هناك سؤال بسيط أحسب أن أوان إجابته قد حان من قبل من هم على أهلية بالإجابة عليه بحكم أنهم مثّلوا جزءاً من تاريخ ما يسمى بالعهود الديمقراطية، وهو: لماذا تتباكي الأحزاب السودانية الرئيسية وتنوح على ديمقراطيات كسيحة ومشوهة ينقلبون عليها بأنفسهم قبل غيرهم متى سئموا نتائج لعبتها؟ وأي حزب مِن هذه الأحزاب الكبرى يستطيع أن يتجرأ بالقول انه لم يتآمر البتة على ما يسمى بالأنظمة الديمقراطية سواء كان ذلك عبر تسليمها السلطة بمبادرتها أو الانقلاب عليها عسكرياً أو الشروع في الانقلاب عليها عسكرياً بأسلوب أو آخر؟ وكذلك لا أعتقد بأن أحداً يحق له نعتي بالكذب، إذا قلت انه لم يحدث البتة أن خرج الشعب السوداني في ذات يوم مدافعاً عن أحد ما يسمى بالأنظمة الديمقراطية في أعقاب الانقضاض عليها من قبل العسكريين، بل أن الأمر يأخذ سنين عددا لتسمع بعدها بعض القيادات الحزبية المنقلب على حكوماتها تتباكى مذرفة للدموع على زوال ما تسميه بأنظمتها الديمقراطية، وبعزمها السعي الجاد لإسقاط سلطة من انقلبوا عليها، وذلك في الوقت الذي نرى فيه الملايين من جموع الشعب السوداني تخرج في شوارع العاصمة الخرطوم العديد من المدن الإقليمية هاتفة بحياة قادة الانقلابيين ومؤيدة لفعل قلبهم للنظام الديمقراطي، وحينها لا تعرف المكان الذي اختفت فيه عضوية تلك الأحزاب التي يدّعون أن «ملايينها» حماة لديمقراطيتها، وهل ياترى أن «ملايينها» هذه هي نفسها تلك الملايين المؤيدة للانقلابيين، أم غيرها؟ حقيقة أن شخصي لا علم له بالإجابة، وفي الوقت نفسه لم يسبق لي أن نما إلى علمي بأن أرض الخرطوم تنبت بشراً بالملايين هكذا. ألا يعني ذلك بأنه لا أحد من الشعب السوداني، على الرغم من أنه شعب معروف بحبه للديمقراطية، يبكي أو يتوجع على ما يسمى بالأنظمة الديمقراطية حين تنزع منها السلطة عنوة، بل على العكس تماماً فعادة ما تتمدد مساحات الفرح كبيرة لتسع غبطته وسروره بالقادم الجديد على الرغم من أن معرفته به لا تتعدى مضامين البيان العسكري رقم واحد. أحسب أن الأمر مرده ذكاء وفهم الشعب السوداني لحقيقة أن المنتزع ليس بسلطة نظام ديمقراطي وإنما هو مسخ نظام حكم لا يمت لمعاني الديمقراطية الحقيقية بصلة وكل ما يربطه بالديمقراطية هو إلصاقه بها دون وجه حق. ولو كان نظاما ديمقراطيا بحق لأعتبره كل مواطن بأنه نظامه هو، ولخرجت جموع المواطنين هادرة حامية له ومضحية بالغالي والنفيس لأجل الدفاع عنه وحفظه من جور العسكريين وغيرهم. وبما أن الديمقراطية في السودان لم تعد في نظر ولاة أمرنا من قيادات طائفية وسياسية أكثر من مسألة تسمية مرشحين لدوائر ورمي أوراق تصويت بداخل صناديق الاقتراع ليأتي معظمهم من الذين ينالون بركتهم ورضاءهم حتى ولو لم تتح لهم ولو في العمر مرة فرصة زيارة دوائرهم الانتخابية، والأمر سيان بالنسبة للأنظمة الشمولية، حيث تقوم هي الأخرى بتغيير اسم الحزب الذي يقف وراء استيلائها على ما يسمى بالنظام الديمقراطي وتعيد تكوين مؤسساته ومن ثم تعلن عن ديمقراطيتها عبر إجراء انتخابات تكون الغلبة فيها بينة وواضحة لحزبها حتى قبل