مصدر تلوث كبير. وبحسب الدراسات يخلف المشروع خمسة أطنان من الرماد سنوياً، ويفزر غازات مضرة للبيئة، ويؤثر على الأحياء البحرية بسبب المياه الراجعة من محطة التحلية إلى البحر، إضافة إلى تلويث الهواء، وأوضح أن الرأي ال?ام بالولاية وخبراء البيئة أبدوا موقفهم الرافض للمشروع، وأن حكومة الولاية أعدت خطة للاستثمار السياحي بأركياي، وتقع بالقرب منها أيضاً قرية عروس السياحية الشهيرة، وأشاد باكاش باهتمام وزارة الكهرباء بتوفير كهرباء للبحر الأحمر، مبيناً أن الحركة الاقتصادية والصناعية بالشرق تحتاج فعلاً إلى تيار مستقر، ونبَّه إلى إمكانية توفير كهرباء من مصادر آمنة وقريبة مثل التوليد بالغاز أو بالهواء ليكون نواةً تؤسس عليها مشروعات النهضة الصناعية المأمولة بالشرق، وكشف عن وجود فائض من كهرباء مروي بمحطة بورتسودان لم يستغل لعدم وجود?محطات تحويلية بالمدن الشرقية، وعدم تهيؤ الشبكة الداخلية لكهرباء المدن. ودعا باكاش إلى رسم العلاقة بين الولايات والمركز بشأن سلطة المراقبة والتوظيف والإشراف على التيار الكهربائي، وقال إن واحدة من المشكلات الرئيسة في موضوع الكهرباء عدم وجود سلطة للولايات في الأمر، وأبان أن مدينة بورتسودان على سبيل المثال وصلت إليها الكهرباء من مروي منذ عام 2009م ولم تغطِ أحياءها ومؤسساتها بعد، لتباطؤ الوزارة في إنفاذ ما يليها، وأن أغلب الوحدات الحكومية ببورتسودان تعمل بمولدات حرارية حتى الآن. وما بين مؤيد ورافض للمشروع يتوقع مراقبون أن يتحول الأمر إلى صراع ومعركة شخصية ما بين والي ولاية مهتم بالسياحة ووزير كهرباء يسعى لتنفيذ مشروعات ضخمة في هذا المجال، ويشيرون إلى أن كلا الرجلين معروفان بأنهما لا يعرفان التراجع والتنازل في المواقف، واللافت في الأمر أن كلتا الجهتين لم يصدر عنهما تصريح رسمي، ويؤكدون أن المركز مطالب بالتدخل لحسم الأمر وتكليف جهة علمية ومستقلة للبحث عن جدوى قيام المحطة من عدمها.