مثلما لايستطيع مواطنو مدينة الدمازين ان يسقطوا عن ذاكرتهم الوقفة النبيلة لاهل مدينة ود النيل معهم في الايام الاولى لحرب الفاتح من سبتمبر في العام الماضي ،بذات القدر لايمكن لاهل ودالنيل ان يتجاوزوا حدثاً اهتزت له القلوب والافئدة وقع في تلك الايام العصيبات وهو خروج طفل صغير الى الدنيا في ظروف استثنائية وغير مألوفة. فوالدته آمنة الحسن كانت في ايام الحمل الاخيرة عندما وقعت الاحداث بمدينتها الدمازين، ولأن الموقف كان فوق طاقة احتمالها حملت ماخف وزنه وخرجت مثل غيرها فرارا من النيران المتبادلة بين القوات النظامية والمتمردة ،ولأن الظروف لم تكن طبيعية قطعت مع اسرتها مسافة تقدر بسبعين كيلو مترات مشيا على اقدامها وفي احشائها طفل يتحرك تاهبا للخروج الى عالم لم يكن يعلم مايدور فيه ،وبعد وصول والدته الي ودالنيل بعد ان وجدت عربة تقلها لهذه المدينة بعد المشوار المرهق والطويل قضت ساعات معدودة وقبل ان يتم توزيعها مثل غيرها من الهاربين من جحيم الحرب على المنازل داهمتها آلام المخاض وفي اقل من خمس دقائق وتحت جزع شجرة خرج طفلها الى الدنيا وسط تهليل وتكبير ودموع وحسرات لتختلط المشاعر مابين الفرحة لقدوم المولود والحزن على الكيفية والظروف التي وضعت فيها طفلها. قد تبدو آمنهة مجرد نموذج اقل وطأة يعبر ويوضح معاناة الامهات مع الحروب والنزاعات المسلحة التي ظلت عنوانا مميزا للدولة السودانية منذ منتصف القرن الماضي ولم تسلم من ويلاتها أم في مختلف انحاء السودان ،فهي اما فقيدة ،او ارملة ،او ثكلى لفقدان احد ابنائها ،ويتجسد حزنها خلال فترة الحرب في الجنوب التي فقدت فيها البلاد اعدادا كبيرة من القفداء حتى وصل رقمهم بحسب الدفاع الشعبي الى 18 ألف ،وهذا يعني ان حزنا خيم على ذات العدد من الامهات اللواتي احتسبن ازواجهن او اخوانهن او ابناءهن،ولم تتوقف الاحزان عند توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام ،فذات الاحزان انتقلت الى انحاء اخرى من الوطن الكبير في دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان وقبلها الشرق ،لتظل الام السودانية تدفع ثمن اخطاء السياسة دما ودموعا وحسرات وآهات ،ولم يقتصر الامر على ذلك بل اضحت وقودا لهذه الحروبات الداخلية عندما وضعتها الاقدار في مرمى النيران،وبحسب اعتراف الجهات المتصارعة فإن اعداداً كبيرة من الأمهات فقدن ارواحهن في هذه الحروبات ولابواكي لهن. ومن اكثر الصور التي تحتفظ بها الذاكرة السودانية مناظر الامهات في عدد من الولايات التي شهدت وتشهد صراعات مسلحة وهن يحملن اطفالهن ويبحثن عن ملاذاتٍ آمنة في معسكرات اللجوء خارج السودان والنزوح داخله هروبا من ويلات الحرب التي لاترحم ،واحداث جنوب كردفان الاخيرة تختزل مشهد معاناة الامهات مع الحروب ، لأنهن واجهن ظروفا بالغة التعقيد في الايام الاولى للحرب وهن يحاولن النزوح لمناطق اكثر امانا في شمال كردفان ،ولكن ماضاعف من الاحزان هو احتجاز الحركات المسلحة عدد كبير من الامهات واستعمالها كدروع بشرية ،وتحكي سلوى وهي ام لطفل معاناتها مع الحرب في جنوب كردفان وتشير الى انها عاشت اياماً من الرعب في معسكرالحركة الشعبية قبل ان تحررها القوات المسلحة مع غيرها من اسرى ،وتشير الى انها ظلت تمسك بطفلها الذي يبلغ من العمر عامين طوال الوقت وذلك حتى لاتفقده ،ولم تستطيع اكمال حديثها مكتفية بزرف الدموع واخراج الآهات ،ولكن الام سلوى حامد من جنوب دارفور اكدت بان الامهات السودانيات يدفعن فاتورة حرب لاناقة لهن فيها ولاجمل ،وتمنت توقف الحرب في كل انحاء السودان،فيما تروي ام من شرق السودان كيف تلقت نبأ وفاة ابنها في الحرب التي دارت قرابة العقد من الزمان بين الحكومة وحركات الشرق المعارضة وتقول:عنددما انضم ابني للحركات المعارضة في ارتريا كنت فخورة به لأنه يحارب من اجل قضية وكنت اضع احتمال موته في اي لحظة ،وفي احد الايام من عام 2001 حضر الى منزلنا زميل ابني وعندما رأيته ادركت ان ابني فارق الحياة فلم اتمالك نفسي وعلمت بعد ذلك انني دخلت في غيبوبة ليوم كامل ،ومازلت احن اليه واذكره واسأل الله ان يدخله الجنة،وقريبا من ذات القصة ورغم ان ابنها استشهد منتصف العقد الماضي في الجنوب لاتزال والدة احد الشهداء بمصنع الجنيد في حالة حداد عليه بل انها منذ استشهاده لم تضع على قدميها ويديها الحناء ولم تشاهد التلفاز،وهكذا في كل بيت سوداني قصة حزينة سببها الحروبات التي يتمنى الجميع أن تتوقف .