تناول الدكتور عبد اللطيف سعيد في عموده الراتب «ليت شعري» بصحيفة الصحافة الغراء ما سماه ب «التضامن النيلي»، وذلك في يومي 13/2/2012 بعنوان «الترابي والصادق ارتطما بصخرة التضامن النيلي فتحطما» و 27/2/2012م بعنوان «ماذا أعني بالتضامن النيلي؟».وللحق فقد وجدت صعوبة شديدة في فهم موقف الدكتور عبد اللطيف من هذا «التضامن» هل هو مؤيد له أو معارض، ففي المقالين يمكن أن نجد اشارات للموقف وضده، وتقديري فإن موضوع المقالين من الخطورة بحيث لا يقبل الحياد خاصة من الذين يساهمون في تشكيل الرأي العام مثل كتاب الأعمدة في الصحف أو من المثقفين أو المستنيرين بوجه عام، ولكن لنبدأ من البداية.يقول الدكتور عبد اللطيف في المقال الثاني «من الصعب أن نصنف هذا التضامن النيلي في مصفوفة قبلية صارمة لأنه عبارة عن قبائل مختلفة تختلف عنصراً وإن اتحدت موقعاً جغرافياً، وهي قد تتشاكس وقد تتعادى أحياناً.. انظر مشكلة المناصير في معارضة السد». ويؤكد في المقال الأول «أن هذا التضامن لا يعتمد على الكفاءة الشخصية، ولكنه يعتمد على التعاضد والتكاتف، فإذا راجعت كل قائمة أعضاء هذا التضامن لا تجد شخصاً واحداً له ما للترابي أو الصادق من مميزات شخصية»، وذلك في معرض تحليله لهزيمة كليهما في «رأيه» بواسطة التضامن النيلي، مضيفاً «أن كل ما تسمع وترى من الضجة والفتاوى والمعارضة والكفاح المدني أو المسلح ما هو في نظري إلا تعبير عن مرارة الهزيمة وعقابيلها». وإذا جاز التعليق فإن الدكتور عبد اللطيف بهذا يرجع معارضة الرجلين للنظام للمرارت الشخصية وليس لأسباب سياسية، وهو في رأيي موقف متحامل على أقل تقدير ولكن تلك قصة أخرى. بالإضافة إلى توصيف الدكتور عبد اللطيف للتضامن النيلي بأنه لا يعتمد على الكفاءة الشخصية فإنه يقول في المقال الأول «فهذا التضامن يحمي أفراده ويقدمهم ويحفظ لهم المناصب، بل ويتخلص من كل منافس لهم بغض النظر عن مؤهلاته الشخصية والأكاديمية، ففي كل المؤسسات يكون أعضاء التضامن هم القادة ويكون الآخرون هم الكمبارس». وهو وصف وتشخيص دقيق يشكر عليه الدكتور لأنه يمثل الواقع المنظور ولأنه يذكر بوجه خاص بحالة هيجان الإنقاذ الأولى وامتشاقها لسيف الصالح العام في التخلص من المخالفين بصرف النظر عن المؤهلات الشخصية والأكاديمية. والذي يحيرني هو كيف يقول الدكتور عبد اللطيف في المقال الثاني بعد الوصف أعلاه لسلوك هذا التضامن أنه «يصف حالة سياسية واجتماعية واقتصادية ماثلة لا مجال فيها للتأييد أو المعارضة». كيف لا يكون هناك مجال للتأييد أو المعارضة لتضامن لا يعتمد على الكفاءة الشخصية ويحمي أفراده ويقدمهم ويحفظ لهم المناصب القيادية ويتخلص لهم من منافسيهم؟ إذا لم يعترض الشخص ويرفض ويدين مثل هذا السلوك، أي شخص ناهيك عن أن يكون في عداد المثقفين أو المتعلمين، فماذا يرفض وماذا يدين وعلى ماذا يعترض إذن؟ إذا كان المثقف يرى سلوكا جماعيا او سلطويا يقصى الآخرين من مواقع اتخاذ أي قرار حتى على مستوى المؤسسات ناهيك عن الدولة ويفضل عديمي الكفاءة والموهبة عن من سواهم «لأسباب عنصرية في هذه الحالة» أو أسباب أخرى ويسهم بذلك في ازدياد الغبن الاجتماعي وتخريب الاقتصاد «بإبعاد ذوي الكفاءة» ولا يرفضه ولا يدينه، فماذا نقول عنه؟ وهو وجه الحيرة والعجب في موقف الدكتور. ويمضي الدكتور عبد اللطيف في المقال الثاني وفي إطار تسليطه الضوء على فكرة التضامن النيلي، فيقول إن الحالة السياسية التي وصفها بأنها واقع موجود بالفعل «خلقته عوامل تاريخية وجغرافية وإثنية وثقافية «لم يفصلها» وجعلت هذه الصفوة النيلية تتضامن وترى لنفسها الحق دون سواها في الحصول على القيادة والثروة والسلطان، وترى أنها بموجب هذه العوامل مسؤولة عن الآخرين، وأنها لو تركتهم في السودان يديرون شؤونهم بأنفسهم لضاع السودان». وللأسف الشديد فإن الأوضاع الحالية وواقع الحال منذ بداية العشرية الثانية للإنقاذ على الأقل توافق إلى حد التطابق ما يشير إليه الوصف أعلاه، والتفسير الطبيعي للوصف المذكور أو شرحه هو أن التضامن النيلي يرى أن أهل السودان الآخرين لا يستحقون أن يقودوا السودان إذ أن «القيادة للصفوة النيلية دون سواها» لأن الآخرين في وضع القاصر ولا يجب أن يتركوا ليديروا شؤونهم بأنفسهم، والا اضاعوا السودان. والسؤال هنا كيف يمكن ان يضيع السودان اكثر مما اضاعه هذا التضامن النيلي؟ على كل فإن صحت هذه الرؤية فإنها تعني إن الصفوة النيلية «أو التضامن النيلي» تتبنى الحجة التي ساقها الاستعمار قديما كمبرر رئيسي لوجوده في البلاد المستعمرة «بفتح الميم»، أي أن التضامن النيلي يرى أن له الحق في استعمار بقية أنحاء السودان استعماراً داخلياً. وللأسف الشديد للمرة الثانية فإن هذا الوصف أيضاً قد قال به الجنوبيون في السابق، ويقوله الآن بعض أهل الهامش خاصة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ومناطق هامشية أخرى نتيجة للسياسة الإقصائية التي اتخذتها حكومة الإنقاذ بحرمان أهل هذه المناطق من المشاركة الفعلية في إدارة شؤون الدولة وجعلهم كمبارساً ليس في المؤسسات التي يوجدون بها فقط وانما حتى في مناطقهم «وربما يدخل موضوع كاشا تحت هذا الإطار». إذن فإن تضامن هذا سلوكه وهذه قناعته ورأيه في بقية أهل السودان هو تضامن عنصري ويجب أن يوصف هكذا بوضوح. فكيف يجوز اذن للشخص ان يقول انه يصف حالة سياسية واجتماعية ماثلة ولا مجال فيها للتأييد أو المعارضة؟ هل نقول على قادة الرأي السلام؟ دعني أقول إن أهل الشمال النيلي لا ينضوون كلهم تحت ما وصفه الدكتور عبد اللطيف بالتضامن النيلي، وأصفه أنا بالتضامن العنصري. إن أعداداً كبيرة وربما «الأغلبية» من قبائل الشمال النيلي بريئة من عنصرية هذا التضامن وسلوكه الإقصائي، ويقفون مع بقية أفراد الشعب السوداني صفاً واحداً في توقهم للعدالة والديمقراطية وضد العنصرية الجديدة التي لم يعرفها السودان قبلا، وضد التمكين القائم على الولاء القبلي، ويقفون منافحين عن حق جميع السودانيين في المساواة في الحقوق والواجبات وعدم احتكار فئة للحكم والثروة والسلطان مهما كانت، ناهيك عن فئة تحتكر المناصب لغير المؤهلين من منسوبيها وتتخلص من كل منافس لهم بغض النظر عن مؤهلاته.