يبدو ان اجواء الصيف القائظة لم تمنع من اندلاع احتجاجات في اماكن متباعدة في البلاد، ولاسباب غاية في الاختلاف كما نطالع، ففي اقاصى الغرب خرج مواطنو مدينة المجلد الواقعة على مرمى حجر من حقول النفط احتجاجا على تردى الخدمات الصحية وعدم تنفيذ الطرق التي تعهدت بها الحكومة، واستمر اعتصام مواطني المجلد هذه المرة لاكثر من اربع ساعات قضوها في المطالبة بالصوت العالي بتنفيذ وعود الرئاسة وانشاء مشاريع التنمية، وفسر شاب من المجلد ل» الصحافة» بالامس سر الاحتجاج فقال ان منطقتهم ظلت ترفد الدولة بملايين الدولارات في حين ظلت تعيش نقصا كبيرا في الخدمات الاساسية الضرورية. وما اخرج مواطني المجلد اخرج من قبل اسابيع مواطني بابنوسة تلك المدينة العريقة والمحورية في طريق الخرطوم البرى الى الجنوب. وتزامن مع احتجاجات المجلد اعتصام على بعد الاف الكيلومترات شرقا نفذه مواطنو مدينة حلفاالجديدة، وحملت انباء الامس ان العشرات من قاطني حي « ديم عثمان» احتجوا على طرح السلطات المحلية هناك أراضٍ سكنية في مزاد علني، واعدوا عدتهم لاعتصام مفتوح في الساحات العامة لحين تراجع السلطات عن قرارها الذي يرونه معيبا وينتهك حقوقهم. ولم يكن ماحدث بديم عثمان اول احتجاجات حلفاالجديدة، فسبق ان قادت المدينة بأكملها حملة غير سلمية لاقصاء وزير من ابنائها في حكومة ولاية كسلا التي تتبع اداريا لها. اما في عاصمة البلاد، فقد هجم مسافرون غاضبون على مكاتب لاحدى شركات الطيران العاملة، احتجاجا على عدم ردها لاموالهم التي تقاضتها وعجزت عن الايفاء بالترامها نحوههم، وفي هذه الحالة ايضا كان الاحساس بهضم الحقوق هو المفجر لثورة اكثر من «100» مواطن اخرين، وليس ببعيد عن قلب العاصمة تجمع عشرات الاطباء والعاملين في القطاع الصحي في فناء مستشفى العيون التذكاري ليسجلوا موقفا واضحا من ترتيبات الحكومة لبيع موقعه. وسلم المحتجون في المستشفى مذكرة لمسؤولي وزارة الصحة توطئة لتسليمها رئيس الجمهورية، وحوت المذكرة مطالبات بإيقاف بيع المستشفى ومركز عبد الفضيل الماظ ، فضلا عن تحسين بيئة العمل وتوفير المعينات اللازمة. ولا يعرف ماذا سيفعل محتجو «العيون» حال تم تجاهل مذكرتهم، وبيع المستشفى التذكاري. كما لا يمكن ان يتم اغفال الاحداث التي جرت في نيالا حاضرة جنوب دارفور بعد اقالة واليها كاشا، عند الاشارة الى سلسلة الاحتجاجات الجماهيرية على ما تراه الجماهير هضما لحقوقها، واولا حقها في اختيار حكوماتها، وربما حقها في ابداء رأيها. وقد تأتي الخطوة اللافتة التي اقدم عليها قيادي في الحزب الحاكم في النيل الازرق في هذا الاطار، فالاسباب التي دعت للقبض على عضو مجلس شورى المؤتمر الوطني ياسر محمد عامر علي حسبما نشر بالامس تدور حول قيادته لاحتجاج حتى النهاية على طريقة تشكيل الحكومة الجديدة، فقد وصف ياسر التشكيل بأنه قبلي ولا يرتكز على المؤسسية التى يتحدث عنها المركز صباح مساء، ليحرق الشاب المهضموم بتلك الكلمات كل الخيوط التي تبقت بينه وبين الحزب القابض. ومشهد الاحتجاجات المتجدد يعيد للاذهان الاحتجاجات التي اندلعت في اوائل العام الماضي واستمرت لاكثر من 6 اسابيع في الخرطوم وبعض الولايات، وهى الاحتجاجات التي دفعت بالمؤتمر الوطني الى ان يتوعد القوى السياسية المعارضة بسحقها و»محوها من على وجه الأرض» إن هي حاولت الخروج في مظاهرات للإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير. وسخر في حينها مندور المهدي القيادي بالحزب من شباب ال «فيسبوك» الذين يدعون لتغيير النظام، ووصفهم بأذيال الشيوعيين قائلا