هذه هي المحطة الاخيرة .. نبهني سائق المركبة العامة بعد ان اطفأ انوار المركبة عدة مرات... كانت المركبة فارغة الا مني ومن سائقها ومما خلفه ركابها من بقايا احاديث خافتة وصاخبة، وضحكات وقورة وبلهاء ، وروائح ذكية واخرى غبية تشي بذوق ذويها.... حملتُ حقيبتي المنتشية بخمر النوم حييت سائق المركبة العامة، كان صوماليا اصلع ممتليء الجسم صحة وشبابا، ممتليء الروح تطلعا وثقة، متشوقا لمستقبل وضاء.. وحينما نزلت من المركبة اللندنية العامة، كان الطقس باردا جدا، كم ابغض هذا البرد.. ابتسمت تذكرت صديقي (خالد) .. آه كم احن اليه، كان حينما يسكره ويروقه جمال الطقس في بلدتنا يهتف قائلا: آه طقس اوروبي.. الشارع اللندني القديم، كان مزدحما بأناس من اجناس شتى يرتدون ضروبا من ملابس الشتاء ، لو القيت ملابسهم في نهر (التيمز) لا متصته ولم تغادر منه نقطة واحدة ، تذكرت حينها شارع بيتنا الطيب الوقور.. واخرجت زفرة حَرَّى اثارت التراب في شارع بيتنا، على الرغم مما بيننا من قصيّ المسافات. قصدت واحدا من المقاهي التي عُرف بها هذا الشارع.. جاءني النادل بقهوة احتسيتها بنشوة مشوبة بغيظ .. كان رواد المقهى ينقلون اعينهم ما بين سواد قهوتهم وسواد اسطر الصحف، يزجّون نظراتهم التي تقدم رجلا، وتروم الرجوع بالاخرى، حتى تقف عند عتبة المقهى لتنظر الى الشارع نظرة راجفة ، ثم تنكص .. على عقبيها مرة اخرى لتعود الى وجوه اصحابها.. اخرجت الخطابات التي وصلت اليّ هذا اليوم . . خطاب مرعب من شركة الكهرباء .. وخطاب متعب من شركة المياه.. وخطاب مليء بالالغاز، من شركة الغاز، وخطاب محشو بالمصائب، من قسم الضرائب.. كنت في بلدي احب الرسائل المعطرة بأريج الإخاء ، التي تشيع في النفس الراحة والحبور، لا?تلك الخطابات اللئيمة التي تترك النفس خائرة حائرة، سقيمة، وكان عليّ لارضاء هذه الشركات المحترمة ان ادفع ألف جنيه استرليني .. نعم.. نعم.. نعم.. ألف جنيه استرليني.. تناولت كوب القهوة علّني اطمس بسواد لونها سواد الاصفار الثلاثة التي تحويها الجنيهات الاسترلينية، والتي بدت لي كثلاث طلقات نارية، ولكني عندما افرغت القهوة في فمي، لم يكن ثمة سوى قطرتين تكفيان لطمس الصفرين الاولين من الألف ، وبذلك يكون المتبقي على عشر جنيهات .. بخ بخ ... مرحى .. مرحى.. في طريقي الى المنزل.. وجدت اعلانا عن كلب غضب على اصحابه اثر سوء فهم، واختلاف في وجهات النظر، فغادرهم جسدا.. وان كان صدى عوائه الرقيق ما يزال يرن في حنايا قلوبهم، فتنسكب العبرات تتلوها العبرات كانت في الاعلان جائزة مقدارها ألف جنيه استرليني لمن يدل علي هذا الكلب.. مسكين هذا الكلب.. لا شك انه الآن يعاني الجوع.. والوحدة .. والإلتياع.. ويلوح لي ان البرد اللندني ، لما لم يرأف بألم هذا الكلب.. ثار الكلب.. وهاج .. وانشب اظفاره ، وغرز انيابه في جسد البرد.. حتى اصاب السُّعار روح البرد، فط?ق كالثور الجريح، يلذع بسعارهةالبارد، السابلة وهو يصيح هَوْ .. هَوْ.. هَوْ..