لو تغنى وردى حتى بجداول الضرب كما يفعل صغار التلاميذ لتمايل الوطن القديم طرباً من حلفا الى نمولى، ولو صدح بصوته العذب لتوهج النيل مثل سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام، ولو داعب بأنامله المبدعة الأوتار لسافرت ألحانه الى تخوم بعيدة، فباتت عشقاً لدى صبايا الأمهرا وفتيات إنجمينا وشباب ممبسا وأسمرا وجيبوتى ومقديشو وكانو ولاغوس ... وكل عواصم الغرب والشرق الأفريقى. نحن وأجيال سابقة لنا وأجيال من بعدنا تشكل وجداننا بأنغام وردى، وشحذت أناشيده الوطنية رهاننا على الحرية، وعطرت ألحانه صباباتنا وعشقنا.. حدثت عنك نجمة جارة.. وزرعت إسمك حارة حارة ... يا حبيبى الدنيا ما أحلاها بديعة وحلوة بين إيديك ... ياما دربك كنت بفرشو ورد وحنية وأماني.. نسيت ضو القمر فى أجمل ليالي.. وشعاع النجوم يبهر كاللآلئ ... كل الطيوب الحلوة يا مولاتى والجيد الأنيق.. واللفتة والخصل اللى نامت فوق تسابيح البريق.. وخطاك والهدب المكحل وفتنة التوب الأنيق.. بالذى أودع فى عينيك إلهاماً وسحرا.. والذى أبدع فيك الحسن إشراقاً وطهرا... لم يكن إلا لقاءً وافترقنا.. كالفراشات على نار الهوى.. جئنا اليها واحترقنا ... أجمل من فراشة مجنّحة .. على ضفاف المقرن الجميل .. أجمل من نوّارة مفتّحة.. ترقد تحت ذهب الأصيل . والله يا سيدى أنت أجمل الفراشات المجنحة التى هامت على ضفاف المقرن الجميل، وما ذهب الأصيل إلا أنت. تذكرت مطالع السبعينيات ونحن طلاب بالسنة الإعدادية بجامعة الخرطوم نترقب عربة الهنتر على مشارف «البركس» وهى تأخذ وردى للتحقيق من معتقله بسجن كوبر عقب انقلاب هاشم العطا، فما من سبيل كان أمام الأمن سوى تلك المنطقة الملتهبة والمحتشدة بالطلاب، كان الطلاب يرفعون أصابعهم له بعلامة النصر فيرد التحية بمثلها باسماً. أذكر أيضاً منتصف السبعينيات حين حضرت له حفلاً غنائياً بجامعة الكويت.. فاعتلى خشبة المسرح وملأه شدواً وتطريباً، واستبدت النشوة بالحاضرين، فصعد أحد محدثي الثراء من مغتربي الكويت إلى المسرح ورمى فى وجه وردى بمئات الدولارات ظاناً أنه يسعده.. ويومها غضب وردى غضبة مضرية وأوقف وصلته الغنائية وأمر بإغلاق الستارة وكاد يضرب الرجل، وتطلب الأمر أكثر من نصف ساعة ليتواصل الحفل. والتقيناه عقب الحفل بيومين فى مكتب المهندس السودانى المرموق فى المنطقة العربية عبد الله صبار، فراح يشكو من تعذر توفر حجز بالطائرات له وفرقته، فقد كانوا مرتبطين بحفل فى دبى عقب حفل الكويت، فاتصل المهندس صبار بأحد شيوخ الكويت النافذين والمعجبين بفن وردى، وما كان من الشيخ إلا أن وضع طائرته الخاصة تحت تصرف وردى وفرقته تنقلهم أينما شاءوا، ومضى وردى يومها يعلق على ذاك السودانى المغترب الذى نثر الدولارات فى وجهه بالمسرح، وهو يقول إن الفنان الملتزم ليس براقصة تُرمى تحت أقدامها «النقوط» وتُنثر على رأسها الدولارات. ذاك هو وردى.. التزام مهنى وأخلاقى بقيم الفن الجميل، ورهان على الوطن والحرية أنضجته السنوات، وتناغم مع شعب يطيب الجلوس فى حضرته.. يا شعباً تسامى يا هذا الهمام.. تفج الدنيا يا ما وتطلع من زحاما.. زى بدر التمام، وفوق كل هذا انتماء لجيل منحه وردى أجمل لحظات العمر جيل العطاء المستجيش ضراوةً ومقاومة المستميت على المبادئ مؤمنا المشرئب إلى النجوم لينتقي صدر السماء لشعبنا جيل العطاء لك البطولات الكبيرة والجراح الصادحة ولك الحضور هنا بقلب العصر فوق طلوله المتناوحة ولك التفرد فوق صهوات الخيول روامحا [email protected]