٭ ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه اليوم بالامس وما أشبه عصور البغي والعدوان بعضها ببعض، وعلى السيرة دعوني اروي لكم سادتي قصة بيت من بيوت الله التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال قصة مسجد ابلى وابتلى كثيراً ابلى بدور ريادي وفعال في زمن التحرر والنضال، وابتلى بالإعتداءات المتكررة لتدنيس قدسيته والنيل من مسجديته، في عصور البغي والعدوان وسنيها العجاف المتواترة على البلاد تواتر الليل والنهار التي تقضي على كل ماهو وطني لتسود وفقاً لاجندتها اللاوطنية، ذلك هو مسجد الخليفة عبد الله بام درمان، الذي أسس في العام 7881 بعد ان استقر الامر للدولة المهدية التي اتسعت رقعتها وكثر سكانها، واصبحت هنالك ضرورة وحاجة ماسة لبناء مسجد يسع تلك الجموع الغفيرة من السكان، فتم ذلك في غضون 37 يوماً فقط برغم سعة مساحته وسوره العظيم، مما جعل الكردفاني يعتبر ان بناءه في هذه المدة اليسيرة يعد من الكرامات الدالة على عظمة شأن خليفة المهدي وعلو همته في أمر الدين. ومنذ ذلك الحين اصبح هذا المسجد مقراً للدولة المهدية التي مثلت نموذجاً للدولة الاسلامية الاولى في مؤسساتها وفي عقيدتها وجهادها، والمسجد كما تعلمون وفقاً للتقاليد الاسلامية، ليس مكاناً للعبادة فقط وإنما هو أيضاً دار للثقافة والعلم ومكان تجري فيه المناقشات والندوات. فكان مسجد الخليفة مكاناً تدار من داخله الدولة ومقراً لها يرفع عليه علمها ورمزها، فهو المدرسة والجامعة والمحكمة والمؤسسة التي تعد الرجال بالتنشئة السياسية والدينية وتقوم بالإعداد التام للجهاد بالتوجيه الروحي والمعنوي، فتخرج منه الجيوش مهللة مكبرة تنشد الاستقلال لها ولكافة البلاد الاسلامية، وتعود اليه منتصرة رافعة للواء الحق. وكان للخطبة السياسية والدينية التي تتلى بداخله أبلغ الاثر في مجال الإعلام والدعاية للمهدية، التي وقفت شامخة تقارع الظلم والاستبداد وترفض التسلط الاجنبي وتأبى الضيم، الى ان اوصلت البلاد لاستقلالها الاول ووطنت للدولة وحماية حدودها، وانطلقت منه بعد ذلك لتحرير الشعوب الاسلامية الاخرى خارج نطاق دولتها، ويقف من خلف ذلك كله رجال بذلوا كل حياتهم لما آمنوا به وحين امتحنتهم التجربة صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا تدافعوا عشرات الآلاف نحو الموت للذود عن الدين والوطن. ونظراً لهذا الدور الكبير والمهم الذي لعبه مسجد الخليفة في تاريخ السودان، فقد ابتلى في عهود الظلم الطوال أيما ابتلاء فحيكت ضده المؤامرات التي سعت جاهدة لأن تزيل رمزيته. هذا المسجد الذي يقف شاهداً على بطولات الدولة المهدية وعظمة قادتها حتى لا يحفظ التاريخ لهم اسماً ولا ذكرى، وحتى لا يقوم بالدور الاساسي للمهدية واستمرارية دعوتها بعد انتهاء دولتها، ومن ثم توالت عليه الاحداث والاعتداءات عاصفة فشهد من الاعتداءات ما لم يشهده الاقصى الشريف في وقتنا هذا وقد بدأت أول معاناة هذا المسجد الصامد مع بداية الاستعمار الذي استباح حرمته ثلاثة ايام كاملة وجعله مربطاً للخيول الامر الذي استهجنه بعض الاوروبيين بمن فيهم الملكة فكتوريا التي استنكرت على اللورد كتشنر القيام بهذا العمل الشنيع البربري الذي لا يليق بهم كدعاة تحضر، فلجأ دعاة ذلك الامر لحيل واساليب اخرى ظنوا انها لا تثير الرأي العام مثل محاولة تحويله لسوق عام أو جعله ميداناً للالعاب الرياضية وتقام فيه الاحتفالات الرسمية كعيد الملكة فكتوريا والملك جورج الخامس والاستعراضات العسكرية من وقت لاخر لارهاب المواطنين، هذا ما حدث لهذا المسجد مع المستعمرين الاوائل، أما ما حدث له من اللاحقين منهم وفي كل الحقب الوطنية التالية لا يخرج عن ذلك في الفكرة والهدف وتشابه الاساليب وسوق المبررات والحجج الواهية، غير انهم اشتطوا اكثر منهم في عدائهم له وفعلوا به من المنكرات ما لم يفعله المستعمر نفسه الذي قد تردعه اخلاقه وتمسكه بقيم حضارته، كما أننا قد نجد له العذر في ذلك من أبواب شتى اولها مستعمر اجنبي لا يرجى منه غير ذلك فتكررت المحاولات سابقة الذكر