شهدت البلاد نهار الأربعاء الثامن من فبراير الجاري، بمدينة الفاشر العاصمة التاريخية لدارفور، تدشين أعمال السلطة الاقليمية، في خطابه المرحب به أكد رئيس السلطة الإقليمية أنه بحرص رئيس الجمهورية على تحقيق السلام، ودعم الرئيس التشادي والأمير القطري، ومزيد الدعم من المجتمع الدولي سياسياً ومالياً ستتأكد إرادة السلام في دارفور. على مستوى السلطة الاقليمية أعلن تعهده بالشروع في التنمية وإعادة الإعمار (بالتخطيط الجيد وتوزيع المشروعات بعدالة وتنفيذها بدقة)، وفي ذات الخطاب دعا مواطنيه الدارفوريين لتجاوز غلواء التعصب للقبيلة، وحثهم على التمسك بالنسيج الاجتماعي الموروث، وهو يتطلع أن يكون يوم تدشين السلطة (علامة فارقة في تاريخ البلاد). إن العملية السلمية لدارفور بدأت متزامنة مع تصاعد النزاع، ومرت وماتزال تمر بمراحل متعددة برغم أن الحرب لم تتوقف بعد، فيما يصعب الجزم بإنهاء النزاع في الاقليم، حيث ماتزال بعض الأطراف خارج العملية السلمية، إلا أن الوصول الى مرحلة تدشين سلطة إقليمية في سياق العملية السلمية على قاعدة وثيقة الدوحة دون اعتراض مسلح من الاطراف الأخرى، في حد ذاته يعتبر انجازاً حقيقياً وشاهداً على أن السلام يمكن ان تكتمل أركانه بالحوار والتفاوض بالوساطة الدولية المعترف بها في منبر الدوحة والذي مايزال مفتوحاً ومرحباً بالانضمام والزيادة في وثيقة الدوحة الأساس المعترف به لسلام دارفور دولياً. الواقع، أياً كانت أدوار الأطراف الاقليمية الدولية في العملية السلمية لدارفور، إلا أن دور المستنيرين من أهل الرأي الاهلي والمدني والمهني من الدارفوريين، كان ومايزال دوراً هاماً ومتعاظماً في تحقيق معادلة السلام لدارفور. لقد أطلق ممثلو الادارة الاهلية ومنابر التطوع المدني الصرخات الداوية الأولى بضرورة وقف إطلاق النار بين الاطراف والجلوس الى موائد التفاوض، وكان ذلك كله قبل التدخل الدولي الانساني في النزاع في يوليو 4002م، في ظل الرافع الدولي استطاعت مجموعات مميزة من الدارفوريين بجهود المجتمع المدني في الداخل والخارج، تقديم الاطروحات الضرورية كخيارات في العملية السلمية. لعله كان لافتاً للنظر أيضا ان المجتمع الدولي وهو يضغط بكل الوسائل الممكنة على أطراف النزاع بمن في ذلك حكومة السودان، عبر قرارات جوهرية في مجلس الأمن للأمم المتحدة، كان في ذات الوقت يسعى لتطوير شراكة سلام بقدرات المجتمع المدني لدارفور في الداخل والخارج، وبالنجاح النسبي في شراكة السلام دخل المجتمع الدولي في جدل مايزال قائماً أيهما الأجدى لدارفور أولاً: السلام أم العدالة؟. من بين الوثائق المعرفية الضرورية التي شارك بها دارفوريون في سياق العملية السلمية وثيقة (التنمية مفتاح السلام في دارفور 3002م)، ووثيقة (هايدلبيرج للحوار حول دارفور 8002م 0102) والذي كون الموقف التفاوضي لحركة التحرير والعدالة في مفاوضات الدوحة للسلام في دارفور. بمعنى أدق أن النزاع في دارفور أياً كانت أطرافه، فان المستنيرين من أبناء دارفور في المجتمعين الأهلي والمدني كانوا الأساس الموفي لرسم ملامح خارطة الطريق