تراجيديا المنفى والغربة عن الأوطان ضاربة الجذور في أعماق التاريخ وقارعة الجغرافيا، فقد كان النفى والتغريب عن الوطن عقاب الطغاة للمعارضين والمغضوب عليهم وكان من أشهر ضحاياه في التاريخ البعيد شاعر الحب أوفيد الذي نفاه الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر إلى مكانٍ تتداخل فيه الفصول وتختلط فيه التقاويم. كذلك شاع في الحقبة الإستعمارية نفي الزعماء الوطنيين المطالبين بالإستقلال إلى جزرٍ نائية في المحيطات لإحكام السيطرة عليهم ومنع تواصلهم مع شعوبهم. أما في السودان فقد قام قادة إنقلاب 17 نوفمبر بنفي زعماء الأحزاب المعارضة من مركز الحكم والفعل السياسي في الخرطوم إلى الجنوب ( ربما رجماً منهم بأن الجنوب سيكون دولة منفصلة) .. واستلهم قادة الإنقاذ ذات النهج اللئيم حين كانوا يتعمدون ترحيل المعتقلين السياسيين إلى سجونٍ في مدنٍ تبعد كثيراً عن مناطق سكناهم إمعاناً في القسوة عليهم، إذ يضيفون إلى ظلام السجن ووحشته حرمانهم من العواطف الإنسانية التي يتزودون بها خلال زيارات أحبائهم لهم وحرمانهم من إدارة شؤون أسرهم حتى ولو كان ذلك عبر قصاصات الورق التي ينقلها الحراس بين الزنازين وبوابة السجن الرئيسية .. ثمّ كان أن أعملوا سيف الفصل والتشريد في الخدمة العامة، بشقيها المدني والعسكري، خلال مرحلة التمكين ( التي بُشرنا بانتهائها قبل أيام) ليجبروا الآلاف على مغادرة وطنهم بحثاً عن ملاذٍ آمن وأسباب عيشٍ كريم في أصقاعٍ بعيدة. عندما يعامل الوطن ما يزيد على ربع عدد أبنائه كفائض ويسوقهم زمراً إلى شتات المنافي والتيه في دروب العالم، كما حدث في السودان خلال العقدين الماضيين، فذلك يكفي دليلاً على فشل السياسات التي تهيمن عليه وتكلس أنشطة الحياة فيه. قد لا نضيف جديداً إذا تحدثنا عن مأساة نزيف العقول والكفاءات والسواعد التي يحتاجها الوطن في عملية البناء ورفد الحراك الإنساني اللازم لمقاومة التدهور الذي يعصف بالأخضر واليابس، لكن المأساة الحقيقية هي انسداد الآفاق والتتابع المحموم للكوارث والأزمات السياسية والإقتصادية وتفاقمها لدرجة جعلت الكثيرين من سودانيي الشتات يفقدون الأمل في العودة النهائية ويوطنون أنفسهم وأطفالهم على الإقامة الدائمة في دول المنافي ويسعون لذلك بمختلف الوسائل، حتى أصبح لا مكان في واقعهم لقصيدة الشاعر الألماني بريخت التي يقول فيها «لا تدق مسماراً في حائط ، لا تعلق صورةً على جدار، فإنك في غدٍ عائد». أما في داخل الوطن حيث تشحُّ الحرية ويعزُّ رغيف الخبز على غالبية الناس وتنعدم فرص المنافسة الشريفة وتعلو كفة الولاء على كفة الكفاءة، فقد أصبحت الهجرة أمنيةً عامة لأعداد هائلة من المحرومين من حقوقهم، خصوصاً من شريحة الشباب الذين سُدّت في وجوههم أبواب المستقبل .. ففي تقرير أعدته وكالة رويترز في السودان وبثته أوائل الشهر الماضي، قالت فتاةٌ حديثة التخرج: «لا أريد إلّا أن أغادر السودان. لا أرى أي آفاق للحصول على عمل هنا. أعتقد أن 90 في المئة من الخريجين يرغبون في مغادرة السودان.» ، وقريباً من هذه العبارات المفعمة باليأس والأسى رددها مهاجر سوداني في برنامج حواري لإحدى الفضائيات حين قال: «أحب وطني وما زالت أنفاسي تسري هناك، لكنني لا أستطيع العودة إليه بسبب سوء الأحوال السياسية والإقتصادية وبسبب ما يتوفر لي من دعم مادي أقدمه لأهلي الماكثين هناك حيث هم». تراجيديا المنفى التي يعيشها ملايين السودانيين هي أحد تجليات مأزق علاقة وطنهم بالخبز والحرية. ولئن صرخ الشاعر الأعمى جون ميلتون ذات غربة: «أينما تكن الحرية يكن وطني» ، فإن السوداني في غربته ومنافيه العديدة لا يجد بديلاً عن وطنه، بل يبقى على الدوام مشدوداً إليه ومصلوباً على خشبته حباً وانتماءً .. ويبقى غريب الوجه واليد واللسان، مفضوح الحب والإنتماء بشكله ولونه وعاداته وصفاته وطبائعه المغروسة في وعيه ولاوعيه .. يظل السوداني في منافيه العديدة، بين الحنين والأنين، يهفو ليوم العودة لوطنه ليروي عطش الروح من محبته، لكنه يخشى أن يجده قد تعرض لمزيدٍ من النقص من أطرافه أو فقد تلك الفضائل التي طالما ميزته عن سواه من الأوطان.