دخل الرسول «ص» مكةالمكرمة، فاتحاً منتصراً، بعد أن كان خرج منها مطروداً محزوناً. فلما وطئت قدماه أرض مكة، والتقت عيناه عيون أهلها، خاطبهم قائلا «يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟».. قالوا «خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم». فقال النبي الأمين «أقول لكم كما قال يوسف لإخوته «لا تثريب عليكم اليوم»...اذهبوا، فأنتم الطلقاء»!!. أدرك الرسول، بحكمته، إن حل المشكلة لا يمكن أن يكون بنفس الطريقة التي أوجدتها، لذلك شرع يفتح الأبواب ذاتها التي انسدت في وجهه من قبل... «... من دخل دار أبي سفيان فهو آمن....». ولم يتردد الرسول الكريم لحظة، والتقط القفاز ليخرج القديم ويثبت أركان الدين الجديد... ولم يفكر في الانتقام واللؤم وكيل الشتائم، وتجاوز فأفلح، فحصد!! أما السيد رئيس جمهورية السودان، فقد دخل استوديو قناة النيل الأزرق، مهموماً مأزوماً. فالبلاد تمور حرباً، غلاءً، صراعاً، فساداً.. وقمعاً، لدرجة أن العالم كله ينظر مندهشاً إلى ما يحدث في السودان، وكأنه يشاهد مسرح اللامعقول!! ولم يقدم السيد الرئيس أي تصور لإصلاح سياسي، كما ظل يشيع البعض من أنصاره، ولم ينصف أصحاب المظالم، كما جزم آخرون...، بل بدأ يكشف في خيوط لعبة جديدة، وفي نفس الوقت «يتكعبل» بها: كاشا كان الرابع في القائمة، فلماذا، إذن، ظهر في أولها؟... لا إجابة!..، من يتمرد على المركز من ولاته، سيكون مصيره النسف التام... الفساد أمر متروك إثباته على الشعب!.. أصحاب المذكرات، من خلصاء النظام، سيعاقبون على فعلتهم الشنيعة!... أما المناصير فليبقوا في عراء الدامر صيفاً بعد أن باتوا شتاءً... وأمر الحرب مع دولة الجنوب وارد!! وشاهد الشعب اللقاء التلفزيوني حتى آخر دقيقة فيه، لتنطلق بعد ذلك تعليقاته: «لا جديد في خطاب الرئيس، سوى إنه شرع الأبواب المجهولة لحرب جديدة في البلاد، الرئيس يتوعدنا...أما المشهد السياسي فيظل كما هو: ٭ القوات المسلحة السودانية ظلت في حالة حرب وقتال، داخلي، منذ عام 1955م تقريباً، إلا من بعض استراحات قليلة، والآن تقاتل في أكثر من جبهة داخلية، وتستعد لخوض حرب خارجية. ٭ الشعب كره الحياة البائسة، ولم يعد قادراً على تحمل ضنك العيش المستمر والمتفاقم، وهو غاضب جداً على القلة التي ترفل في النعيم غير الموروث. ٭ أفق الحلول السياسية للقضايا العالقة مع دولة الجنوب، والتي من شأنها أن تؤدي إلى بعض الانفراج الاقتصادي، يسده لوردات الحرب. ٭ قضية المناصير لا يمكن حلها إلا برضائهم، شأنها شأن أية قضية مطلبية جماهيرية. ٭ الدولار يشق عنان سماء الجنيه السوداني.. وبعد شهرين ستتوقف المصانع، وما يهمنا في الأساس مصانع الأدوية. ٭ ما الذي تبقى للحياة في السودان؟ عندما ينتظر الناس لقاءً تلفزيونياً مع رئيس الدولة، يتم التنويه والدعاية له قبل فترة من بثه، فإنهم يتعاملون مع هذا اللقاء باعتباره قمة سياسية، من المتوقع منها، بل ويجب عليها، أن تلقي في المسرح السياسي حلولاً عاصفة، تحرك الراكد وتأتي بالجديد. لكن كل ذلك لم يحدث. وبدلا من أن يكاشف السيد الرئيس الشعب بالحقيقة، جاء اللقاء، وحديث السيد رئيس الجمهورية، مشبعاً بعدد كبير من المغالطات المنطقية (Logical Fallacies) الشهيرة والمعروفة. تقول كتب المنطق، إن المغالطة مناقشة مبنية على طمس الحقائق، لا تبرهن على صحة شيء، بل تلف وتدور حول القضية موضوع النقاش. وفي شكلها الخارجي، يمكن للمغالطة أن تبدو منطقية، أو ردوداً معقولة، بل دائماً ما تكون لها قدرة على الإقناع. والمغالطة قد لا تكون مدبرة أو محبوكة، ومن هنا فإن كل من يسعى ويبحث عن الحقيقة، لا بد أن يبتدئ برصد المغالطة والتعرف عليها، تمهيداً لإماطة اللثام عن وجهها. وإذا تتبعنا لقاء السيد الرئيس، وجدنا إنه، أي اللقاء، يظهر نصف الحقيقة، ويكشف عن المعلومة الناقصة، أو يمارس عملية تكديس هذه المعلومات على طريقة ال (card stacking)، وذلك حتى ينفي ما يردده الناس حول الفساد، ويخفي الصورة الكالحة للتدهور المريع في حال البلاد والعباد جراء السياسات الخاطئة. وكل ذلك الجهد، يأتي من أجل دعم محصلة خاطئة. فمثلاً: «هناك من دخل المؤتمر الوطني لشيء في نفسه، أو