لأن العمل الإبداعي ? بصفة عامة هو ظاهرة اجتماعية تأتي استجابة لحاجات وتطلعات التجمع البشري- ولأن الأدب هو شكل البيئة -ولأن القصة حالة فنية لإعادة صياغة الواقع من جديد - ولان الموضوعات التي يتناولها الأدب الأفريقي غير الموضوعات التي تتناولها الآداب الاخري، فمن هنا جاءت كتابات الطيب صالح لتثبيت قواعد هذا الفن , فوضع بذلك لبنة في صرح القصة العربية الافريقية مع رصفائه من الدول الافريقية, و لعلم الطيب صالح ان الكثير مما يكتب باللغة العربية لا يصل الي القراء من الشعوب الأخرى نسبة لحواجز الجغرافيا و السياسة وحواجز الإمكانيات المادية التي هي عوائق تحد من الانطلاق من عالم الإقليمية الضيقة المرتبط بالدول إلى عالم الفضاء الرحب للوصول إلى العالمية ، و لان الأدب المكتوب باللغة العربية موجود لكنه في عزلة ولعلمه اننا نستقبل الثقافة والفنون من العالم ولكننا لانرد عليها من خلال ثقافتنا المحلية ولانخرجها الي العالم فسعي الطيب صالح جاهداً لاخراج هذا العالم المجهول إلى النور في شكل قصص في صور مكثفة , تنطلق من الواقع , وتركب متن الخيال , مما يجعلها قادرة علي الارتقاء بتفكير المتلقي وذوقه , وتجسيد أبطالها وشخوصها بتفاصيل حياتهم , كي يتعرف عليها الواقفين خارج حلبات الرقص الافريقية فيرقصون علي طبولنا الافريقية , ويقفون أمامها متأملين افريقيا فعمد الطيب صالح لترجمة اعماله الروائية الي اكثرمن 20 لغة اخري. مع اهتمام صالح بافريقيا بصفة عامة الإ أنه احد اولئك الكتاب الذين يركزون علي بلادهم التي بداخلهم وعلي المكان الذي يشبه افريقيا، فنجد رواياته ارشيفاً لصورة بلاده التي اصبحت مصدر إلهام له و هذا واضح في كتاباته التي كانت أقرب لروائح ومشاهد وآلام بلاده ، فرتب الطيب صالح حياته بالغرب ناشدا من هذا بناء وطنا خياليا له في الغربة فكان دوماً نفساً تحنّ إلى اجواء استوائية وشموس قاسية وآفاق بعيدة بالرغم من انه يقول «أنا جنوب يحنّ إلى الشمال والصقيع» ولكن كل ما كتبه يجافي الواقع و يحكي الحنين. فانطلقت أعمال الطيب صالح من داخل تلك النسخة الخيالية المصغرة لوطنه مصوراً الواقع السوداني والذي يمكن أن نقول أنه واقع يتمثل مع واقع أفريقيا كلها ، بهمومها وقضاياها ومشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وذلك في واقعية تعبيرية لغوية، و مشاهد سياسيةً واجتماعية واقتصادية وثقافيةً, ويظهر ذلك في الفولكلور والأساطير والتصورات الخيالية الشعبية؛ وهو التراث الذي يغرف منه الكاتب الافريقي دوماً ويجسِّده في كتاباته و ايضا اشترك صالح في تسليط الضوء على موضوع الإرث الإستعماري والتقاليد البالية المصادرين لحرية التعبير وتحديداً تلك التي كانت مفروضة على المرأة السودانية فالطيب صالح رسم شخصية المراة السودانية التي يريدها ان تكون و التي تستطيع ان تقول لا قولاً و فعلاً فمثلاً «نعمة» في رواية «عرس الزين» و حسنه» في «موسم الهجرة الي الي الشمال» حيث وضعت حسنة حداً لحياة من كان يمثل رمز العبودية للنساء ثم انهت حياتها خوفاً من ان يفرض عليها المجتمع شكل آخر من حياة لا تريد ان تحياها الا مع من تحب. فالروايات التي كتبها تسعى إلى إنهاء حالة الصمت وعدم القدرة على التعبيرفمثلاعلى السطحِ يصطدمُ القارئ بمصطفي سعيد (الذي أعتبره روح و ذات الكاتب و ان كان الطيب صالح قد نفي ان تكون هنالك دائما رابطة تجمع بين الكاتب و ابطال روياته- وانا اعتبر كلمات مصطفي سعيد ما هي الا جزء من مونولوج داخل نفس الراوي الذي يعكس شكلا تخيلياً لا سردياً في معظم الرواية باعتبار أن القارئ يجد نفسه منذ السطور الأولى داخل فكر الشخصية وفكر الكاتب ولكن بالرغم من ذلك فأنه يقدم شكل سرديا مميزاً في الفصل الأخير من رواية الموسم (من ص 127 إلى نهاية الرواية) بابتكار و جرأة لم تكن معروفة في السرد العربي بشكل كبيرفعندما يسرد مصطفي سعيد قائلا :»الحب! .. الحب لا يفعل ذلك! أنه الحقد ...