ما بين الحضور الشهير في «ميدان أبو جنزير» في مارس من العام الماضي، والغياب الحزين الذي أعلنه الناعي أمس الأول، في ذات الشهر «مارس، سنواتٌ من النضال الطويل، وعمرٌ حافل بمناهضة الأنظمة الشمولية المتعاقبة، والتصدي لكافة أشكال الديكتاتوريات، والسعي المُضني والمتواصل في سبيل سيادة دولة القانون والحريات وإشاعة الديمقراطية. نضالٌ دفع ثمنه غالياً سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني محمد ابراهيم نُقُد، ما بين الملاحقة المتواصلة، والغياب القسري خلف القضبان، أو تحت الأرض؛ «فَتر» خلاله جسمه «النحيل» وأنهكه المرض، ولكن لم تفتر هِمّته في السعي من أجل عودة الديمقراطية، والدعوة إليها في كل منبر أو لقاء. ولم يَغِب نُقُد عن المشاركة في أي نشاط أو تحرك للمعارضة ضد النظام، بل قاد بخبرته الطويلة، وحكمته وحنكته، معظم تحركات العمل المعارض، مشاركاً في الندوات الجماهيرية، والتظاهرات الشعبية السلمية، التي كانت تتحيّن الفرص للخروج إلى الشارع. وتظل تفاصيل مظاهرة «أبو جنزير» الشهيرة باقية في الأذهان، إذ حضر نُقُد يومها إلى الميدان للمشاركة في التظاهرة التي غاب عنها كل قادة المعارضة، وأيضاً غاب عنها الجمهور، بعد تهديد السلطات بإستخدام العنف ضد كل من يشارك فيها، حضر نقد وحيداً، ووثّق للموقف في قطعة «كرتون» قديمة، كتب عليها بواسطة «الفحم» عبارة قصيرة معبّرة ولاسعة، (حضرنا ولم نجدكم)، موجهاً رسالة شديدة العتاب لكل القوى المعارضة، قَبل أن يتم اعتقاله بعدها من الميدان، ويتم توقيفه لفترة قصيرة، ليسجّل بذلك نقاطاً مضيئة أخرى لصالحه، ويبرهن على أنه كان يمثّل أغلبية لوحده. لم يكن ذلك الحضور هو الأول للزعيم اليساري الذي غيّبه الموت أمس الأول بعاصمة الضباب لندن، ولا الأخير في طريق نضاله ومعارضته المتواصلة لنظام الانقاذ الحالي، إذ مثّل دوماً الصوت الأعلى في نقده اللازع، ورفضه لكل سياسات الحكومة في كافة المجالات، وظل معارضاً للإنقاذ في كل مراحلها، وكانت النقطة الأبرز في مسيرته النضالية ضدها، ترشٌّحه لمنصب رئاسة الجمهورية، في مواجهة الرئيس عمر البشير، فبالرغم من تيقنه شبه التام من إنعدام فرص نجاحه أمام مرشح الحزب الحاكم، إلا أنه قرر المشاركة، ربما على أقل تقدير ليوصل رسالة مهمة، هي التشديد والتذكير -عبر برنامجه الانتخابي - بضرورة العمل على عودة الديمقراطية، واشاعة الحريات، وانهاء الحكم الشمولي. ولم يتخلَّ نقد عن حلمه بالديمقراطية حتى الرمق الأخير من حياته، إذ ظل مشاركاً في كل أنشطة واجتماعات قوى الاجماع الوطني، واضعاً بخبرته الطويلة، خارطة طريق لخططهم للتغيير، ولم يثنه عن ذلك إلا مرضه الأخير الذي استوجب سفره للعلاج بالخارج. ويرى مراقبون أن غياب الزعيم اليساري الكبير في هذا التوقيت الذي تمور فيه الساحة السياسية بعدة قضايا مفصلية، يُعد خسارة فادحة، سواء لحزبه، أو لتجمع قوى المعارضة، بل هو خسارة للعمل السياسي ككل، إذ يصنفونه كأحد أهم الشخصيات السياسية العقلانية والحكيمة، ويسود