بداية عمليات التصويت وفرز الأصوات، وذلك بسبب احتكارها لمعظم الموارد وسيطرتها على غالبية الأدوات التي تتيح اكتساحها لأي انتخابات، وذلك في الوقت الذي تحرم فيه الأحزاب الأخرى من متطلبات التنافس الديمقراطي الحر، ولذلك دائماً ما تكون نتائجها غير مرضي عنها من قبل الأحزاب الأخرى الأمر الذي يؤدي إلى تسميم المناخ السياسي التي تنشده هذه الأنظمة الشمولية في أن يكون ديمقراطياً. يمكن القول ان تجاربنا الديمقراطية منذ الاستقلال اتخذت شكلين يمكن أن نطلق عليهما مجازاً الديمقراطية الطائفية والديمقراطية الشمولية، ويقيني أنه لا هذه ولا تلك بديمقراطيات يمكن أن تلبى طموح شعبنا في بلوغ ما ينشده من ديمقراطية حقيقية وتحقيق ما يصبو إليه من رفاهية وسلام، فديمقراطية الطائفيين لها مقدرة مهولة في اشباع رغبة الشعب في الكلام بأشكاله وألوانه المختلفة، وماعدا ذلك فكل شأن «في محلك سر» كما يقول العسكريون، وللأمانة أحياناً تتقدم البلاد بالخطوة البطيئة على الرغم من أن عهودها دائماً ما تكون مستقرة للغالية وخالية من الضغوط المحلية والعالمية، أما ديمقراطية الشموليين فتنظر إلى أن كثرة الكلام تحت كافة المسميات لا تعدو إلا أن تكون مجرد ترف لا داع له، حيث في رأيهم أن الهدف واضح ولا يحتاج لفلسفة ولا كثير كلام. ولذلك نجد أن محصلة ديمقراطية الطائفيين في مجال إنشاء البنيات وتقديم الخدمات خجولة للغاية، وهي أسوأ في مجال إتاحة الفرص لممارسة كافة قطاعات الشعب للعمل السياسي، حيث تقتصر الممارسة فقط على قلة تمثل أبناء الطائفة والأصهار والمقربين والداعمين من المثقفين، وفي عهود الديمقراطية الشمولية نجد أنه غالباً ما تتم خلالها الانجازات الضخمة في مجال البنية التحتية من سدود وكباري ومطارات وشبكات اتصالات وطرق وتوليد كهربائي، وكذلك يتم التوسع في تقديم الخدمات من صحة وتعليم وخلافه. ولعله هذا هو سر صبر الشعب السوداني على الأنظمة الشمولية وضيق صدره بما يسمى بالأنظمة الديمقراطية «الديمقراطية الطائفية». وهكذا للديمقراطيتين نقائصهما وما يفتقده أحدهما يتوفر عند الآخر، وبالتالي الحاجة ماسة إلى أن تعمل كل منهما على تقوية نقاط ضعفها قبل أن يدّعيا بديمقراطيتهما، ومن ثم عليهما أن يبدل كل منهما قناعته تجاه الآخر، ويتواثقا حول الكيفية التي يتم بها التحول الديمقراطي الحقيقي في البلاد، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية لدى كافة شرائح المجتمع عبر نشر ثقافة الديمقراطية. اذن لقد آن أوان التوقف تماماً عن ممارسة احتقار ذكاء المواطن السوداني وايهامه بأن هنالك ديمقراطية مسلوبة تريد المعارضة عودتها بأي من السبل، وبأن هنا ديمقراطية قائمة تعمل الحكومة على حمايتها بأي ثمن. أحسب أن المخرج الأنسب والأوحد لأزمة البلاد السياسية هو التوافق بين الكافة، حكومة ومعارضة بكافة أشكالها، على إجراء عملية تحول ديمقراطي حقيقي لا تعير الماضي أي التفاتة البتة، بخاصة وأن المعارضة بأشكالها المختلفة وعلى الرغم من تعدد وتنوع محاولاتها طيلة السنين السابقة عجزت تماماًً عن إزاحة النظام بغية إعادة