إلا انها اختفت في مسمياتها مرة جعله ميداناً للكرة والالعاب او تحويله لساحة تسمى بساحة الابطال تقام فيها النصب والتماثيل ومرة اخرى محاولة جعله منتزهاً عاماً، ورغم ان هناك من أشار عليهم بخطأ ذلك غير أنهم نجحوا في تغيير بعض ملامحه التاريخية والتراثية والدينية بهدم سوره، إلا ان الله بقدرته حال بينهم وما يشتهون إذ جاءت الفتاوى من مجلس الإفتاء الشرعي بديوان النائب العام ومن الازهر الشريف ومن الجامعة الاسلامية لمنعهم من ذلك، وهنالك اعتداء من نوع آخر استهدف مؤسسه بطريقة ذكية وذلك بتغيير اسمه ( جامع الخليفة عبد الله) باسم نكرة ليس له معنى أو مدلول (المسجد الرابع) إلحاقاً له بالمساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا اليها تيمناً بها، لإيهامنا بنبل الغاية وسلامة المقصد ولكننا إذ سلمنا بهذا الزعم قد يدخلنا في جدل لا أول له ولا اخر، وربما يقودنا الى امر مستحدث وهو الاستتابة كما أن هذه المساجد الثلاثة لها مسميات تدل على قدسيتها ولم تسم بالارقام التي تصلح أن يسمى بها أى شيء مما يؤدي للبس والخلط والتي غالباً ما تسمى بها المحطات والشوارع في الحواري، وهذه المحاولة كادت ان يكتب لها النجاح لولا حفظ الله ورعايته. وحاول إنقلابيو الانقاذ في باديء عهدهم إعادة مسجدية مسجد الخليفة عبد الله ليؤدي الرسالة التي بنى من أجلها تكريماً له إلا انهم في آخر الامر جعلوه ساحة للاحتفالات والمعارض وفي بعض الاحيان يستخدم موقفاً او جراجاً للعربات، كلما دعت الحاجة والضرورة لذلك كما في حالة الحملات التي تنظم للمخالفات المرورية (حملات القطع) ولا نذهب بعيداً فقد كانت اخر تلك المحاولات جعله موقفا للبصات التابعة لشركة مواصلات ولاية الخرطوم التي تعرف ببصات الوالي اقيمت على حرمه الاسواق لبيع حلوى المولد، وقد جرت العديد من المحاولات لجعل تلك الاسواق دائمة بتمليكها للمواطنين، ولم يتم الامر تماماً كما ارادوا إلا أنهم جعلوا تلك الاسواق موسمية تبدأ مع بداية موسم المولد ولكنها تنتهي قرابة الموسم الجديد كل عام أى انها شبه دائمة، وفناؤه اصبح يسمى بحوش او ميدان الخليفة أو ساحة المولد. وما ادراك ما المولد في بلادي وما يحدث به من مظاهر خارجة عن الدين والشرع. كالاختلاط والمعازف وضرب الدفوف وإهدار الوقت الثمين، والبذخ الذي يتبع كل ذلك. صحيح ان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم مناسبة دينية عظيمة ولكنها تحولت الى امر آخر لا نجد له مثيلاً في الاثر النبوي الشريف الذي نجد فيه الاحتفال بأيام عظيمات كعرفة وعاشوراء والعيدين ولكن لم يخرج الامر فيها عن التعبد بالصوم والذكر وقراءة القرآن واللهو المباح. ومرة أخرى نرجع للقول ان كل هذه المحاولات المتكررة المتشابهة في وسائلها وأهدافها لا يمكن ان نجد لها تبريراً غير ان يكون المقصود بها هو الخليفة عبد الله نفسه مؤسس المسجد وبانيه لأنه لا يعقل ان نكون في دولة كالسودان تعظم شعائر الله ويلاقي فيها بيت من بيوت الله ما لا يلاقيه الاقصى الشريف في عهد الاحتلال، كيف لا يكون ذلك والخليفة عبد الله نفسه تعرض للظلم التاريخي على ايدي المستعمرين ومن والاهم. فهذا الظلم الذي لا زال مستمراً ومتجدداً بأساليب جادة وممنهجة ولا تعرف اليأس ماهو إلا محاولة لإخراج الخليفة عبد الله من تاريخ الامة الحافل بالبطولات والمفعم بالتضحيات والذي حظى فيه بنصيب الاسد ولم ينالوا منه مثقال ذرة. فمسجد الخليفة واحد من المساجد التي لعبت دوراً مهماً وكبيراً وإرثا هاماً يجب الحفاظ عليه لأنه من مكتسبات الدولة المهدية وآثارها التي اصبحت الشاهد الوحيد لعظمة الدعوة، وأن الحفاظ عليها مسؤولية الجميع شعباً وحكومة، وكل وطني غيور على تراثه وحضارته وماضي أسلافه. كما العاتق الاكبر من هذه المسؤولية يقع على كافة الانصار وقادتهم الذين يجب الا يتنصلوا عن هذه المسؤولية بتركها لغيرهم. ونحن حفدة الخليفة عبد الله لا نقبل بتنديس اسمه وتاريخه بهذه الصورة التي استنكرتها حتى ملكة الانجليز ناهيك عن الاهل والعشيرة واخوة الدين وبني الوطن.