من الواضح للمراقب المتابع للوضع السياسي الراهن في السودان..يكتشف وللوهلة الاولى ان الحكومة والمعارضة فقدتا البوصلة التي يمكن ان توجهها في الاتجاه الصحيح الذي يقود البلاد للمرافئ الآمنة.. ويمكن البلاد من الخروج من هذا البحر المتلاطم الامواج، والذي يسيطر عليه ضباب كثيف يحجب الرؤية.. وغياب البوصلة واضحٌ من خلال التخبط في السياسات والقرارات التي اوصلت البلاد لهذا الدرك السحيق والتدهور المريع في كافة مناحي الحياة والذي يشتكي منه الجميع مر الشكوى بإستثناء اهل الحظوة الذين باتوا ينعمون برغد العيش الوفير. ولنبدأ القصة من البداية: فعندما جاءت الانقاذ في العام 1989م طرحت شعارات جذابة كان من الممكن ان تنقذ البلاد من الهاوية التي كانت تتردى فيها مثل شعار (نأكل مما نزرع.. ونلبس مما نصنع) وشعارات تمزيق الفواتير (تمزيق فواتير السكر والقمح ...الخ) والتي كانت تعني الإتجاه الى الزراعة والإعتماد على الناتج المحلي وترك الاستيراد ، وتعاظمت وقتئذٍ فرص الانقاذ حينما ظهر البترول وتمّ تصديره الى الخارج في احتفال كبير مشهود، وجلب للخزينة العامة عائدات ضخمة من العملات الحرة.. ولكنها لم تحسن استخدام تلك العائدات في الزراعة ودعم مدخلاتها ومزارعيها بالصورة التي تنفع البلاد والعباد. لذلك عندما توقف البترول بسبب الازمة مع الجنوب لم يترك أيِّ اثر ايجابي على بقية القطاعات المنتجة بل ترك أزمة إقتصادية قاتلة ضربت بأطنابها كل مناحي الحياة. ومن المعلوم ان الانقاذ جاءت بانقلاب عسكري على حكومة منتخبة.. فتحولت حكومة الامس الى معارضة اليوم حيث خرجت الاحزاب المعارضة الى الخارج.. وكون المعارضون للحركة الاسلامية جسماً كبيراً معارضاً بإسم (التجمع الوطني الديمقراطي) وكان فيه الحزبان الكبيران حزب الامة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي بجانب الحركة الشعبية وقيادات الجيش قبل الإنقلاب واحزاب اخرى صغيرة.. ووجدوا دعماً دولياً من أمريكا والدول الأوربية وكثير من دول الجوار حيث فتحوا لهم الابواب لمزاولة نشاطهم المعارض علناً ودون قيود.. ولكنهم لم يستطيعوا اسقاط الحكومة رغم المحاولات الكبيرة التي قاموا بها ورغم الدعم المالي والسياسي والعسكري الذي تلقوه .. وفي خضم تلك الفترة قال السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي رئيس التجمع المعارض حينذاك عبارته الشهيرة (سلم تسلم) في رسالة شديدة اللهجة الى الحكومة وقال وقتها انهم عازمون على اقتلاع النظام من جذوره.. كأنما النظام (بصلة) يسهل اقتلاعها دون جهد كبير.. ولم تنجح المعارضة في عمل ذي بال يهدد وجود الإنقاذ ولم يكن التجمع نفسه ذا تأثير كبير بالنسبة للحكومة.. وانتهت فترة التجمع المعارض بعد أن خذل كل حلفائه في الداخل والخارج.. بيد أنّ الحركة الشعبية كانت اكبر الكاسبين من تلك الفترة.. حيث تعلمت العمل السياسي والمراوغة والتكتيكات.. واستخدمت التجمع لخدمة أغراضها.. وبعدها تركت الاحزاب الشمالية في المعارضة يتلاومون وجلست مع الحكومة في اكبر وأطول مفاوضات تشهدها افريقيا والتي استمرت زهاء التسعة أشهر.. ووقعت بعدها معاهدة سلام شامل (نيفاشا 2005م) وخرجت بغنيمة كبيرة بأن دان لها كل الجنوب لتحكمه منفردة وتسعى الى ان تحكم جزءاً من الشمال وحصلت على بند خاص ب (حق تقرير المصير) في نهاية الفترة الانتقالية ، وفيما بعد قاد ذلك البند الذي حوته اتفاقية نيفاشا الى تقسيم السودان وفصل الجنوب ليكوِّن دولته المستقلة.. وبعدها لم يجد السيد الميرغني رئيس التجمع المعارض سوى العودة للداخل وتغيير الشعار من (سلم تسلم ) الى (سلم تستلم).. وعقد هو نفسه صفقة مهادنة مع الحكومة ودخل جيش الفتح (الجناح العسكري لحزبه) الى البلاد وتمّ تجريده من اسلحته.. وقبلها عقد حزب الامة اتفاقاً مع النظام في جيبوتي