أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المنظور المقاصدي الاسلامي وعلاقته ب«الإعلانات» الحديثة
الديموقراطية وحقوق الانسان في الاسلام... (2 - 4)
نشر في الصحافة يوم 26 - 02 - 2012

هل هناك مفهوم لحقوق الإنسان في الإسلام؟ ما سنده الفلسفي إن وجد؟ ما العلاقة بينه وبين الإعلانات الحديثة؟
تعد حقوق الإنسان في عصرنا كما تبلورت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في كانون الأول (ديسمبر) 1948 عن الأمم المتحدة وما تلاه من العهدين الدوليين الصادرين سنة 1966 للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، وما لحقهما من اتفاقات دولية ضد كل ضروب التمييز، المقياس الرئيس الذي تقاس إليه الدول والجماعات والمذاهب تقدماً أو تأخراً، تحضراً أو تخلفاً، بحسب احترامه أو انتهاكه.
وعمدت المنظمة الأممية نفسها إلى إقامة مؤسسة لمراقبة مدى التزام الدول الأعضاء باحترام تعهداتها، كما نهضت شبكات دولية ومحلية من المنظمات المتخصصة بإصدار التقارير حول مسالك الدول والجماعات إزاء هذه الإعلانات والمعاهدات. وتأسست محاكم إقليمية مثل »المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان« للفصل في ما تتهم به دول الاتحاد من تجاوز لمبادئ حقوق الإنسان، ومحاكم دولية تطول ولايتها حتى رؤساء الدول، وهو تطور محمود في ذاته.
وهذا التطور يعبر عن نوع من يقظة ضمير بشري إزاء ما تعرضت وتتعرض له جماعات بشرية ضعيفة من عدوان على إنسانيتها يبلغ حد الإبادة، وإن كان الأمر لا يخلو من أقدار من النفاق، إذ تبارت حتى أشد الأنظمة والجماعات دكتاتورية في رفع هذه الراية والتحصن بهذا الحصن الإنساني، للاستخفاء بجرائمها ضد أساسيات حقوق الإنسان. ولا يخلو كذلك من ازدواجية معايير تسمح بملاحقة الضعفاء (السودان) وغض الطرف عن الأقوياء (الأميركيين والإسرائيليين). ومع ذلك يبقى هذا التطور من منظور الإسلام محموداً ولو لمجرد الاعتراف بهوية إنسانية واحدة يستحق حاملها، بمجرد هذا الوصف، حقوقاً متساوية بصرف النظر عن الجنس واللون والدين والطبقة. كيف لا وقد جاء الإسلام معلناً تكريماً إلهياً لجنس الإنسان »ولقد كرمنا بني آدم« (الإسراء:70).
حق الفرد وحق الجماعة
الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله، وضمن عهد الاستخلاف -الشريعة الإسلامية- تتنزل جملة حقوقه وواجباته. ويتم التوفيق في الإسلام بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، فقد تضمّن كل حق للفرد حقاً لله، أي للجماعة، مع أولوية حق الجماعة كلما حدث التصادم. ولأن شرائع الإسلام إنما جاءت لرعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهي مصالح متدرجة من الضروري إلى التحسيني إلى الكمالي، كان من الطبيعي أن تعد تلك المصالح هي الإطار العام الذي تنتظم داخله مسالك الأفراد وتمارس فيه الحريات الخاصة والعامة.
لذلك كان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة الأندلسي أبو إسحق الشاطبي في رائعته »الموافقات«، قد حظي بالقبول لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين أساساً وإطاراً لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي.
الحرية في الإسلام وفي تجربته الحضارية - على ما شابها - قيمة أساسية أصيلة باعتبارها أساس صحة الشهادة، أما العقائد الإسلامية وأساس الحقوق والواجبات، فقبل أن يؤكد المؤمن إقراره بوجود الله وصدق الرسول يؤكد ذاته كائناً عاقلاً حراً. إن »الأنا« في لحظة وعي وحرية تقرر »أشهد (أنا) أن لا إله إلا الله وأشهد (أنا) أن محمداً رسول الله«.
