تاريخان غائبان عن المجتمع السوداني نظامه ورجاله ونسائه وأجياله ومدارسه هما يوما الجمعة 24 نوفمبر 1899 - ويوم 1956/12/19 - يحبو نحونا يوم استقلالنا ونحن يعمنا الخجل مما ورثناه من هذين التاريخين فحالنا لا يخفى على أحد في شتى مجالات الحياة - في 24 نوفمبر 1899 شهد السودان نهاية استقلاله الأول بصورة درامية هزت أركان العالم الأوروبي والعربي والاسلامي وبذل فيها السودان عشرات الآلاف من الشهداء جرياً وراء تثبيت معنى الاستقلال.. كان بالأحرى لنا أن نشد أنظارنا لهذين التاريخين وفي 1956/12/19 استرد السودان أرضه وصنع استقلاله ووقف كل من السيدين اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب يرفعان علم البلاد واهتز وجدان الشعب السوداني، وسالت دمعات سخينات على خد الامام عبد الرحمن الذي شاهد المأساة الأولى التي انزوى فيها علم البلاد وانطوت فيها صفحات استقلاله. مساء الخميس 23 نوفمبر 1899 وبعد صلاة العشاء امتطى خليفة المهدي جملاً والتفت جموع الأنصار نساء ورجالاً حوله وصار يخطب فيهم ذاكراً بأن أكثر الجيش قد استشهد من قبل في كرري وأنه لم يتبق إلا القليل وقال بما أن الليل قد عم الكون فإنه قد عفى عن كافة البيعة التي تلقاها منهم وما عليهم إلا أن ينصرفوا تحت جنح الليل، أما عنه هو فقد أقسم أن لا تمس يده يد كافر ولن يقع أسيراً أما نصر من عنده الله أو شهادة يلتقي فيها مع اخوته من الشهداء الذين سبقوه. لم يتحرك أحد بعد سماعه خطبة خليفة المهدي، إلا الأمير بشير عجب الفيه الذي قفز إلى الامام صائحاً «والله بيعتنا ما بنخليها.. والله ما أبدل لقب الأمير البشير.. بلقب البشير بك» وارتفعت الأصوات والهتافات ووصل إلى أسماع العدو زغاريد النساء. لقد أعطى الجميع للخليفة شحنة من الحماس والاطمئنان إلى أن هدأت الأصوات وبدأت الجموع واحداً تلو الآخر تبايع خليفة المهدي على الجهاد في سبيل الله، وأب جكه واقفاً خلفه والملازمين ينظمون الناس.. لقد كان جيش الخليفة رغم ما لاقاه من عنت ونقصان مزيناً بأبطال صنع استقلال السودان على أيديهم ووقفوا شاهدين على حريته ورايته المرفوعة ذائدين عنها فقد كان من بينهم الأمير عثمان دقنة والأمير يونس الدكيم والأمير عبد الباقي عبد الوكيل والخليفة علي ود حلو والأمير الصديق بن الامام المهدي والأمير يعقوب أبو زينب، والأمير أحمد فضيل والأمير السنوسي أحمد والأمير البشير عجب الفيا والأمير الختيم موسى والأمير المجذوب جلال الدين، عناصر أراد الله أن تبقى بعد معركة كرري لترافق خليفة المهدي في يوم فقدان السودان استقلاله. وما ان أصبح صباح الجمعة 24 نوفمبر 1899 حتى بدأت طلائع خليفة المهدي بقيادة الأمير أحمد ود فضيل، والأمير الختيم موسى، واختار جيش العدو هضبة عالية نصبت عليها مدافع المكسيم ووقف عساكر البيادة بأسلحتهم النارية، وما ان حلت الساعة الخامسة صباحاً حتى انطلقت أصوات جيش الخليفة هاتفة هتاف الجلالة المشهور «لا إله إلا الله.. الدين منصور.. ماشين في شان الله» وانطلقت المدافع المكسيم تحصد صفوفهم. يقول نعوم شقير الذي شهد المعركة «رأيناهم بعد انقشاع ظلام الفجر يهاجموننا وهم يضجون بالتهليل والتكبير غير مبالين بالموت». كما ذكر أن بعضهم كان يودع بعضاً بل أن بعضهم ربطوا أيديهم ببعضها البعض حتى يستشهدوا اخوانا في الله. وما ان استحر القتل