لو أننى كتبت عن معهد للصم والبكم وطالبت بالغائه باعتبار انه استنفد اغراضه، ولم تعد هناك حاجة اليه، لانه لا يعيد سمعاً لأصم او صوتاً لابكم، لتصدت لى جحافل من الصم والبكم يحاولون اعادتى لصوابى، ولأعاد الغضب لبعضهم اسماعهم وفصاحة ألسنتهم. ولو اننى كتبت مقالاً اطالب فيه بالغاء رخص بائعات الشاي مستشهدا باحدى الحجج الاخلاقية التى يرددها المشرفون على اخلاقنا، لهبت فى وجهى جماعة من مناصرى المرأة وحقوق الانسان. بل اكاد اجزم اننى لو كتبت اطالب بازالة احدى المقابر من مكانها وسط السكان، لهب الموتى من رقدتهم يحملون راياتهم مطالبين بحقهم فى الرقدة الأزلية حيث هم إلى أن يشاء الله. ولكننى لم اكتب عن هؤلاء أو أولئك، بل كتبت عن وزارة كاملة بغضها وغضيضها وبهرجتها وضجيجها، وعن مئات الملايين التى تهدر سنوياً فى ساحاتها بلا غاية ولا هدف. ولم يمس كلامى صما او بكما او موتى او متعطلين يقضون اليوم كله منبطحين امام بائعات الشاى، والحياة تمر امامهم ولا تعنيهم، كما لا يعنيهم ما نكتب.. بل كان حديثى عن فقدان الدور والهوية بالنسبة لوزارة تقول إن شغلها الإعلام. وذلك يعني أساساً لو كان يعني اى شيء ممارسة الكتابة، وتبادل الرأي، ومقارعة الحجة بالحجة واقحام الخصوم. وعلى مقاعد الوزارة الخشبية والوثيرة يجلس العشرات وربما المئات من الذين تعتبر ممارسة الكتابة شغلهم الشاغل. فأية حجة يقارعون انابة عن الدولة ودفاعاً عن الامة، اذا كانوا يلتزمون الصمت في ما يمسهم مساً مباشراً؟ وحين نسبت للوزارة انها تبحث عن دور، كنت آمل أن أكون إيجابيا وحتى لا أقف عند مجرد نكران الهوية.. كنت آمل أن يلتقط العاملون فى هذا الحقل القفاز، فيحدثوننا وفق تجاربهم بما يرونه فى ذلك الأمر، لكن الصمت الذى يلف كل شيء اصبح هو الغالب.. فأنت فى السودان تملك حرية ان تصيح بأعلى صوتك وتقول ما تريد، ولكن صوتك يذهب بلا صدى. وسيعذبك ذلك اذا لم تكن تجيد الصمت ولا تؤمن بسياسة خليها مستورة وغيرك كان أشطر. وفي داخلى ذلك الطفل فى الاسطورة الشهيرة الذى رأى الامبراطور يختال عارياً فى الطريق العام ويظن أنه يلبس حلة سحرية لا يراها إلا الاذكياء. فلم يتمالك الطفل نفسه فصرخ يعلن حقيقة الملك العريان. وأعرف اننا فى سودان الصمت لا نطيق اصطحاب الاطفال المزعجين. وهل كان يمكن أن أسكت كما سكت الناس جميعاً عن وزارة ضخمة تستمر في استنزاف هذا الشعب الغافل المسكين عاماً بعد عام حتى بعد أن زالت كل أسباب وجودها ولم يعد لها من الإمكانات ما يمكن أن تحقق به رسالتها المعلنة؟ ولو أن إنساناً استمر فى الصرف على مخبزه حتى بعد أن أصبح خالياً من الدقيق، وفرنه مدمر لا سبيل لإصلاحه، لطالب أهله بالحجر عليه. فوزارة الإعلام وأسمح لى بالتكرار لم تعد مصدراً للمعلومات والأخبار كما كانت حين كانت الحكومة هى المصدر الوحيد للاخبار والتوجيهات والارشاد، وحين كان مطبخها هو الذى يتلقى الاخبار ويقوم باعدادها وصياغتها لتعبر عن رأى الحكومة وطنية أو أجنبية وبالصورة التى تلائم فى رأى الحكومة ما يجب ان يعرفه الشعب. ولكن الزمن قد تغير وازداد الوعى وتنوعت مصادر الاخبار واصبحت الشعوب تنفر من الاملاءات، ولا تثق فى ما تبثه وسائل الإعلام الرسمية، الامر الذى ادى بالضرورة الى ان تنسلخ كل اجهزة البث من اذاعة وتلفزيون ووكالات انباء عن وزارة الإعلام، وتصبح مستقلة عنها، وتديرها مجالس قومية تنص عليها تشريعات دستورية لا مجال فيها لتدخل الحكومة. وقد سارت على هذا النحو كثير من الدول النامية بما فى ذلك السودان. ولن يمر وقت طويل حتى يصبح الاعلام الحكومى ظاهرة من ظواهر الماضى المتخلف. ولأننى انشد الحقيقة، كنت