من التاريخ الذي لم يرصد أو يسجل، تاريخ الكثيرين من أبناء السودان الذين كانوا يأتون للحجاز ليس للحج والعمرة فقط، بل كانوا يفدون للجوار والإقامة بقية العمر، بجوار الحرمين الشريفين، سواء أكانت تلك الإقامة بجوار البيت الحرام في مكةالمكرمة أو المسجد النبوي الشريف في المدينةالمنورة، على ساكنها أطيب السلام، والشاهد أنّ هناك أجيالاً وأجيالاً عبرت بحر القلزم، وتركت الوطن، وفارقت الأحباب ومراتع الصبا والطفولة في السودان الذي هو بلد رفيع واسع الأفياء، فيه ترفرف رايات الحرية بكل أنواعها: حرية المعتقد، وحرية التعبد وحرية العيش الكريم والرغيد، وما كان بلداً طارداً، بل كان موئلاً لهجرات لا تحصى، ومقصداً لأمم، وقبلة لشعوب كثيرة من إفريقيا السمراء إلى أوروبا البيضاء وآسيا الصفراء كالهند والسند وبلاد تركب الأفيال، إضافة للمصريين من نقادة وقوص وألمنيا وسوهاج التي ظهرت في الشعر الشعبي في قول الشاعرة «أم برعة» وهي تصف خليفة ود بدر: من السوهاج للسوح ونازل فيك الخليفة أبضهرنْ سفينة نوح بل إن ّ أهل القفقاس وأرمينيا والمجر ونيجيريا والنيجر ومالي وموريتانيا والمغرب والجزائر، صاروا نجوماً في سماء أهل السودان، أضف إلى هؤلاء أهل سوريا ولبنان الأردن وفلسطين وغيرهم من الذين وجدوا في السودان مستقراً، وصاروا جزءاً من نسيج السودان الإثني والاجتماعي. وسأكتب هنا عن بعض من أهلنا الذين نزحوا للحجاز مجاورين في القرن الماضي، ولهم الآن ذرية من أحفادهم صاروا سعوديين، ولعل في ذلك تسجيلاً لتاريخ عن جزء من حياة بلادنا المتعددة الجوانب، ولعلني أبدأ بجدنا وخال والدنا الشيخ محمد أحمد التكينة، وهو ابن الشيخ محمد ود التكينة الكبير، وقد ورد اسم الشيخ محمد أحمد رحمه الله ضمن علماء المسجد النبوي الشريف، ومن ذلك ما ورد في رثاء أحد كبار علماء المدينة، وهو الشيخ حسن بن مصطفى بن صادق بن إبراهيم صيرفي، الذي كتب عنه أنه ولد في المدينةالمنورة في الساحة في رمضان سنة 1336ه، وهو من أسرة معروفة بالعلم والأدب، فجده الشيخ محمد صادق بن إبراهيم بن صالح العقبى الجزائري المالكي، وتولى إفتاء المالكية في المدينةالمنورة كما وجدته في فتوى مؤرخة سنة 1345ه، وابن عم والده الشيخ الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي العالم والشاعر الكبير وأحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين في الجزائر مع عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، والعم حسن تربى في هذه الأسرة الكريمة فوجهوه إلى طلب العلم، فحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ بشير العقبي وأتمه على يد ابنه محمد بشير وعمره 10 سنوات، ثم التحق بحلقة الفقيه الميلود بن أبي بكر الجزائري نقيب العلماء الذي تفقه عليه وقرأ عليه متون الفقه المالكي، وورد في المقال أن الشيخ حسن قرأ ألفية ابن مالك والعزية في الفقه المالكي، وتفقه على السيد أحمد محمد التكينة السوداني وأجازه، ويضيف: «أن شيخه التكينة أو الميلود اختلط عليَّ كان يغيب بعض الأحيان فينتدب تلميذه الصيرفي ليقوم بالتدريس بدلاً من شيخه في الفقه أو النحو بحضور كبار التلامذة، فقد كانت للشيخ محمد أحمد حلقة علم درس عليه فيها آلاف الطلاب، وكان يجيزهم، كما كانت طريقة التعليم وطريقته قديماً، في منارات العلم، في الحواضر الإسلامية الشهيرة قبل الجامعات الحديثة في الحرمين والجامع الأزهر وجامعة الزيتونة في تونس. وللحديث بقية.