إن ما ينشرونه على صفحات الإنترنت لن يهز رمشا في أعين النظام. ونجح مندور في ايصال رسالته، ولكن ما يطفو على سطح البركة شيئ اخر، فمن خرجوا في بابنوسة والمجلد وحلفاالجديدة وحى الديم الخرطومي خرجوا لدوافع جد مختلفة ليس من بينها جلباب الاجندة الوطنية اورشاقة الحكومة العريضة. وهذا ما يؤكد عليه المحلل السياسي سامي عبد العاطي ل»الصحافة»، فكيف سيتعامل المؤتمر الوطني مع ذلك، لاسيما وان المحلل عاد ليشير لنا بالامس الى ان دوافع الاحتجاجات تبينها بجلاء المطالب المطروحة وان اختلافها لا ينفي تمحورها حول رفض التجاوزات الحكومية، مهما كان نوعها او حجمها، لاسيما تلك التي تتعلق بقضايا الفساد، والاستئثار، والاستحواذ على الاموال العامة. ذلك في الوقت الذي بين فيه المحلل السياسي الدكتور صلاح الدومة ل» الصحافة» روابط يراها مشدودة بين ما يدور في المجلد وحلفاالجديدةوالخرطوم، والروابط التي يتحدث عنها الدومة تتمحور حول قناعته بفشل الدولة السودانية، مشيرا الى ان هذا الفشل مثبت بالارقام التي توردها بدايات كل عام منظمات دولية موثوقة، لانها تعتمد على الارقام والاحصائيات التي لا تكذب. واتهم الدكتور الدومة الحكومة الحالية بقيادة السودان خلال الخمسة اعوام الماضية لارتقاء مواقع متقدمة في سجل اسوأ دول العالم من حيث انعدام الشفافية والفشل في اداء مهام الدولة، مؤكدا ان الاحتجاجات المتفرقة الحالية نتاج لتبعات ذلك الفشل المتراكم. ولكن ما الذى يدفع فعلا بمواطنين سودانيين الى اتخاذ الاحتجاجات والهتافات والاعتصامات وسائل لاستعادة ما تمنحه حقوق المواطنة ضمنا، ولماذا الان ؟ يذهب الدكتور سامي عبد العاطي الى ان المطالب موضوع الاحتجاجات تبدو عادية، ويمكن التعامل معها عبر السلطات المحلية واحتواؤها بجرة قلم، في اي وقت، لكنه يرى ان في الامر دلالات لا تخفى منها ان المحتجين بلغوا حدا لا يسمح بمواصلة الصمت، او التحمل، او الصبر على انتهاكات بعض السلطات لكرامة المواطن، وحياته وحرياته، كما انه يقطع بغياب او تغييب قنوات التواصل بين المواطن والدولة، حتى يخرج غاضبا ليسمع صوته. ويقول استاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية ان صغر هذه الاحتجاجات واستنادها على ارضية من المطالب المشروعة دستورا وقانونا، وعدم ميلها لانتهاج العنف يغري اخرين للانضمام اليها، او اتخاذها وسيلة للدفاع عن حقوق يرونها منتقصة او مغصوبة، منوها في هذا الصدد الى التأثيرات التي يمكن ان تلقيها تجربة المناصير الناجحة في انتزاع الحقوق من الدولة بشكل سلمي. ومضى عبد العاطي ليعظم من شأن الاحتجاجات الجماهيرية السلمية موغلا في تجارب العالم التي انتهت خلالها تجمعات احتجاجية صغيرة وقف وراءها محتجون فقراء، الى هزات كبرى غيرت التاريخ. بينما يجزم الدومة بأن في دوافع الاحتجاجات تلك تكمن روح اصلاحية ترتفع على الحاجات المادية للمواطنين، وقال ان انطلاق الربيع العربي قد كسر حاجز الخوف في المواطن السوداني، فبدأ اكثر جرأة في الجهر بالحق، اينما كان موقعه، منوها الى ان جزءا من هذه الاحتجاجات الجماهيرية تم من قبل منسوبين للحزب الحاكم، مستدلا في ذاك على موجة المذكرات الاصلاحية التي ضربت المؤتمر الوطني. وخلص الدكتور صلاح الدومة الى ان الدوافع الرئيسة من وراء الاحتجاجات تكمن في تدهور النظام الحاكم وتفشي الفساد المالي والاداري في اروقته، باعتراف الحكومة، مبديا توقعاته بأن تتعاظم الاحتجاجات وتستمر فى ظل ازدياد السخط العام، وتلكؤ النظام في اقرار اصلاحات حقيقية تعيد السودان الى جادة الطريق.