اسمى (نداء الوطن) ودخل (جيش الأمة) جناحه العسكري الى البلاد وتمّ تجريده هو ايضاً من اسلحته.. والصادق المهدي بطبيعته رجل مهادن لا يميلُ الى الحروب والاقتتال.. وهكذا عادت الاحزاب الكبيرة الى الداخل دون سند عسكري لها في الخارج وضعف أمرها واصبحت لقمة سائغة في يد الحكومة بل ان مجندي هذه الاحزاب دخلوا معها في مشاكل حول استحقاقاتهم المالية وكأنهم مرتزقة تم تأجيرهم وليسوا مقاتلين يسعون الى تحقيق اهداف وطنية سامية بل وصل الصراع الى حد الاعتداء على الراحل الدكتور عمر نور الدائم الامين العام لحزب الامة القومي .. أمّا الحركة الشعبية ومن بين كل فصائل التجمع عادت حاكمة وبجيشها واسلحتها (زيادة فوق البيعة).. وكانت هي الكاسب الأكبر. هذه المقدمة كانت ضرورية لأنّها تبين كيف بدأت المعارضة تفقد بوصلتها بعد أن تفرّق شملها وتفرق جمعها وما عادت تملك كروت ضغط على الحكومة.. لانّها كانت تبني خططها كما تبنى قصور الرمال التي سرعان ماتتلاشى بأي قدر من الرياح وان كانت خفيفة..وبفقدانها للعمل المسلح فقدت (أسنانها التي كانت تعضُ بها) وجيوشها التي تقاتل بها.. وهي الآن تقود عملاً معارضاً تقول انّه (معارضة مدنية) تعتمد على التظاهر والإعتصام والاضراب.. وقالت انّها سوف تخرج الى الشارع إذا زادت الحكومة من أسعار المحروقات.. وهي الخطوة التي تتجه اليها الحكومة لتفادي الازمة الاقتصادية الماحقة التي ضربت البلاد واعقبت توقف تصدير النفط.. ولكن بالحال الذي عليه المعارضة لا نتوقع منها الكثير.. وربما جاء الناس الى ميدان الإعتصام ووجدوا ورقة صغيرة مكتوب عليها (حضرنا ولم نجدكم) مثل تلك الورقة التي كتبها الراحل محمد ابراهيم نقد. هذا عن الأحزاب المعارضة أمّا الاحزاب الموالية للحكومة فهي لا تملك أيِّ قيمة سياسية في الشارع وليست أكثر من (تمومة جرتق). ولعل المراقب يندهش من التصريح الذي اطلقه السيد فاروق أبو عيسى بأن الحكومة اذا ما زادت المحروقات ستملأ المعارضة الشوارع بالمحتجين على هذا القرار ولعل المرء هنا يتساءل من اين ستأتي المعارضة بهذه الجماهير؟؟!! التي خرجت من قبل في اكتوبر 1964 وفي ابريل 1985 واطاحت بحكومتين عسكريتين واعادت الديمقراطية عنوةً واقتداراً ولم تستطع الاحزاب - ذات الاحزاب- ان تحافظ عليها بخلافاتها وصراعاتها حول سفاسف الامور ولم تجنِ البلاد منها سوى تردي الاوضاع في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما افقد الناس الثقة في تلك الاحزاب . ولاريب ان هذا الوضع السياسي والإقتصادي المعقد جعل الكثير من المراقبين للشأن السوداني يرون أنّ الازمة السياسية السودانية قد دخلت في نفق مظلم.. وباتت مستفحلة تستعصي على العلاج لأنّ الخيارات المطروحة على الساحة على حد قول احد المشاركين في منتدى الدوحة الاخير بالنسبة للتغيير المطلوب الذي يفضي الى الحل باتت محدودة وتتلخص في اربعة خيارات: أولها الخيار العسكري المدعوم اقليمياً ودولياً للإطاحة عسكرياً بالحكم.. وهو خيار ذو تكاليف عالية على الوطن والمواطنين.. ولا يصلح بالنسبة للسودان.. ذلك لأنّ السلاح بات منتشراً في القرى والحضر.. والجبهات المسلحة تنتشر في كل اطراف السودان في غربه وجنوبه.. مثل الحركات الدارفورية المسلحة والتي تجمعت واسمت نفسها (الجبهة الثورية).. ومثل الحركة الشعبية (قطاع الشمال) والتي تجد سنداً عسكرياً وسياسياً من حكومة الجنوب.. كما أنّها حركات إقليمية لا يمكن القول انّها تمثل كل السودان ولا ألوان طيفه السياسي ولا تركيبته الإجتماعية.. لذلك فإنّ ايِّ تغيير مسلح عبر تلك الحركات المسلحة سوف يكونُ تغييراً عنصرياً او جهوياً ملغوماً سيقود البلاد لمزيد من التمزق.. أمّا الخيار الثاني فهو خيار الانتفاضة الشعبية على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن