عندما قامت الحركة الاسلامية بتنفيذ إنقلابها العسكرى على الحكومة الديمقراطية التي كانت قائمة آنذاك اتبعت كل وسائل الخداع والتضليل بشكل يكاد يكون مشابهاً للحيل السينمائية التي تشتهر بها هوليوود وبلغت قمة التراجيكوميديا بمقولة ( أذهب الى القصر رئيساً، وأذهب أنا الى السجن حبيساً) . ومنذ ذلك الوقت ما انفكت قوى المعارضة تهدد باسقاط الحكومة والاطاحة بها وظلت ثابتة على موقفها ذاك حتى اليوم ، وهي الآن تملأ الساحة صياحاً وصخباً وضجيجاً متوعدة الانقاذ باجتثاثها من جذورها دون ان تبين لنا كيف ستفعل ذلك عدا حديث الصادق المهدي الذي يكرره دوماً عن اتباع الاسلوب الناعم او ما يمكننا تسميته ب ( الملساء) استشهاداً بتاريخ المهدية القديم. ولكن السؤال الذي ينبغي طرحه - وبالحاح - ما دام الحديث عن اسقاط الحكومة أو الإطاحة بها يقودنا إلى مزيد من التساؤل حول كيفية تنفيذ هذا الذي ما فتئت المعارضة تنادي به ، سيما في وقتنا الراهن والذى ربما كان أكثر يسراً في زمان الانقاذ الأول حين كانت الحكومة تعاني على عدة أصعدة منها صعيد العلاقات الخارجية والإقليمية التي كانت متضعضعة مع دول الجوار جميعها بالإضافة الى جميع الدول العربية ، وخصوصاً دول الخليج بسبب الموقف الخاطىء من قضية إحتلال الكويت، وصعيد الاستهداف الخارجي الذي كان على أشده سيما من جانب الولاياتالمتحدة التي كانت تدعم المعارضة عسكرياً ومالياً وسياسياً، وصعيد معركتها مع المعارضة عندما كانت المعارضة تحظى بعناية من مصر واريتريا والعالم الغربى، إذ يمكننا أن نقول إنه كانت هنالك عاصمة عسكرية في اسمرا وعاصمة للدعم المالي واللوجستي في واشنطن وعاصمة سياسية واعلامية هي القاهرة فضلاً عن الإيواء والتأمين وتيسير الحركة بالنسبة لقوى المعارضة وقياداتها. باختصار شديد كانت الانقاذ محاصرة من كل الجهات ورغم ذلك كنا نسمع جعجعة ولا نرى طحناً ، وما ذلك إلا لأن كثيراً من قادة المعارضة لم يكونوا يتحلون بالجدية والعزم والقدرة على مواجهة الشدائد والصعاب فاكتفوا تبعاً لذلك بالمعارك الاعلامية عوضاً عن المعارك العسكرية في الميدان ، فكانت المعارضة فى منافيها الوثيرة بالخارج تجتر البطولات الزائفة من تفجير لأنابيب البترول وقصف المصانع وإحكام الحصار الإقتصادى على الوطن الذى يتأذى منه المواطن قبل النظام ... كانوا يحلمون وكانوا للأسف يصدقون تلك الأحلام ، الشيء الذي دفع القيادي بالحركة الشعبية باقان أموم الى ان يقول قولته الشهيرة آنذاك: ( أنتم تحاربون ببندقيتنا نحن) اشارة إلى ان القوى الوحيدة التي كانت تحارب الانقاذ بالسلاح هي الحركة الشعبية. ولأن الحركة الشعبية كانت تحارب في أرض المعركة - وليس أرض السياسة والاعلام - فقد استطاعت أن تحقق أهدافها في نهاية المطاف ، وها هي الآن تعيش في دولة الجنوب المستقلة تاركة الوحدويين منا يتجرعون الحسرة والندم على ما فرطنا في حق وطننا وحق أنفسنا وحق الجنوب نفسه ، علماً بأن خيار الانفصال لم يكن وارداً على تلك الأيام في اذهان قادة الحركة ، فما كانوا ينظرون إلى ما هو أبعد مما تحت أقدامهم. والمعارضة إذ تتباكى على ما آلت اليه الأوضاع الآن فيجب عليها أن لا تعفي نفسها من المسؤولية ، إذ كان بمقدورها أن تفعل الكثير في الوقت المناسب حين كانت السلطة والجيش والمال في يدها ، وليس أدل على هذا أكثر من عجزها في الحفاظ على تلك السلطة . ويكفي أن كاتب هذه السطور كان قد أبلغ السيد محمد عثمان الميرغني منتصف الأربعاء 28 يونيو من العام 1989م أن إنقلاباً وشيكاً سيتم تنفيذه بناء على تسريبات من أحد القادة العسكريين ، بيد أن رموز الحكم لم يحركوا ساكناً وكأنهم كانوا في حالة شلل عقلي جراء الخلافات التي كانت محتدمة بينهم آنذاك، فالسيد الميرغني بعد أن أبلغه كاتب هذه السطور بمعلومة الانقلاب العسكري المتوقع أسر بهذه الافادة إلى الشريك الآخر في الحكم ، إلا أنهم لم يأخذوا كلامه هذا على محمل الجد وظنوا أن مصر تسعى إلى خلق بلبلة في الساحة السياسية في السودان. وقد أجمع بعض المحللين فيما بعد أن الأمر لم يكن مجرد غفلة من أهل الحكم ، فكلا الشريكين فى الحكم كانا يمنيان النفس بأن الإنقلاب القادم سيكون فى مصلحة أحدهما ، فقيادة الحزب الإتحادى كانت ترى أن الإنقلابيين الجدد سيعملون على تنفيذ إتفاق الميرغنى - قرنق ، وهو إتفاق كان لمصر اليد العليا فى الترتيب له والعمل على نجاحه بإعتبار مصالح مصر الإستراتيجية فى حكم صديق ومستقر فى السودان ، بينما بعض قيادات حزب الأمة كانت تراهن على الإنقلاب لإقصاء الإتحاديين وتقريبهم من الجبهة القومية الإسلامية بدليل أن الصادق المهدى أصبح فى تلك الأيام يصف الجبهة بالحليف الطبيعى ، ولكن حسابات وأمانى الشريكين بارت وخسرت وكان الكاسب الأول هو الجبهة الإسلامية صانعة الإنقلاب . نعود إلى جوهر كلمتنا هذه ونكرر سؤالنا لقادة المعارضة: كيف ستسقطون الحكومة القائمة؟ وما هي آلياتكم ووسائلكم لتحقيق ذلك؟ وما هي القواسم المشتركة بينكم التي تجنبنا إعادة إنتاج الأزمة السياسية لحقبة ما قبل الانقاذ في حال نجاحكم في إسقاط الحكومة؟ فى حقيقة الأمر المعارضة ليس لديها القدرة على إسقاط الحكومة ولا تملك الوسائل الفعالة لتحقيق هذا الأمر ، فأحزابها ضعيفة ومفككة ولا تستطيع تحريك الشارع كما فعلت من قبل ، لأنها ببساطة فقدت سيطرتها على منظمات المجتمع المدنى من نقابات واتحادات ، وفقدت فى ذات الوقت قدرتها على بناء أجسام ومؤسسات حزبية قادرة على الفعل السياسى ، والزمان ما عاد هو ذاك الزمان حين كانت الجماهير تتحرك بالاشارة ، وما عادت الطائفية السياسية تملك القدرة على تحريك الموالين كما حدث ابان حقبة أكتوبر مما ادى الى إسقاط حكومة سر الختم الخليفة .إن ضعف المعارضة يمثل رصيداً مضافاً لصالح الحكومة ، ومما يؤكد هذا أن أقوى عناصر المعارضة اليوم هو حزب المؤتمر الشعبى الذى يقوده الدكتور الترابى عراب الإنقاذ فى سنواتها الأولى والذى عانت بسببه البلاد ما عانت من تطرف وعزلة ومقاطعة وضغوط دولية وتحويل حرب الجنوب الى حرب دينية كان وقودها أكثر من عشرين ألف من خيرة شباب السودان ، فالرجل يعتبر اليوم أقوى شخصيات المعارضة وأكثرها تأثيراً لأنه يملك القدرة والحركة والتخطيط على نحو يمكنه من الثأثير والتشويش ، ولعل هذا الأمر هو ما دفع أحد قادة المعارضة أن يقول : ( إن الترابى لو سخا لاستطاع أن يسقط النظام ) ! وبعد فإن ما تؤكده الحقائق كما يبدو من الوضع الراهن أن الحكومة والمعارضة كليهما لا ينشغلا بجدية بما يجرى فى البلاد من مشاكل وأزمات ، خاصةً وأنه لم يلح فى الأفق من جانبيهما أى مسعى لإيجاد حل لتلك الأزمات والتى باتت تقف أمام المواطن السودانى كالجبال الراسيات وتنعكس على حياته لتجعلها أكثر قسوة ومرارة ، وهذا ما يؤكد أن المواطن المغلوب على أمره هو من سيكون بيده حسم الأزمة والتغيير المرتقب الذى ينزع فتائل الإحتقان . والآن لنفترض أن معجزة حدثت وعادت المعارضة الى الحكم بعد زوال الانقاذ فماذا لديها لتقدمه إلى الناس علماً بأن هذا التغيير ان حدث فسيكون بيد الشعب الذي اسقط أنظمة عسكرية من قبل وليس بيد المعارضة ، فالوجوه هي الوجوه ذاتها، والعقليات هي ذات العقليات والخلافات بينهم هي الخلافات ذاتها ، ولعل أكثر ما نخشاه فى هذه الأيام أن تنجرف المعارضة نحو التحالف مع حركات التمرد المسلحة ... إن حدث هذا فإن المعارضة هى أول من يدفع ثمن تلك المغامرات الخاسرة لأنها آخر الأمر لن تجد وطناً لتحكمه أو تعارض فيه . إن حتمية التغيير باتت فرضاً واجباً على الحكومة لأنها تملك الآن كل المفاتيح المفضية نحو هذا التغيير ، وهى قادرة على إحداث هذا التغيير فقد سبق لها وأنقلبت على عرابها ، فإذا ما تلكأت فى الإستجابة لهذا الأمر فلا أحد سيتنبأ بما سيحدث بالبلاد .