ومن حقوق الإنسان المضمونة في الإسلام حرية الاعتقاد، وقد تواترت في تأكيدها آيات القرآن وترجمتها »صحيفة« المدينة، إذ اعترفت بحقوق وحريات كل المكونات الدينية والعرقية فيها، فبرؤ تاريخ الإسلام من حروب التطهير الديني والعرقي، بسبب الإعلان القطعي لمبدأ »لا إكراه في الدين« (البقرة:256). المبدأ الأعظم في الإسلام والأساس الأصلب للحقوق والحريات، بما يجعله حاكماً على كل ما يخالفه. فكل ما يخالفه من نصوص - بحسب تفسير »التحرير والتنوير« - منسوخ أو مؤول. وتتفرع عن حرية الاعتقاد جملة من الحقوق، منها المساواة قاعدة التعامل في المجتمع الإسلامي، فلا يتفاضل الناس في المجتمع الإسلامي بلون ولا بجنس ولا باعتقاد، هم سواسية أمام القانون.
قال الإمام علي - رضي الله عنه - عن حقوق المواطنين غير المسلمين في دولته »فإنما أعطوا الذمة (أي الجنسية) ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا«، ولا ترد الاستثناءات من قاعدة المساواة بين المواطنين إلا في حدود ضيقة هي من مقتضيات النظام العام وهوية المجتمع وتوزيع الأعمال في الأسرة والمجتمع، كالاختلاف في بعض أنصبة التوارث.
والجدير بالملاحظة أنه رغم أنه ليس في مصطلح »أهل الذمة« - أي غير المسلمين المتمتعين بحماية الدولة - ما يعاب، فإنه ليس من ألفاظ الشريعة لازمة الاستعمال في الفكر السياسي الإسلامي مهما تحقق الاندماج بين المواطنين وقامت الدولة على أساس المواطنة، أي المساواة حقوقاً وواجبات. وقد كفل الإسلام لأهل كل عقيدة إقامة معابدهم وشعائرهم بها، إعمالاً لأصل الحرية الدينية وعدم الإكراه.
وكانت وصايا الخلفاء للقادة والعسكريين صارمة في أن يتركوا العبّاد وما نذروا أنفسهم له، فتعايشت كل الديانات تحت حكم الإسلام القوي، حتى إذا تحولت موازين القوة لغير مصلحة المسلمين كان مآلهم ومساجدهم - غالباً - التنكيل وحتى الإبادة، قديماً وحديثاً، وما حل بمسلمي الأندلس والبوسنة وكوسوفا والشيشان من حرب تطهير عرقي وديني شاهد.
وكذا فشوّ العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا) بسبب رفض الاعتراف بالإسلام وبحق الحرية والتعدد الديني، بينما اعترف الإسلام ابتداء بحرية المعتقد »لكم دينكم ولي دين« (الكافرون:6)، فكانت دعوته متكررة إلى الجدل بالتي هي أحسن وإلى اللقاء على المشترك من توحيد لله ومحاربة للظلم »قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباب من دون الله« (آل عمران:62).
لذلك لا عجب أن توافرت دار الإسلام على أقدم بيع اليهود وكنائس النصارى وحتى المعابد الوثنية، تمتعت وأهلها بحماية شرائع الإسلام السمحة، بينما لم يكد يمر على أقدم مسجد في الحواضر الأوروبية قرن. كما حفلت دار الإسلام بتعايش مختلف المذاهب الإسلامية، فلم تعرف حروب الإبادة والتطهير العرقي -عدا حوادث استثنائية- بل كانت ملجأ للمضطهدين من كل ملة.
ومن حقوق الإنسان التي كفلها الإسلام حرية الفكر والدعوة والإعلام والمناقشات الدينية باعتبارها فروعاً لقاعدة »لا إكراه في الدين« (البقرة:256). يقول المودودي وهو المنعوت عادة بالتشدد »سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة والرأي والتفكير والاجتماع ما هو للمسلمين سواء بسواء، وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم، فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة وعمالها، حتى رئيس الحكومة نفسه ضمن حدود القانون، وسيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثلما للمسلمين من الحق في نقد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين، وسيكون لهم الحرية كاملة في مدح نحلهم وإن ارتد - أي المسلم - فسيقع وبال ارتداده على نفسه، ولا يؤخذ به غير المسلم.
حرية الضمير
ولن يكره غير المسلمين في الدولة الإسلامية على عقيدة أو عمل يخالف ضميرهم. وسيكون لهم أن يأتوا كل ما يوافق ضميرهم من أعمال ما دام لا يصطدم بقانون الدولة. (أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت، دمشق، دار الفكر، 1964، ص 316).