ويحدث في سوريا الآن.. وهو خيار صعب وغير مضمون العواقب لانّه يحتاجُ الى تنظيم من الأحزاب المعارضة وهي إذا كانت لا تستطيع تنظيم مظاهرة واحدة فمن الأولى أنّها لن تستطيع تنظيم إنتفاضة شعبية.. كما لا يمكن الزعم بانّها سوف تجد السند الدولي.. لانّ السودان لا يمثل أهمية إقليمية ولا دولية في الوقت الراهن.. مثل ليبيا والعراق (دول ذات أهمية نفطية) ولا مصر (ذات الأهمية السياسية الإستراتيجية).. وهذا يقودنا الى الحديث عن علاقات السودان الدولية.. فالسودان لا يملك حلفاء دوليين.. مثل سوريا التي تستفيد الآن من تحالفها مع روسيا.. وهو ما صعب على حلف الناتو ان ينال منها رغم المجازر التي يرتبكها النظام السوري.. بالإضافة الى أنّ المعارضة السودانية لا تملك خارطة طريق لحل مشاكل السودان.. وهذا واضح من مسألة الدستور حيثُ كان حرياً بالمعارضة أن تستبق الحكومة لوضع مسودة دستور للبلاد وتعرضها على المواطنين بدلاً من التهديد بمقاطعة الدستور الذي تنوي الحكومة وضعه.. بجانب هذا فقد أثبتت التجارب أنّ كل استهداف خارجي للنظام يقويه ويزيد من عمره بالقدر الذي يمكنه من الانتباه الى حقائق الامور والسعي الى مراجعة مواقفه نحو الافضل.. أمّا الخيار الثالث فهو الإصلاح من داخل النظام وهذا مستبعد في الوقت الراهن لأنّ بعض القوى داخل النظام تقاوم بشراسة كل مبادرات الإصلاح وتعمل على إفشال الإتفاقيات والمعاهدات التي توقعها الحكومة.. كما أنّ هذا الخيار يعني استمرار استئثار الحركة الإسلامية بالسلطة التنفيذية والتشريعية وتهميش بقية القوى السياسية الحية في المجتمع.. وهو ما سيزيد حالة الإستقطاب السياسي والجهوي.. ففي اي بلد في العالم يكون هنالك قدر من التوازن بين الحكومة والمعارضة لكننا نرى اليوم قبائل تاريخية تتبع لحزب الامة في الماضي تمضي نحو (الماء والكلأ) في حالة استقطاب جهوية حادة تنذر بالمزيد من التمزق الاجتماعي.. وتزيد من تعقيد أزمة السودان.. ومن الرشد أن لا يفرح اهل الحكم بهذا الإسقطاب الجهوي والقبلي لان المصالح هي التي تجمع هؤلاء لا الولاء.. ولو ذهبت المصالح فسوف يتفرق القوم كما جاءوا. الخيار الرابع والأخير هو التسوية السياسية الجامعة التي تقوم على وفاق سياسي يضمن مشاركة الجميع في السلطة وفق برنامج عمل وطني متفق عليه.. ويكونُ من أولويات ذلك البرنامج أن يخاطب الاسباب الجذرية للازمة في تجلياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية.. وتفاقماتها المتراكمة عبر كل العهود وحتى الآن. ومن الواضح ان السيناريو الاخير (سيناريو الوفاق الوطني) هو الذي يصلح للحالة السودانية.. ولكن تواجهه بعض الصعوبات العملية داخل الحكومة وداخل المعارضة.. فالحكومة ليست متفقة داخل تنظيمها على برنامج عمل محدد ولا على مجريات الأمور.. والدليل واضح من خلال المذكرات الإصلاحية التي ظهرت على صفحات الصحف.. والصراعات التي طفحت الى السطح وراح ضحيتها عدد من قادة الحكومة.. كما ان هياكل المعارضة اصابها الوهن والتشظي حتى صارت مجموعات صغيرة تتلاعب بها الانقاذ كيفما شاءت.. هذا بجانب أنّ هنالك هاوية ضخمة لا قرار لها من الشك وعدم الثقة تفصل بين طرفي الأزمة.. فالمسافة بينهما تفصلها هاوية لا يمكن تجاوزها إلا بتضحياتٍ جسام وتقديم النموذج الوطني الأصيل الذي يرفع من شأن المصلحة الوطنية العُليا في مقابل المصالح الحزبية والشخصية. وفي تقديرنا ان التسوية السياسية عبر التوافق الوطني الجامع هي الصيغة الأفضل والأرشد. وهي مطلوبة وبصورة عاجلة لان السودان لم تبق منه طاقة اضافية يتم استنزافها عبر الحلول المسلحة ولا المساومات والتسويفات السياسية.. والضرورة الوطنية تقتضي ان ندخر ما تبقى لنا من جهود وما تبقى لنا من غيرة على هذا الوطن.. بحيثُ نديرها ونعالج بها ما تراكم من أدواء وأمراض.