لأنه الحزب الحاكم، أو لأية أسباب...». هذا الكلام يولد عند المشاهد/ المستمع/ القارئ انطباعاً وتوقعاً بأن السيد الرئيس بصدد ذكر حقائق مهمة حول حوادث بعينها، لكن، فجأة يتم بتر الكلام حتى لا يقود إلى النهايات والنتائج الصحيحة/ المرة. أيضاً، استخدم الرئيس مغالطة شهيرة في علم المنطق تعرف بمغالطة «عرض الإحصائيات»، عندما قرأ إحصائيات تقرير المراجع العام ليدفع باتهامات الفساد بعيداً عن الإنقاذ. ومعروف أن تقارير المراجع العام عادة تنحصر في إساءات استخدام موارد الدولة المرصودة لميزانيات الوزارات والقطاعات الحكومية المباشرة. لذلك يبقى الحديث عن الشركات الحكومية/ الخاصة!!، الشركات والاستثمارات الخارجية، عمولات الاستثمار، الموظفين من الباطن لصالح رموز بعينهم، غسيل الأموال، والأموال المجنبة، وأهم من ذلك كله، الفساد الحي الذي يمشي على رجليه ويشاهده الشعب كل يوم... يبقى كل ذلك في النهاية، ورغم أنف الشعب، محض افتراء وأقاويل. بل السيد رئيس الجمهورية، وفي استخدام بارع لمغالطة «تحويل تبعة الإثبات» (Shifting The Burden of the Proof)، يطالب الشاكي بالاجتهاد ليثبت صحة دعواه، بدلاً من أن يجتهد المتهم بالفساد حتى يثبت براءته. وعندما تطرق اللقاء لأحداث نيالا والوالي المنتخب كاشا، استخدم السيد رئيس الجمهورية أكثر من مغالطة في وقت واحد. فمثلاً، في رده على السؤال عن القمع الذي حدث في نيالا، قدم السيد الرئيس إجابات ليست لها صلة بالسؤال «المساليت في جنوب دارفور لهم تاريخهم المستقل....» في تعبير مطابق، أو أقرب لما يعرف بمغالطة ال (Non Sequitur Fallacy). ومباشرة تبع ذلك بالهجوم الشخصي على الوالي المنتخب كاشا، متحدثاً عن ترتيبه في قائمة مرشحي المؤتمر الوطني كما ذكرنا سابقا (Ad Hominem Fallacy). وفي مسألة العلاقة المتوترة مع جمهورية جنوب السودان، عرج الرئيس على مغالطة «إبقى على العهد»، وفيها يحاول إقناع الشعب بأنه سيواصل المشوار في نفس الطريق الخطأ «الحرب أمر وارد»، حتى بعد اكتشافه ذلك، لأن اعترافه بالخطأ، ببساطة يعني إن كل الجهود والتضحيات التي بذلت كانت من أجل لا شيء. وبالنسبة لقضية المناصير، عمل السيد الرئيس على استخدام مغالطة «الإقناع بالقوة» عندما قال للمناصير «إبقوا حيث أنتم في الدامر»، وفي ذات القضية استخدم الرئيس مغالطة (Just in Case) الشهيرة، عندما تحدث عن سيناريو خفي يديره بعض أبناء المناصير «الجوافة نوَّرت.. والجوافة شالتّ». ومستخدماً مغالطة (Appeal to closure) يطالب السيد الرئيس الشعب بالصبر على المعاناة حتى العام القادم، أي أن ما تطرحه الإنقاذ من معالجات اقتصادية يجب أن تقبل كما هي، رغم أنها ذات المعالجات التي أوصلت الوضع الاقتصادي حد الأزمة والكارثة! لكن، الفشل الذي صبغ تجربة الإنقاذ منذ عام 1989م، لم تستطع سنوات الحرب الطويلة، ولا سنوات السلام القصيرة، غسله. وما فشلت الإنقاذ في تحقيقه خلال العقدين الماضيين، لن تنجح أبداً في تحقيقه خلال العامين القادمين. هذا البلد مطارد من كل الأشباح: شبح الجوع، شبح الصراع العنصري، شبح الحرب، شبح تفشي الجريمة، شبح التفتت والتمزق...، ونظام الإنقاذ لا يمتلك الشجاعة ولا الإرادة السياسية التي تجعله يلتقط القفاز ويشرع في معالجات حقيقية، أو حتى جلسات روحية لطرد هذه الأشباح!!. ولقاء السيد رئيس الجمهورية لم يقدم أي طرح لإصلاح سياسي حقيقي يطالب به الجميع، ويضعونه في مقدمة أجندتهم. بل هو زاد من سعة فتحة باب الحرب مع دولة الجنوب، والأزمة السودانية كل يوم تأتي بجديد. لكن، وكما يقول الفيلسوف وعالم الفيزياء الشهير البرت أينشتين «إن حل المشكلة لا يمكن أن يأتي من نفس العقلية التي أوجدتها». هل سمعتم من قبل، بنظام شمولي أفلت السلطة من يده طواعية، وبدون أية ضغوط عليه؟ إن القابض على السلطة بكل جبروت وتسلط، دائماً يفكر في باقي الشعب ككائنات أقل مرتبة، وأية تظلمات أو احتجاجات منها، تستوجب العقاب والتأديب. لا شيء يزحزح أنظمة الطغيان والاستبداد، غير إرادة جماهيرية قوية تتلمس طريقها لوضع الأمور في نصابها. لا بديل سوى الضغط.. والضغط الجماهيري، حتى ترحل الشمولية، وتتفكك أركان نظام الاستبداد.