وقد يعترض على هذا الحق بمسألة الردة، مع أن القرآن وإن توعد المرتدين بأشد العقاب يوم القيامة فإنه لم ينص على عقوبة في الدنيا، وإنما جاء النص على ذلك في الحديث، بما أمكن لمفكرين إسلاميين حمله على أنه من تصرفات النبي السلطانية، فيترك لهيئات الدولة في كل عصر تقدير مدى خطر الظاهرة، ومعالجتها بحسب ذلك، تمييزاً بين ردة فردية لا خطر منها وردة جماعية تهدد الكيان، كالتي حدثت في أول الإسلام، فكانت تمرداً سياسياً مسلحاً مهدداً للنظام العام أي جريمة سياسية، ولم تكن مجرد فكرة فتعالج بمثلها، وهو ما يزيل التصادم ومبدأ حرية الاعتقاد المكفولة شرعاً.
كما يؤكد الإسلام حق الفرد في التملك والتمتع بثمار عمله، واعتبار الملكية وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد تحت رقابة ضميره الديني وسلطة المجتمع ضمن مصلحة الجماعة وفي حدود الشريعة في إطار نظرية الاستخلاف، دون أن يغيب عنا أن القصد من الملك هو حفظ التوازن الاجتماعي بما يعنيه من تحريم وجود طبقات مبنية على التفاوت، وبالخصوص إذا استند إلى أساس غير مشروع كالغش والاحتكار والسرقة واستغلال حاجة الفقير (الربا) والنفوذ السياسي، الملكية هنا مضمونة ولكنها تختلف جذرياً عن التصور الرأسمالي، ملكية أساسها العمل المشروع، وملتزمة بالمصلحة العامة. أما الحقوق الاجتماعية فالعمل واجب ديني، وفي مال الأغنياء حق معلوم للفقراء، يمكن المحتاج انتزاعه إن لم تفعل الدولة، ولا حرمة لمال ما دام في المجتمع محتاج.
حقوق العقل والجسد
ومن الحقوق الاجتماعية حق التعليم، وهو إلزامي (فريضة)، والحق الصحي، والحق في السكن والكساء وإقامة أسرة وحرية التنقل وحرمة المسكن وحق الإضراب عن العمل لتغيير عقود ظالمة فرضها الأقوياء على الضعفاء، فلا يجب الوفاء بها. »وليملل الذي عليه الحق« (البقرة:282)، أي شروط العقد.
ومن الحقوق أيضاً المشاركة في الشؤون العامة، فانطلاقاً من مبدأ المساواة والعدل الإلهي وواجب كل مسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاء الإسلام ثورة على الفراعنة، داعياً إلى الاشتراك في الأمر العام »وأمرهم شورى بينهم« (الشورى:38). فلا جرم أن يكون الإسلام سعيداً بما توفق إليه البشر من تطوير لأدوات الشورى المعبر عنها بالنظام الديموقراطي في عصرنا، بما يسمح بتجسيد سلطة الأمة وقوامتها على حكامها تولية ومراقبة وعزلاً، على أساس المساواة بين المواطنين والتعددية السياسية وحرية التعبير وتداول السلطة عبر انتخابات دورية تعددية نزيهة واستقلال القضاء وفصل السلطات.
فليس في تعاليم الإسلام ولا في مقاصده ما يتنافى مع مقومات الديموقراطية، بل هي أفضل ما تمخض عنه العقل البشري حتى الآن من ترتيبات حسنة لتقليم أظافر الفراعنة، وكل خير فالإسلام أولى به. ومعلوم عند علماء الإسلام أن السياسة إن كانت أصولها ثابتة في الإسلام فإن أدواتها التطبيقية من أمور الدنيا التي تتطور وتتحسن بتطور العقول والتجارب، قال رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم »أنتم أعلم بأمور دنياكم«، بمعنى تقنيات ووسائل تنظيم أمور معاشكم من زراعة وصناعة ومواصلات وتدبير شؤون الحكم بما هي مصالح تحقق مقاصد الشريعة ولا تتصادم مع ثوابتها.
من حق المسلم بل من واجبه أن يغير المنكر ويثور على الظلم وأن يحرض على ذلك متوسلاً بكل سبيل احتجاجي لتغيير المنكر كالمسيرات والاعتصامات والحملات الإعلامية وتأسيس التجمعات والجبهات، فلا يقر له قرار حتى يطيح الظلم ويقيم العدل، وإلا وقع في الإثم.