فانا طالب ثأر» و عودة الي هذا الرجل المهوسِ جنسياً بالنِساءِ إلانجليزياتِ أثناء إقامتِه في إنجلترا و نجزم بان هذا ما هو الا محاولة اراد منها الكاتب إذابة الثلجَ الذي تجمّعَ داخل نفس ارادت كسر الرتابة و التغلب علي برودةِ مناخِ إنجلترا وتأثيره على الارواح التي عشقت العيش بين البراري و الغابات تشكلت اجزاءها بدف شمس ساخنة فكيف بمن ارتسم داخل حدقاته السعف الأخضر الغني الذي يتدلي بشكل رشيق مِن نخيلِ بلاده، والذي عشقت اذنيه وشوشة الريح وهي تَهْبُّ خلال حقولِ الحنطةَ، وهَدْيل الحماماتِ، و خرير ودندنة النيلِ، وقوّةَ شيوخ بلاده الذين يفيضون قوة وحيوية وهم في عمر الثمانية وثمانون سنةً كل هذا غاب عن بطل «موسم الهجرة الي الشمال» لسنوات ولكسر حاجز الفرقة و الغربة كان و لابد من شئ قوي يجرف ويزيح كل الثلوج المتراكمة فكان ما كان من ذلك الجنون الصاخب مع ما كان مفروضاً هنالك من حظر علي كل ما هو «اسود» إلا أن الكاتب تحدى هذا الحظر من خلال روياته تلك، فقدم هذا الخطاب الصريح الذي يشمل القارة الإفريقية كلها بصوت جديد صوت الطيب صالح الملتصق بالأجواء والمشاهد المحلية هادفاً الي رفعها إلى مستوى العالمية من خلال لغة تلامس الواقع خالية من الرتوش والاستعارات ، منجزًا في هذا مساهمة جديدة في تطور بناء الرواية العربية ودفعها إلى آفاق جديدة. ومما لاشك فيه أن أعماله الروائية المتميزة بالقوة والشاعرية قد نجحت في تقديمه إلى العالمية معلنة عنه كسفير أدبي للقصة الإفريقية. وعلى الرغم من معارضة كونه سفير للادب الافريقي، استناداً إلى أن هناك جيلاً من الموروث الإبداعي الافريقي المتميز الذي يمتد لعقود طويلة، إلا أن النقاد منحوه هذا التكريم متأثرين بإبداعاته المتميزة بالشفافية البالغة. و نحن نري ان الطيب صالح كان يستحق منهم اكثرمن هذا بمنحه جائزة نوبل للاداب و لكن ما زالت الفرص متاحة لذلك . وشكل اخر يبرز خروج الطيب صالح عن المألوف فنراه في ما يلي: الروائي الاسمرو مولد انثي سودانية ذات لون وفكر مختلف: و كسابقة ادبية اخري مزق الطيب صالح جدار الصمت و العزلة التقليدي الذي كان يلف المرأة السودانية فنجده في رواية «عرس الزين» زوج الزين بنعمة بنت حاج إبراهيم، الشابة المتنورة والدارسة للقرآن، بالرغم من رفض الجميع هذه الزيجة الغير متكافئة بحجة أن الزين إنسان غير كفء، و»إن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ»، وإن القول بأنه «ولي صالح» حديث خرافة، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عادياً كبقية الناس ولكنه صور لنا كيف اصرت نعمة و تمسكت بقرارها بالزواج بمن اختارت. و اختيار آخر في ود حامد حينما كسر التقليد السائد في المجتمع عندما طلبت حواء بنت العربي الزواج من بلال المؤذن لمحبتها له، فكانت تأتيه وهو في صلاته وعبادته، فلا يرد عليها، ولا يجاوبها؛ إلا أنها هامت به هياماً كاد يذهب عقلها، ولكن عندما أعيتها الحيلة في إقناع الحبيب