لسلام دارفور، تلك الخلفية وبعد استكمال العملية السلمية وانهاء النزاع بين الأطراف وبمساهماتهم، فانه يظل القول صحيحاً بأن دورهم سيكون الاساس للواقع التنموي القادم بالمعرفة المهنية التي تجعل منهم وسيطاً عادلاً وفاعلاً بين مواطنيهم وهم يتطلعون الى الأمن والاستقرار والسلام والتنمية، وبين السلطة في مستوياتها المختلفة بما في ذلك السلطة المحلية، قاعدة البناء الاجتماعي الاقتصادي بالوسائل السلمية ديمقراطياً. إنهم سيلعبون ذلك الدور من خلال أنشطتهم المتنوعة في المجتمع المدني بمنظماته، والاستثمارات بالشركات والشراكات وأسماء العمل والعلامات التجارية، كما يؤكدون دورهم من خلال مساهماتهم في النظم السياسية التطبيقية المختلفة بما في ذلك الاحزاب والنقابات والتحالفات. إن دارفور وهي تنهض تنموياً وسياسياً على قاعدة التنوع واللامركزية فانها بحاجة ماسة الى العلم والمعرفة والمبادرة وذلك ما لا يتم الا بثورة حقيقية في العملية التعليمية التقليدية والحديثة، وترفيع قدراتها من اجل المستقبل، وألا يترك طفل سوداني بدارفور خارج نطاقها. من خلال دراسة حديثة لأغراض دعم توفير الكتاب المدرسي لمرحلتي الأساس والثانوي لولايات دارفور، أضحى واضحاً وبرغم الجهود التي ظلت تبذلها السلطات التعليمية في ولايات ومحليات دارفور. ان عوامل عديدة أدت الى تدمير البنية التحتية للتعليم وبقية المرتكزات الاجتماعية السياسية والاقتصادية، من بينها التكلفة العالية لوسائط العملية التعليمية، وعدم توفر المال اللازم لتوفير المواد والمعدات التعليمية، بالاضافة الى النزاع المسلح بالاقليم والذي ساهم في تدمير وحرق القرى والمرافق الصحية والتعليمية. لقد تأثر القطاع التعليمي تأثيراً واسعاً جراء النزاع المسلح، حيث تدنت الخدمات التعليمية وتقلصت نسب الالتحاق بالتعليم. لقد بلغ الفاقد التربوي نسبة 25% لمرحلة الاساس من الفئة العمرية (6-31) مما أثر كثيرا على عدد المستوعبين للدراسة في مرحلتي الأساس والثانوي الذي (كاد أن يختفي تماماً من الخطة التعليمية لولايات دارفور حسب التقارير الواردة من وزارات التربية والتعليم بولايات دارفور). ليس ذلك وحسب، بل ان النزاع المسلح بدارفور أدى الى خلق آثار سالبة في زيادة عدد الاطفال المحرومين من الاسرة والتعليم معاً في مرحلتي الأساس والثانوي، وكذا الحال في رياض الاطفال، على صعيد الكتاب المدرسي والمراشد فان دراسات ومسوحات الاممالمتحدة التي أجرتها بعثة التقييم المشتركة لدارفور أوضحت ان هناك فجوة واسعة ما بين عدد المدارس والحاجة الى الكتاب المدرسي والمراشد في كل مستويات التعليم، أما احصائيات المدارس والطلاب بولايات دارفور فانها تبدو مذهلة حقاً من حيث التدني وعدم المواكبة للمعايير الدولية. لقد بذل صندوق دارفور للاعمار والتنمية قبل حل السلطة الانتقالية لدارفور جهداً واضحاً ومعترفا به من قبل ولاة الاقليم خاصة في مجال تحسين البيئة التعليمية بتأهيل البنيات التحتية والاجلاس. في منتصف العام الماضي دخل الصندوق في شراكة خدمية مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لتوفير