حق اللجوء السياسي
وأخيراً حق الأمان أو اللجوء السياسي، وهو حق تكفله الدولة الإسلامية لكل إنسان بقطع النظر عن جنسه وملته، من استنجد بالمسلمين وطلب الأمان عندهم فالواجب تمكينه من هذا الحق وحمايته حتى يقرر العودة إلى وطنه أو إلى مكان آخر، وذلك مقتضى الآية »وإن أحد من المؤمنين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه«. (التوبة:6)
يقول المفسر ابن كثير »إن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه«.
والاتجاه العام لإعلانات حقوق الإنسان والعهود الدولية يتساوق مع شرائع الإسلام ومقاصده في العدل والحرية والمساواة في التكريم الإلهي للإنسان، بما يجعلنا إزاء تطور محمود لو أنه تعزز بواقع مطابق له، إلا أن حقوق الإنسان في الإسلام تمتلك ميزات تفوّق.
تجربة التاريخ أثبتت أن الإنسان لا يعيش من دون أن يتخذ لنفسه إلهاً، »ففي النفس البشرية جوعة لا يسدها غير الإقبال على الله«، كما ذكر ابن القيم. الخلل الأساسي في إعلانات حقوق الإنسان استنادها - غالباً - إلى فلسفة دهرية، تزعم إمكان استقلال الإنسان عن خالقه في تنظيم حياته وتحصيله للسعادة، وكانت النتيجة رغم التقدم الجزئي تسلط الأقوياء على الضعفاء وتدمير البيئة وتفكيك أنسجة التواصل والتراحم بين البشر. بينما استناد حقوق الإنسان إلى خالق الإنسان، يعطيها من جهة قدسية تحد من العبث بها، ويجعلها أمانة في عنق كل المؤمنين، على اعتبار حمايتها واجباً دينياً يثاب على فعله ويعاقب على تركه. كما يعطيها أبعادها الإنسانية بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والإقليمية والاجتماعية، إذ إن الله رب العالمين وليس لقوم أو أمة وحسب، فالخلق كلهم عيال الله.
واستناد الحقوق إلى خالق الإنسان يعطيها شمولاً وإيجابية تخرج بهما عن الشكلانية والجزئية، لأن الله خالق الإنسان، وهو أعلم بالحاجات الحقيقية لمخلوقاته، ويعزز سلطة القانون الحامي لتلك الحقوق بسلطة الضمير الديني المتمثل في شعور المؤمن برقابة الله الدائمة. أما لماذا دول الإسلام المعاصرة معدودة في مؤخرة دول العالم بمقاييس حقوق الإنسان، فليس ذلك عائداً بحال لا إلى الإسلام، فمبادئه وتجربته الحضارية شاهدان على سموه وانفتاح مجتمعاته، ولا إلى المسلمين، لأنهم محكومون بحكومات لا تمثلهم بل تمثّل عليهم، بل حتى تمثّل بهم، مستظهرة عليهم بميزان قوة دولي متغلب، إلى حين »وتلك الأيام نداولها بين الناس« (آل عمران:140).
جدل عالمي
ويمثل موضوع حقوق الإنسان في زمننا هذا، وبالخصوص بعد انتهاء الحرب الباردة، أهم محاور الجدل والصراع بين الشعوب المطالبة باحترام حقوقها وبين الحكومات المتهمة بانتهاكها، كما أن هذه الحقوق غدت الميزان الذي توزن به سياسات الدول حسناً أو قبحاً، بحسب مدى احترام الحقوق، وأكثر من ذلك تحول موضوع حقوق الإنسان أيديولوجية لبعض الدول وسيفاً مسلطاً تستخدمه في سياسات الهيمنة ضد من تشاء وقتما تريد، تسويغاً لإصدار إدانة ضد المستهدف والمضي حتى إلى إخضاعه لشتى العقوبات التي قد تصل إلى حد فرض الحصار الاقتصادي عليه وحتى العسكري الممهد غالباً لغزوه ووضعه تحت السيطرة.
