لا نزعم أن وجود طبقة وسطى عريضة في أي مجتمع هو العامل الوحيد لتحقيق النهضة وإنجاز المهام الوطنية الكبرى، لكن لا جدال في أن انحسار الطبقة الوسطى يعني انحسار دورها المهم في عملية النهوض كونها أحد الروافع الأساسية للعمل الوطني ومحور الحراك الفاعل لقوى التغيير، وكونها تمثل مستودعاً لقيم المجتمع وملامح ثقافته كما هي مستودع إرادة التغيير. والوجود العريض للطبقة الوسطى في المجتمع يحافظ على نسيجه القِيمي ويمده بأسباب القوة والإبداع، كما يؤشر لوجود قدر طيب من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، مما يساعد على تماسك المجتمع ويُجنِّبه الاضطرابات والهزّات، ويوفر فرصة عظيمة للاستقرار والتقدم. فالطبقة الوسطى تضم الكتلة البشرية التي تتمتع بالحيوية وتتمتع بمستوى تعليمي وثقافي ومهني يجعلها مؤهلة للعطاء الثر في شتى المجالات، وهي بحكم تركيبتها ووضعها الاقتصادي الذي ينزل بها دون مستوى الثراء الفاحش ويرتفع بها فوق مستوى الفقر المعوز الأقدر على التعبير عن آمال وآلام المجتمع، ومن ثم العمل على إنجاز التغيير المنشود من خلال حراكها، في كافة المجالات، عبر التنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، كما حدث في السودان خلال تاريخه المعاصر، حيث كانت الطبقة الوسطى صاحبة أدوار حاسمة في تحقيق أهمّ المآثر والانتصارات السياسية للشعب السوداني مثل إسقاط نظامي نوفمبر ومايو العسكريين بوسائل مدنية سلمية قبل عشرات السنين من الربيع الذي هبّت رياحه على شعوب المنطقة أوائل العام الماضى. وتبدو إذن مقبولةً وجهة النظر التي تقول بأن أحد أهمّ عوامل بقاء أنظمة الحكم المستبد جاثمة على صدور شعوبها لفتراتٍ طويلة رغم تراكم أسباب الانتفاض الشعبي ضدها، من ظلمٍ وكبتٍ وفسادٍ وفقرٍ ومسغبة هو تآكل الطبقة الوسطى بسبب النهج الاقتصادي غير الرشيد الذي لا يعرف الرحمة، ويبتعد بالدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية، وبسبب الفساد المؤسسي وسوء الأداء المالي والإداري مع غياب الشفافية والمحاسبة، حيث يؤدي ذلك إلى التحاق قلة من أفراد هذه الطبقة بفئة الأثرياء عبر أساليب في معظمها غير نظيفة، والتحاق نسبة كبيرة منها بالطبقة الفقيرة المعدمة، بينما يضطر آخرون أن يعبروا البحار والمحيطات بحثاً عن ملاذٍ آمن وأسباب عيشٍ كريم في شتات المنافي، وما يتبقى منها يصبح مهمشاً يستنفد جهده ووقته من أجل البقاءِ على حدِّ الكفاف. لكن مهما بلغت درجة الخلل في التوازن الاجتماعي، فإن سُنن التاريخ تؤكد أن الولادة الجديدة هي وعدٌ قائم لكل شعبٍ حي مهما طالت فترة المخاض وتعاظمت أوجاعه.. فالثورة الفرنسية انفجرت عام 1879م في مجتمعٍ سيطر عليه تحالف الكنيسة والإقطاع ردحاً طويلاً من الزمان، وعاث فيه فساداً واستبداداً حتى وصل به إلى دركٍ سحيق من الانحطاط.. وبعيداً عن الغوص في أعماق التاريخ، يكفي النظر لثورة 25 يناير التي فجَّرها الشباب المصري في ذروة اليأس من التغيير بعد عقودٍ بلغ فيها الاستنقاع السياسي والاقتصادي والاجتماعي أبعد مدى، وعانت فيها القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني مشكلات بنيوية وضموراً في حراكها وفعاليتها جراء عسف السلطة وسياساتها التي سحقت الطبقة الوسطى. لذلك يخطئ أي نظام حكم مستبد حين يغتّر بطول أجله في السلطة، ويحسب صمت الشعب رضاءً أو خنوعاً، أو يحسب أنه في مأمن من رياح التغيير استناداً إلى الفكرة القائمة على قدرة مؤسسات الاستبداد والفساد على السيطرة على مفاصل المجتمع وتدجين الشعب وإدخاله في تابوت جماعي، لمنع حراكه الإنساني الحر ومنع إمكانية التئامه في جبهة مدنية حيّة تمارس الفعل النضالي المجيد من أجل الحرية والكرامة والعدالة وكلِّ شروط الوجود الكريم.. فالشعب المنكوب بنظام حكمٍ مستبد قد يُغيَّب عن الوعي بالظلم والفقر والحرمان من الحقوق، وقد يكظم غيظه ويُلجِم غضبه ويطيل حبال الصبر وهو يحاول تجميع عناصر الحركة فيه، وقد تُجبر ضرورات العيش الكثيرين من أفراده على التأقلم مع الواقع الغاشم، لكنَّ ذلك كله لا يعني على الإطلاق بقاء الحكم المستبد للأبد.. فتراكم الظلم والفقر والحرمان من الحقوق لا بدّ أن يفرز تلك «اللحظة التاريخية» عندما تصل الأمور إلى الدرجة التي لا تترك للعصفور خياراً سِوى أن ينقضَّ على الأفعى بعد أن التهمت صغاره وحاصرته في العش.. وما تاريخ الشعوب إلاّ جدلٌ محتدمٌ بين التحدي والاستجابة، ومازالت هذه صيرورة التاريخ وخطه الذي يجري عليه لا يحيد عنه ولا ينتهي عند حاكمٍ فرد أو حزبٍ حاكم.. فما مِن شعبٍ ظلّ في غيبوبةٍ للأبد، وكم مِن تابوتٍ تحوَّل إلى مهدٍ يضجُّ بالحياة ويزلزل أركان الطغاة.