الكتاب المدرسي لدارفور بتكلفة عشرين مليون جنيه سوداني للمرحلة الأولى. لقد أصبح مشروع توفير الكتاب المدرسي لدارفور مشروعا قوميا مدعوما من كل الأطراف المعنية بالتعليم بنسق شراكات مهنية، كما هو الحال مع غرفة الطباعة في اتحاد أصحاب العمل، وصحيفة الصحافة، ومفوضية الشؤون الانسانية، ان المشروع اخذ يتسع بالتواصل وسيشمل على وجه الدقة كل العاملين بالتعليم واداراته في دارفور، وكل المهتمين بالعملية التعليمية بمن في ذلك المانحون الدوليون والمحليون ومنظمات المجتمع المدني المحلية والاقليمية والدولية ورجال الأعمال والمستنيرون ومؤسسات التعليم في المستويين القومي والولائي وآباء وأمهات التلاميذ والتلميذات في دارفور خاصة والمهتمون بقضايا التعليم في السودان عامة، وربما في دول الجوار الشقيقة. لقد آل ذلك الجهد النافع في وجهته الرسمية الى وزارة التنمية والبنية التحتية واعادة التأهيل بعد توقيع وثيقة الدوحة وتأسيس السلطة الاقليمية لدارفور، بأمل أكيد ان يشمل مشروع توفير الكتاب كل تلاميذ وتلميذات الاقليم، أينما كانت مدارسهم في القرى والريف والمدن والحضر. بينما كنت أتابع باهتمام مشاهد وكلمات تدشين السلطة الاقليميةبالفاشر من خلال التلفزيون، جال بخاطري انه ربما تكون أميز مؤشرات نجاح السلطة الاقليمية في المرحلة الراهنة للعملية السلمية، ليست كلمات د.التجاني سيسي الواضحة في تأكيد مبدأ (لا نملك الا ان ننجح)، ولكن أيضاً اهتمامه المبكر بضرورة ان يكون التعليم أولاً في الاقليم. بعد توقيع وثيقة الدوحة مباشرة وباسم حركة التحرير والعدالة تواصل مع القطريين مساهمة منه لانجاح تجربة توفير الكتاب المدرسي لدارفور، وبعد تعيينه واعلان مكونات السلطة الاقليمية استجاب لتدشين حملة قومية بمظلة السلطة الاقليمية مساهمة في تمويل الكتاب المدرسي لدارفور. واليوم أصبح مشروع الكتاب المدرسي مشروعاً قومياً، يهم كل الوطن ومواطنيه. في الفترة القليلة القادمة سيدرك اقليم دارفور ان الوطن لم يتخلَّ عنه، وان الوطن حريص على كل بنيه في دارفور، وهم يساهمون بالسعي الدءوب الى اعادة فتح فرص التعليم واسعة، ويساهمون في تحسين بيئة التعليم بترفيع قدرات المعلم، وجعله قائداً مبادراً في مجتمعه المحلي، وإعطائه فرصة ان يصنع المستقبل، كما فعل اليابانيون بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أعطوا المعلمين في كل المستويات سلطة وزير التعليم القومي في تحسين بيئة التعليم. ان الدارفوريين بكل سلطاتهم عليهم واجب عزيز آخر بتوفير ضمانات استمرار التعليم، بما في ذلك توفير المراشد، والموديلات، والسجل لكل تلميذ وتلميذة، والسجل الصحي لهما، وتوفير الكتب الادارية، والتأكيد على سجلات المدارس، وضرورة توفير المهمات المدرسية من البيئة المحلية تخفيضا للتكلفة وجعل التلميذ جزءاً من بيئته الثقافية الاجتماعية وقدراته الاقتصادية، ويأتي خاتماً وهاماً مساهمة كل اقاليم السودان للمساهمة في تعديل المناهج بما يتسق وبناء الوطن المتنوع والذي تصبح فيه دارفور نموذجاً للتعليم المتميز والعلم النافع.