وتأسست على امتداد العالم شبكات واسعة تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان، غدت تمثل أنشط مؤسسات المجتمع المدني، وكثيراً ما تولت تمويلها مؤسسات غربية خاصة أو رسمية لمراقبة سلوك الدول ومدى احترامها لحقوق الإنسان. وبعض هذه المؤسسات تحتضنها منظمة الأمم المتحدة، ولها نظام للقاءات الدورية ومندوبون يجوبون أقطار الأرض يرفعون التقارير حول سلوك هذه الدولة أو تلك من جهة مدى احترامها لحقوق الإنسان كما نصت عليه المواثيق الدولية وبالخصوص ذلك المعروف ب »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« الذي أقرته الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1948.
وتتالى منذئذ صدور سيل من النصوص والمواثيق والدراسات تشرح وتفصل وتستكمل الإعلان الأممي الأول الذي مهدت له »منابع حقوق الإنسان ومراضعها جمعيات النظراء الفضلاء«، فهو تراكم خلقي ساهم في توريثه للإنسان أمراء إنكلترا حين فرضوا الماجنا كارتا على الملك منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وساهم فيه سييس ورفاقه في الثورة الفرنسية، وساهم قبل ذلك إعلان جفرسون والثائرون الأميركان على الاستعمار البريطاني، وازدهت البرجوازية بحقوقها الفردية الأنانية.
إن التصورات الغربية في مجال الحريات وحقوق الإنسان تمتد جذورها إلى الفلسفة الطبيعية بافتراض طبيعة للإنسان تنبثق منها حقوق للإنسان، وقد رأينا مدى ما تردت فيه تلك التصورات من تلاعب وازدواجية معايير ونسبية وخضوع لمنطق موازين القوة وخدمة لمصالح أقلية قد لا تتجاوز 5 في المئة من البشر تضع يدها على معظم الموارد وتدفع بالكثرة الكاثرة إلى لجج الفقر والمجاعة والأوبئة وتسخّر ثمار البحث العلمي لمصالحها الخاصة مطلقة العنان لأنانيتها على حساب الضعفاء، بما غدا يمثل تهديداً حقيقياً للسلام الدولي وللبيئة وللمصير البشري جملة بما يكاد يفقد مواثيق حقوق الإنسان كل تأثير حقيقي على المسالك الفردية والسياسات المحلية والدولية. والسبب الحقيقي هو خواء هذه المواثيق من مضمون عقدي يعطي معنى لحياة الإنسان ويقدم أساساً متيناً لحقوق وموازين، يكون العبث بها وإخضاعها للنسبية ومواقف الانتهاز عسيراً.
بينما التصورات الإسلامية للحقوق والحريات وسائر القيم والموازين المعيارية تتأسس على حقيقة بدهية ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون، إن لهذا الكون العجيب خالقاً ومالكاً متصرفاً هو أعلم بمخلوقاته فهو المشرع الأعلى والآمر المطلق، الناس كلهم سواسية من حيث كونهم عباده، قد استخلفهم في ملكه بما استحفظهم من أمانات العقل والإرادة والحرية والمسؤولية، وبما من عليهم من بعثات رسولية هدتهم إلى ما ارتضاه لهم ربهم من أصول وموازين وتصورات تكفل لهم السعادة في العاجل والآجل إن هم فقهوها على وجهها الحقيقي واتبعوا هديها، وإلا وقعوا في لجج الشقاء الأبدي.
المنظور المقاصدي
ولقد ارتضى كثير من المفكرين الإسلاميين المعاصرين الباحثين في موضوع حقوق الإنسان المنظور المقاصدي الذي أسسه الفقيه الأندلسي الكبير أبو إسحاق الشاطبي في موسوعته الشهيرة »الموافقات« وطوره وجوّد صياغته خليفته التونسي الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه« مقاصد الشريعة« ارتضوه إطاراً عاماً لحقوق الإنسان، على اعتبار أن غاية الشريعة العليا هي تعريف الناس بربهم وعبادته وفق ما جاءت به رسله، ولخّصته رسالة خاتم الأنبياء عليهم السلام.
يقوم المنظور المقاصدي على اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية التي صنفها الشاطبي إلى ضروريات لا غنى للناس عنها وحاجيات تغدو الحياة دونها في حرج ومصالح تحسينية تضفي على الحياة بهاء. وقد حدد في الصنف الأول مراتب متدرجة من المصالح الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها، وإلا حل به الشقاء والبلاء، تبدأ بحفظ الدين باعتباره الركن الأعظم في البناء، ويليه حفظ النفس ثم العقل ثم حفظ النسب فحفظ المال، وألحق ابن عاشور مقصد العدل ومقصد الحرية.