الناسك الذي كان يرى في تبادل حبها بحب انصراف بغيض إلى شأن الحال الدنيوي، كسرت التقاليد و استجمعت شجاعتها واتصلت بالشيخ نصر الله ود حبيب، وشكت له وجدها وحبها لهذا الناسك فنصح الشيخ نصر الله بلال بأن يتزوج حواء بنت العربي؛ وبهذه يلاحظ القارئ الي حقيقة ان الطيب صالح حاول ان يسهم في تعبيد الطريق لاطلاق و احداث نقلة نوعية في قيم المجتمع الموروثه، والتي لا يمكن تغييرها إلا بالإرادة الإنسانية المصممة على التغيير حيث لا يحرم الشرع ان تخطب المراة لنفسها. ثم كانت مريوم «مريم»، كما كان يدللها حبيبها مريود، فرسم لها صالح شخصية قوية، و إرادة ذاتية خلاقة منذ أيام طفولتها الباكرة، وقد برزت تلك الإرادة الفاعلة في تحديها لموروثات الواقع المعاش في ود حامد، حينما أصرت على دخول خلوة حاج سعد لقراءة القرآن مع الأولاد، وهي دون الرابعة من عمرها الزاهر. ويرؤي مريود هذا المشهد بقوله: كانت «تقرأ معنا القرآن في خلوة حاج سعد، فعلت ذلك قدرة واقتداراً، ولا راد لرغبتها العارمة في فك طلاسم الحروف. تجيء فنطردها فلا تنطرد، فاضطررنا أنا ومحجوب أن نعلمها، فكأننا أطلقنا جناً من قمقم ... فصارت تقارعنا الآية بالآية حتى ضقنا منها زرعاً. ولما دخلنا المدرسة سعدنا أننا نتعلم أشياء لا تفهمها، ونرجع فنقرأ لها التاريخ، والجغرافيا، والحساب، ونغيظها بذلك. فأخذت تمالئنا، وتستعطفنا لنأخذها معنا. قلنا لها: «المدرسة للأولاد. ما في بنات في المدرسة» ، فاستجابت لحجتنا بقولها: «يمكن إذا شافوني يقبلوني ... الحكاية مش قراية وكتابة؟ أيه الفرق بين الولد والبنت؟». فرد عليها أخوها محجوب بلهجة غاضبة: «نظام الحكومة كذا. مدرسة للأولاد يعني للأولاد. أنت عايزة الحكومة تعملك نظام خصوصي؟». فردت عليه في حرقة جامحة: «ليش لا؟ خلاص، ما دام الحكومة لا تقبل غير الأولاد أصير ولد ... ألبس جلابية، وعمة، وأمشي معاكم، متلي متلكم. ما في أي إنسان يعرف أي حاجة. أية الفرق بين الولد والبنت... «. وبذلك استطاعت مريم أن تقنع أترابها من حولها بشرعية حقها في التعليم، فخرجت معهم في الصباح الباكر، و»لم تكن خجلة»، بل جعلت «الأفق البعيد يتراءى» لهم، وهم يرددون استجابتها لرفضهم الممزوج بالخجل: «ليه لا» ثم نأتي الي موسم الهجرة وكيف ابرز الطيب صالح تلك الشريحة المغلوب علي امرها «شريحة الارامل و المطلقات» في شخص حسنة بنت محمود الارمل التي كانت متعلقة بزوجها الراحل مصطفي سعيد وبعد وفاته رفضت العديد من طالبي الزواج لكنها لم تستطع أن تصمد طويلا في وجه الأطماع المتزايدة من رجال القرية الذين يبدلون نساؤهم كما يبدلون متاع منازلهم خاصة من «ود الريس» وهو رجل عجوز مزواج لا يتصور أن تكون المرأة لها رأي في زواجها خاصة إذا كانت أرملة ويتفق مع والدها و يتزوجها رغما عنها، الأمر الذي أسفر في النهاية عن مأساة حيث قتلته حسنة وقتلت نفسها ورأت حينها أنها إذ ذاك تقتل العادات والتقاليد التي تجعل من المرأة مجرد متاع وظيفته إشباع الرجل فقط. علي الرغم من ان البعض يأخذ علي الطيب صالح استغراقة في وصف بعض اللقطات التي ليس من الشائع تداولها في مجتمع غارق في التقليدية و يخجل أن يحكي عن جلسة ريفية بها امرأة تجلس بين الرجال وتتحدث بإباحية مفرطة ويشترك معها الرجال في حديث خارج عن العرف و المألوف و التي أفرد لها الطيب صالح صفحات!! ولكن الم اقل في بداية حديثي انه الزنجي الأسود الخارج عن المألوف.... باحثة في الادب الافريقي