مستعداً لقبول اى اسلوب من اساليب المواجهة تعيننى على فهم هذا الطلل الباهظ التكاليف الذى لم يعد له دور. وكنت اتمنى لو تصدي لى أحد العاملين فى وزارة الاعلام أو أحد المنتفعين بها والحاملين الشهادات العليا باسمها، ليعلمونى ما هو الدور الحقيقى لوزارة الاعلام فى دولة حديثة لا تملك السيطرة على الاعلام ولا ترى جدوى من ذلك. ولا اخفى عليكم اننى لم ارتح ان تهان كلماتى بالصمت واهلنا يقولون ما ترجمته مخففا اشتم الرجل ولا تشتم كلامه واقولها بصراحة وأرجو الا يعتبرنى القارئ مغرورا، ان هذا الصمت جرح كرامتى، فلست جاهلاً ينطبق عليه قول الخالق: «واعرض عن الجاهلين» وقوله تعالى: «واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما». ولست كلبا ضالا لا شغل له غير الجرى وراء السيارات وقديما وراء الجمال حتى قالوا عنه الكلاب تهوهو والمرتبات آسف الجمال ماشة. ولست بابا يغلق خوف الريح التي تأتى وتصيب الانوف الرقيقة بالسعال والزكام. ولا أعرف من ذلك العبقرى الذى رسم سياسة الصهينة والصمت، فقد فهم طبيعة الشعب السودانى، باعتباره شعبا سريع الغضب شديد الانفعال، ولكنه ايضا شعب ضجر لا يصبر طويلاً على امر، اذ سرعان ما تخبو جذوته وينحدر فى بحر عميق من النسيان. فالدق على الحديد الساخن يثير الشرر فى كل مكان. والشرر يحفر الحدث فى الذاكرة، والشعب السودانى اشبه بوحيد القرن الذى كان رمزا سياديا له، اذا ابتعدت عن عينيه لحظة، نسيك كأنك لم تكن. وساعد جدار الصمت أن كثيراً من هجوم الصحف ليس جاداً، فأغلب الصحافيين يفتقدون عنصر المثابرة والمتابعة، إذ يثيرون قضية ثم يتصرفون عنها الى غيرها، ويمارسون العمل الصحفى كحرب العصابات يهجمون ثم يختفون تاركين وراءهم ركاماً من القضايا غير المحسومة. وما يخفف عن نفسي وأنا أرى حديثى يذهب هدراً ويطويه سلطان الصمت المهيمن على الساحة، أننى لست وحيداً، فكم من كاتب لا يشق له غبار اصطدم بجدار الصمت فخر صريعاً، مثلا المهندس الصلب الطيب مصطفى الذى ظل يصول ويجول فى وجه خصومه الكثيرين فلم تلن قناته، والصمت وحده هو الذى فقع مرارته. والمحاور الصحافى البارع ضياء الدين بلال تعلق بقضية واضحة وضوح الشمس حول استغلال النفوذ الذى يعتبر مخالفة دستورية وقانونية خطيرة لا تحتاج الى دراسة القانون، فلما اعياه الصمت أعلن عن تحسره أنه لم يستمع لنصيحة زميله اسحق فضل الله. أما الناصح الذى لم يستمع لنصيحته أحد، صديقنا اسحق ظل يتحدث ويتحدث بالعربية والسريالية ولغة زرادشت ونوسترداموس المتنبى الاوربى وكهنة القرون الوسطى، وحمل قراءه الى عوالم تجوس فيها الذئاب وتزحف على أرضها الثعابين والعقارب، ولما أعياه الكلام وكان يتحدث عن الإهانات المتكررة من جانب الجنوب المستقل والتنازلات المتكررة من السودان الشمالي غير المستقل عبر وزارة خارجيته التى أصبح من مهامها تلطيف الكلام كلما احتدّ، وإلقاء الماء البارد على أي قرار إن زادت حرارته عن الدرجة التى يسمح بها المجتمع الدولي. وفي النهاية، لم تحمه صوفيته وشاعريته أمام جدار الصمت الرهيب، فانفلت من الأعماق ليصيح بأعلى صوته اقسم بالله العظيم أن مجتمع بائعات الهوى يحظى بكرامة أكثر. ماذا تظنون سيحدث؟ لا شيء، سيبتلع الصمت هذه الصرخة أيضاً، وسيقتنع الكتاب بألا جدوى من الكتابة التى لا يستمع لها أحد ولا تؤثر فى أحد. هل أنهي المقالة عند هذا الحد؟ سيكون ذلك استسلاماً لليأس. وعلينا أن نفعل شيئاً، وربما يكمن الحل في تكوين لجنة تجمع برلمانيين ومفكرين مستقلين. تقطع هذا الصمت وتجبر الناس على الكلام، وتضع كل قضية في دائرة الضوء حتى لا تسقط فريسة للصمت والتجاهل. : [email protected]