واستشهدت تلك الجموع الصابرة نزل الخليفة عبد الله عن جواده وافترش فروته تجاه القبلة وجلس الخليفة علي ود حلو عن يمينه والأمير أحمد فضيل عن يساره والصديق بن المهدي على يمين الخليفة علي ود حلو، ووقف الحرس من خلفهم صامدين أما أب جكه رفيقه الذي كان لا يفارقه فآثر أن يجلس أمام الخليفة ليكون ساتراً له من رصاص العدو وكان أول الشهداء فحمله الخليفة على فخذه ودار حديث بينه وبين أحمد ود فضيل الذي أزاح رأس أب جكه من فخذ الخليفة فأرجعها قائلاً له «أب جكه شالني فوق فخذه ثلاث عشرة سنة أنا ما أشيلوا يوم استشهاده؟». كلمات نيرات قويات عظيمات وهكذا كانت نهاية الاستقلال الأول التي كانت مفخرة تحدثت عنها الركبان. يقول نعوم شقير «لا يسع الانسان إلا الاعجاب بالشهامة وثبات الجأش الذي لاقى بها منيته» بينما وقع في الأسر الكثير من صناديد الرجال أهمهم عثمان شيخ الدين ويونس الدكيم والختيم موسى وفضل الحسنه، ووقف ونجت عند جثمان الخليفة محيياً إياه ذاكراً أن موته كان من أندر الأحداث التي سيحكيها التاريخ.. واستطاع الأمير عثمان دقنة أن ينجو من الأسر إلا أن أحد أصدقائه وشى به فأخذ أسيراً إلى سجن رشيد بمصر ويقول شقير «لقد أغمض عينيه ومنع نفسه من الكلام والأكل ما عدا فنجاناً من اللبن بلقمة عيش». لقد عنيت في سرد قصة نهاية الاستقلال الأول للسودان لعل أجيالنا تعي ما لاقاه أجدادهم وما اتصفوا به من ثبات ودفاع. تلك هي الحادثة التي ثار عليها الغبار فاختفت من أذهان أجيالنا أما ونحن نستقبل عيد الاستقلال فإن يوم19/12/1956م كان هو اليوم المشهود الذي وقف فيه النائب عبد الرحمن دبكه من بني هلبه وسط أول برلمان سوداني منتخب ليطالب دولتي الحكم الثنائي (مصر - انجلترا) بإعلان السودان حراً مستقلاً، فكانت كلماته «المتفق عليها» هي المدخل الأول للقرار التاريخي الذي يصل بين تلك المعركة الخالدة وهذا اليوم الخالد. لقد ثنى القرار السيد جمعة سهل إلا أن النداء الخالد فجره الزعيم الخالد اسماعيل الأزهري رئيس الوزراء وزعيم الأغلبية معلناً طلبه الجرئ بإعلان الاستقلال التام فانتفض أهل السودان وتنادت حرائره وشبانه ورجاله وكأنما خليفة المهدي هب من مرقده يحي أهل السودان. لقد كان ميعاد الاستقلال ورفع العلم بواسطة كل من اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب يوماً من أيام التاريخ الخالد تدلت فيه دموع الامام عبد الرحمن المهدي الذي شاهد جيوش الفتح وهي تنتهك أرض السودان وتقتل أبناءه. لقد كان الزعيم الراحل اسماعيل الأزهري حصيفاً عندما قرر أن يطمئن قلبه بمشاهدة الرغبة الحقيقية لأهل السودان فطاف بكل أرجائه فوجد الأغلبية الساحقة تنادي بالاستقلال والحرية ويقال إنه عندما وصل إلى غرب دارفور في عد الغنم قريباً من الحدود السودانية قابلته جماهير غزيرة فدمعت عيناه ونادى فيهم بالكلمة الخالدة «عاش السودان حراً مستقلاً»، فكانت لفتة تنبئ بأن الزعماء دائماً ما يقرؤون خلجات قلوب الجماهير، ولعل الزعيم اسماعيل تراءت إلى ذكراه معركة أم دبيكرات ومعارك كرري فأبكى ذلك عينيه ونادى ذلك النداء الخالد. إلى أجيالنا وأبناء الوطن، ما أحرانا أن نستقرئ التاريخ لأن الحكمة والعبرة التي يحملها هي القيمة الأولى التي يتربى عليها أبناء الوطن. رحم الله شهداءنا وزعماءنا الذين حملوا الرسالة وعبروا عنها خير تعبير.