وكشف الشاطبي أن كل شرائع الإسلام تدور حول إيجاد هذه المصالح وتحصيلها ودرء ما يناقضها ويفسدها، وفي هذا المنظور يمكن أن تندرج المنظومة المعاصرة لحقوق الإنسان باعتبارها مناهج لتحقيق مصالح الإنسان ودرء المفاسد عنه، وما يقتضيه ذلك من إقامة نظام للجماعة على أساس العدل، وكذا تأسيس علاقات دولية تكفل السلام والعدل والتعاون بين الأمم بديلاً من التحارب واستغلال الأقوياء حاجات الضعفاء.
إن تيارات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث إذ لا تني تكشف عن ثغرات المشروع الغربي ونزعاته الهيمنية وضروب ازدواجية ممارساته الحقوقية لم تتردد في الإقدام على تقنين الشريعة وتقديم صياغات حديثة لحقوق الإنسان وفق المنظور الإسلامي وعلى أسسه وبيان مواطن اللقاء والاختلاف مع المنظور الغربي وبالخصوص في مجال الأصول الفلسفية المتباينة جداً بين المنظورين.
فعلى حين يوكد مفكرو الإسلام أن الإيمان بالله هو معين وأساس الحقوق والواجبات، ذلك أن حقوق الإنسان وحرياته وواجباته هي فروع لتصوره الكوني ولمنزلته في الكون والغاية من وجوده يوكد التصور الغربي في المحصلة استنادها إلى الطبيعة بما يطبع إعلانات حقوق الإنسان في المحصلة - وإن دون تصريح - بطابع علماني يجعل الأولوية للإنسان وأنه مركز الكون، فيما التصور الإسلامي يوكد ارتباط كل قيمة بالمصدر الذي تستمد منه كل الموجودات معناها ألا وهو الله تبارك وتعالى.
وتغدو الحقوق هنا واجبات مقدسة لا يحق للعبد المستخلف أن يفرط فيها، لأنها ليست ملكاً له بل مطلوب منه التصرف في كل ما يملك وفق إرادة الواهب، فهو المالك الأصلي والإنسان مستخلف، فما بيد الإنسان من ثروة وصحة وما تحت يده من إمكانات كلها هبة من الله مطلوب منه مراعاة شروط المالك الأصلي في التصرف فيها الذي سيقتضيه حساباً على ذلك في الدنيا والآخرة جزاء أو عقاباً.
وإذا كانت التجارب البشرية قد أثبتت أن الإنسان لا يعيش من غير أن يتخذ لنفسه إلهاً فإن استناد حقوق الإنسان إلى خالق الكون رب العالمين، يهبها قدسية وثباتاً يدرأ عنها النسبية والعبث والمعايير المزدوجة ويجعلها أمانة في عنق كل مؤمن وليست مرتهنة لحاكم محروسة فقط بشرطته عندما تحضر، ويعطيها أبعادها الإنسانية بمنأى عن الاعتبارات القومية التي تتأطر فيها منظومات حقوق الإنسان كما هي في العالم اليوم، كما يعطيها شمولاً وإيجابية تخرج بهما عن الشكلانية والجزئية.
ثم إن ارتباط حقوق الإنسان بالشريعة لا يعرضها لخطر حكم ثيوقراطي يتحكم به رجال الدين، فليس في الإسلام سلطة دينية تحل وتحرم وتنطق باسم السماء، وليس بعد ختم النبوة من يملك أن يصدق في ادعائه النطق باسم السماء، وإنما الأمر متروك لحظوظ الناس في الفهم والاجتهاد لنصوص الشريعة ومقاصدها وتنزيلها على واقع جديد متميز لاستنباط حكم يلائمه بحسب آليات الاجتهاد المتعارفة. وقد كانت خطبة رسول الإسلام التوديعية إعلاناً عاماً لحقوق الإنسان سبق كل الإعلانات بمئات السنين.?
* زعيم حركة النهضة التونسية، حزب الغالبية في حكم ما بعد الثورة، والنص مقطع من كتابه الجديد »الديموقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام« الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت ومركز الجزيرة للدراسات في الدوحة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.