سيشهد الشهر القادم صدور كتاب «ازدياد المخاوف النووية» وهو كتاب جديد عن تاريخ تصورات المخاطر النووية من تأليف عالم الفيزياء والمؤرخ سبنسر ويرت الذي بنى مادة هذا الكتاب على مؤلفه الذي صدر عام 1988م بعنوان «المخاوف النووية: تاريخٌ من الصور». إن سبنسر ويرت مشهور غاية الشهرة وسط أعضاء موقع التدوين الآني الشبكي [دوت إيرث] Dot Earth باعتباره مؤلف «الدليل الأساس» ل100 سنة من البحث المعني بالتأثير البشري على المناخ «اكتشاف ارتفاع درجة حرارة الأرض». مع إيلاء العالم اهتمامه لليابان فيما يخص الذكرى السنوية التي أقيمت نهاية الأسبوع الأول من مارس للزلزال والتسونامي العظيم الذي ضرب جزيرة هونشو ودمّر محطة فوكوشيما دايتشي للطاقة النووية وجهتُ الدعوة لاسبنسر ويرت لتصور الآثار التي كانت آثاراً اقتصادية ونفسية أكثر بكثير من كونها آثاراً إشعاعية، وهذا هو مقال سبنسر ويرت حول مصادر المخاوف النووية وعودتها مجدداً بعد دمار مصنع فوكوشيما: بعد عام من كارثة مفاعل فوكوشيما يمكننا أن نبدأ في تقييم آثارها الطبية والعقلية على الناس، والأثر العقلي هو الذي يمكننا التنبؤ به، فكما أوضح بريد «قرين» الشبكي الآني الذي يحرره ماثيو وولد فإن الآثار الطبية من المتوقع أن تكون ضعيفة جداً ومتفرقة بشكل واسع. ووفقاً لواحدة من النظريات فإن الإشعاع المتزايد الذي يتلقاه مئات الآلاف من المواطنين سيحدث زيادة في نسبة إصابتهم بالسرطان بيد أنها زيادة دقيقة جداً أن تكتشفها من بين العدد الكبير من السرطانات التي تحدث بأية حال. وتقول نظرية مشابهة إن الإشعاع في هذه المستويات المنخفضة قليلاً ما يحدث أية سرطانات كما أن العلماء لا يدرون ذلك على وجه الدقة. وعلى أية حال فإن الأثر النفسي واضح لأن الدمار الحادث من الإشعاع ذي المستوى المنخفض لا يمكن اكتشافه والناس الذين يتعرضون له يُتركون في شكٍّ مريب. إن كثيراً من الناس يعتقدون أنهم باتوا ملوثين بالإشعاع مدى الحياة وقد يرفضون إنجاب أطفال خوفاً من عاهات الولادة وربما يتجنبهم الآخرون الذين يخشون الإصابة بنوعٍ من العدوى الغامضة. أضف لذلك الإقلاع من المكان نتيجة الإخلاء القسري فينتج لك عن ذلك العزلة الاجتماعية والقلق والكآبة والمشاكل الطبية النفسية والسلوك المتهور بل حتى الانتحار. كانت هذه هي الحادثة النووية الأسوأ في شرينوبل بأوكرانيا عام 1986م. لقد توصلت دراسة شاملة أجريت عام 2005م إلى أن «الأثر الصحي العقلي لحادثة شرينوبل يعد المشكلة الصحية العامة الأكبر التي سببتها الحادثة حتى الآن». فمثل هذا الخطر النفسي الكبير لا يصطحب معه المواد الأخرى التي تعرض الناس لخطر السرطان والأمراض القاتلة الأخرى، فالانبعاثات اليومية الناتجة عن احتراق الفحم مثلاً لا تثير الخوف الغريزي بشكلٍ واسع رغم أن هذا كما اكتشفت إحدى الأكاديميات القومية لدراسة العلوم يسبب 10000 حالة وفاة مبكرة وسط الأمريكيين سنوياً. فالإشعاع النووي فقط هو الذي يحمل عبئاً نفسياً كبيراً لأنه يحمل إرثاً تاريخياً، وارتباط الإشعاع النووي بالخطر الغريب كان حاضراً سلفاً في الخيال العلمي في الثلاثينيات ومثال واحد لذلك هو أن فيلم «الإشعاع غير المرئي» أظهر الممثل بوريس كارلوف باعتباره عالِماً مجنوناً متوهجاً إشعاعاً: وبعد قصف هيروشيما وناجازاكي بالقنبلة انفجر التمثيل الخيالي إلى ضربٍ كامل من ضروب الأفلام ذات الحشرات العملاقة والفظائع الأخرى، وقد فزع المشاهدون من الحيوانات المخيفة إذ تصوروا أنها كانت آثاراً ظاهرية للإشعاع. وقطعاً فإن الناس عرفوا أن الطاقة النووية لها جانب جميل، ففي الخمسينيات أنقذ العلاج الإشعاعي أرواح الملايين من الناس بيد أن أفكار «الذرات المفيدة» طغت عليها مخاوف الحرب الباردة. ولقد ركَّزت الاحتجاجات التي أطلقت ضد اختبارات القنبلة على المواد المشعة التي تطلقها هذه الاختبارات حول العالم على أجنحة الرياح. فالحديث حول الاحتماء بالملاجئ fallout shelters يقدم صورة لكوكبٍ ميت يعلوه الغبار الإشعاعي، وباختصار فإن الخوف من الحرب النووية أكد على صور الإشعاع باعتبارها تلوثاً ينمو نمواً تدريجياً وهو إشعاع قاتلٌ على نطاقٍ عالمي بشكلٍ لا مثيل له. ولكن تضاءلت المخاوف البائنة بنهاية الحرب الباردة لكن فكرة الإشعاع النووي باعتباره ملوثاً غامضاً ظلت باقية: فلنفكِّر في السمكة ذات الثلاث أعين في مصنع النفايات السائلة من الطاقة النووية المعروضة في الفيلم التلفزيوني «عائلة سمبسون» أو المُسوخ البشعين الذين يتنقلون بتؤدة في لعبة الكمبيوتر الرائجة «تداعيات الانفجار النووي» التي تلت مرحلة الخوف. أما الصورة الأكثر واقعية فهي صورة الإرهابيين وهم يخططون لتفجير قنبلة «قذرة» وهي قنبلة عادية تقوم بنشر المواد المشعة حول حيٍّ من الأحياء، فبالطبع إذا أردت أن تخيف الناس بموادٍ مسببة للسرطان فهناك كثير منها يمكن الحصول عليه بأسهل من حصولك على النفايات النووية. ولكن المادة النووية هي التي تسبب الهلع الحقيقي وتدعو لعملية الإخلاء الواسعة وجهود التنظيف المحمومة حيث يمكن اكتشاف أصغر أثرٍ للإشعاع، لذا فإن الخوف النووي يسترجع تغذية نفسه على نفسه ويُبقي على حالته بحسبانه الرعب الأخطر. ولا يعني هذا أن المواد الكيماوية العادية يجب أن تخيفنا، ففي الوقت الذي يعمل فيه التلوث على تقصير بعض الحيوات لكن قبل كل شيء فإن مصانعنا لها فوائد ضرورية. ولكن دعنا نحاول قياس الأشياء: فذرة عنصرٍ إشعاعي كذرة الزئبق أو جزيء دخانٍ مُسَرْطَن يجب معالجتهما معالجة حذرة بيد أنها معالجة موضوعية لا كما لو كانتا مسببتين لمخاوف أسطورية يصعب وصفها.