إعتقاد واسع بأن تعويض فقده سيكون أمراً صعباً بل مستحيلاً. فمن الُمتوقع أن يعيد رحيل السكرتير العام للحزب الشيوعي، الصراع بين الحرس القديم بقيادة سليمان حامد، وتيار الشباب الذي يمثّله الشفيع خضر، للواجهة من جديد، وهو الصراع الذي كان قد بدأ في الظهور إبّان انعقاد المؤتمر العام الخامس، وما تلى ذلك من حديث عن ترشيح خضر لخلافة نُقُد حتى قبل وفاته. لكن القيادي بالحزب الشيوعي صديق يوسف يستبعد أن يتم ترشيح أو انتخاب أحد لشغل منصب السكرتير العام حالياً، قائلاً إن جميع القرارات الخاصة بالحزب تتخذها اللجنة المركزية، وان الإجراءات ستسير بصورة طبيعية ومؤسسية عبر المكتب السياسي الذي سيسيّر الامور الى حين انعقاد المؤتمر العام السادس. وأكد يوسف في حديثه ل (الصحافة) بأن نُقُد كان قائداً ومفكراً عظيماً، وأن موته سيحدث فراغاً واسعاً بلا شك، مشيراً إلى أنه بالرغم من أن السكرتير العام للحزب ظل في موقعه لمدة 41 عاماً، إلا أن الحزب الشيوعي يظل مؤسسة لا تتأثّر بموت أو غياب أحد، ولا ترتبط بفرد. فيما ذهب قيادي بقوى اليسار الى ترجيح فرضية أن يكون تأثير رحيل نُقُد على الحزب الشيوعي كبيراً، ويصف القيادي البارز بحزب البعث السوداني محمد علي جادين، الزعيم الشيوعي الراحل بأنه أحد مُفكري وسياسيي الجيل الأول في السياسة السودانية، وأحد القلائل المرتبطين بتفاصيلها الدقيقة، ويمضي جادين في وصفه لنُقُد بأنه صاحب كاريزما واضحة، بناها خلال سنوات طويلة، وهي التي أدّت إلى تماسك الحزب الشيوعي بعد أحداث (71)، وتطوير أفكاره وخططه بعد نهاية الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات. ولم يخفِ جادين قلقه من المستقبل الذي ينتظر الحزب الشيوعي السوداني بعد رحيل زعيمه، وقال إن مكانة نُقُد من الصعب لأي أحد أن يشغلها، مضيفاً في حديثه ل (الصحافة) بأنه يعتقد «أن مكان نُقُد سيظل شاغراً»، وسيحتاج الشيوعيون إلى جهود كبيرة حتى يملأوا الفراغ الذي تركه. ويشير جادين إلى أن الحزب الشيوعي لم يكن وحده الذي فقد نُقُد، بل فقدته كل قوى الاجماع الوطني، التي كان أحد رموزها الكبيرة، ويضيف بأنه كان يمثّل صوت الحكمة والعقل داخل قوى التجمع. وفي السياق ايضاً يُشكك المتابعون في مقدرة الحزب الشيوعي على لم الصف لاسيما وأن الأحزاب التاريخية ترتبط بزعاماتها التاريخية ، وحسب المحلل السياسي حمد عمر الحاوي فإن رحيل القيادات التاريخية يصب في مصلحة الأحزاب بإتاحته الفرصة أمام قيادات أخرى تجدد من دماء الحزب لكن ذلك يتم في المجتمعات المعافية والتي تتنسم هواء الديمقراطية ، أما في بيئة سياسية كالموجودة في السودان فإن رحيل القائد الاوحد للحزب من شأنه أن يؤدي الى تشرذم الحزب وتفككه ، يرى الحاوي الذي تحدث ل( الصحافة ) أن إنعدام القيادة التاريخية في جو يفتقر الى ممارسة الحريات والتبادل السلمي للسلطة حتماً ستكون نتائجه وخيمة على الكيانات الحزبية ، مرجحاً أن يؤدي رحيل سكرتير الحزب الشيوعي الى تنافرات كثيرة داخل صفوف الحزب .