ديمقراطيتها وذلك بسبب قوة النظام وضعف المعارضة ووهنها البائن للعيان. كذلك وضح جلياً أن الشعب غير راغب في إزاحة النظام عبر ثورة شعبية لقناعته، كما يبدو، بعدم جدواها بسبب عدم ثقته في البدائل من قيادات أحزاب سياسية، وإلا لكان قد خرج حتى قبل الشعب التونسي بحكم أن الشعب السوداني معروف عنه بأنه معلم الانتفاضات ورائد الهبات الشعبية في العالم العربي. والأمر كذلك بالنسبة للحكومة حيث لا يعقل أن تسمح باستمرار الوضع السياسي بالبلاد محتقناً هكذا وهو محاط بكل هذه الضغوط المحلية والاقليمية والدولية إلى ما لا نهاية. لدي يقين تام بأن التحول الديمقراطي الحقيقي هو الحل الوحيد المتبقي، وهو في رأيي يمكن أن يشكل المخرج الأوحد للبلاد من كل أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأحسب أن المبادرة بيد الحكومة التي تملك فرصة استغلالها عبر دخولها في حوار مثمر وبناء مع القوى السياسية والاجتماعية المختلفة بهدف وضع أسس مشتركة لاقامة نظام ديمقراطي بديل يلبي طموحات الشعب السوداني، وليس طموحات الأحزاب التي تنادي بعودة ديمقراطياتها السابقة التي يجب نسيانها تماماً لضعفها في التجربة وفشلها الذريع في تلبية أي من أشكال الطموح والآمال التي يتطلع إليها الشعب السوداني. كذلك أحسب أن الأمر يتطلب الاتفاق على فترة انتقالية تنخرط فيها كل الأحزاب في عمليات جادة لإعادة تكوينها وبناء مؤسساتها بصورة تمكن كافة أعضائها من ممارسة الحق الديمقراطي في تشكيل مؤسساتها واختيار قياداتها، وأن تعمل الأحزاب كلها على نشر برامجها وفتح أبواب عضويتها واسعة سعياً وراء ضخ دماء شبابية جديدة في هذه الأحزاب من كافة قطاعات المجتمع وذلك لأجل تطبيق الديمقراطية الحقيقية التي تمكن من إقامة العلاقة المطلوبة بين أفراد الحزب الواحد، وبين أفراد المجتمع والدولة على مبدأ المساواة بين أفراد الشعب من حيث الحقوق والواجبات واتاحة الفرصة لهم للمشاركة في صياغة التشريعات التي تنظم الحياة في البلاد. عموماً تعتبر الأحوال مواتية بالنسبة للحكومة والمعارضة لإجراء تحول ديمقراطي حقيقي من خلال تفاوض جاد بين الطرفين، بخاصة وأن المعارضة لا تملك من الأدوات والقوة ما يجعل من أمر الإطاحة قسراً بالنظام بالأمر اليسير والساهل، وبلا شك أن محاولتها وتجاربها السابقة المتنوعة والمتعددة قد أثبتت لها ذلك. إذن لا بديل لها غير القبول بالتفاوض بغية التوصل الى اتفاق يدعم مسألة التحول الديمقراطي الجاد. كذلك على الرغم من القناعة بعدم جدوى وفشل الضغوط المحلية الخارجية المتزايدة في زحزحة النظام من السلطة إلا أن ذلك الفعل لا شك يشكل خطورة على الأوضاع في السودان برمتها ويعيق تحقيق طموحاته في أن يصبح قوة إقليمية يوضع لها كل اعتبار، وبالتالي من الحكمة أن تبادر الحكومة بوضع الخطط لبدء حوار التحول الديمقراطي الجاد في البلاد ليجعل من الجمهورية الثانية مثلا وقدوة للبلدان العربية والأفريقية في التحول الديمقراطي الحقيقي، ويتيح كذلك للسودان أن يبرز كقوة إقليمية تستطيع المحافظة على مصالحها وتدافع عن مصالح القارة بأكملها.