بتاريخ الخميس 22 مارس 2012م وتحت عنوان :«ود المهدي في إجازة مفتوحة بأمر الشعب»..! نشرت صحيفة «ألوان» في عددها الرابع عقب عودتها من الحظر الاخير لصدورها في الخرطوم، مقالاً لصاحبها ورئيس تحريرها الاستاذ حسين خوجلي تناول فيه باسلوب بديع وعميق كالعادة تجربة زعيم حزب الامة وامام الانصار رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي، في خطل الخلط بين الدين والسياسة والمعضلة الناجمة عن مأزق القداسة بناءً على هذا المستوى الوطني والصعيد العائلي. وهي تجربة ثبت أنها غير مجدية وليست مفيدة او منتجة للثمرة المرجوة منها أو المنشودة منها والمأمولة فيها كما يرى حسين خوجلي وغيره.. ولأن مثل هذه النصحية الأخيرة التي وجهها حسين خوجلي للسيد الصادق المهدي منطلقاً في ذلك على ما يبدو من الحقيقة المتمثلة في أنه يعتبر أحد أبناء وأحفاد كبار أبكار الانصار الشرفاء من منطقة الشرفة ثم ود نوباوي بأم درمان العاصمة الوطنية التي انشأها الامام المهدي مؤسس الثورة الظافرة التي تأسست عليها هذه العاصمة، مثلما هو معلوم بصورة معروفة ومحضورة ومحفوظة في السجل التاريخي لهذه الثورة العريقة والوريقة والمباركة، قد أعادت للأذهان نصائح أخرى من ذات الشاكلة جرى توجيهها للسيد الصادق المهدي في مناسبات سابقة، واشهرها تلك الموجهة له من رئيس الوزراءالأسبق الزعيم الوطني الراحل محمد أحمد محجوب، وتلك التي تلقاها في مرحلة لاحقة من الرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري، فإنه من المفيد العودة لذلك في سياق مثل هذه الإطار لقراءة هذه التجربة المثيرة للجدل والدعوة للتأمل فيها والمشاركة والمساهمة في النظر اليها والعمل على استخلاص العبر والدروس المستفادة منها، وذلك على النحو التالي: نصيحة المحجوب للصادق في منعرج اللوى: في مذكراته التي أعدها باللغة الانجليزية وصدرت ترجمة عربية لها تحت عنوان «الديمقراطية في الميزان» ذكر القيادي السابق في حزب الامة الزعيم والمفكر الوطني الراحل رئيس الوزراء الاسبق محمد احمد محجوب: «برزت خلافاتي مع الصادق المهدي في الاشهر الأولى لعام 1966م. فذات مساء جاء بعض افراد عائلة المهدي الى منزلي طالبين مني الاستقالة من منصب رئيس الوزراء حتى يصبح الصادق المهدي الذي بلغ ثلاثين عاماً حينها رئيسا للوزراء.. وكان جوابي هو أن هذا الطلب غريب..! فالصادق لا يزال فتياً، والمستقبل أمامه.. وفي وسعه ان ينتظر ، وليس من مصلحته او مصلحة الحزب والوطن ان يصبح رئيسا للوزراء الآن..!! بيد انهم اصروا فتصلبت وساندني الحزب، ثم طلبت مقابلة السيد الصادق من اجل اصلاح الضرر، واجتمعنا وابلغته انني مستعد للاستقالة ومنحه الفرصة ليصبح رئيساً للحكومة لو لم يكن السودان في خطر.. وذكرّته بأنه سيتعامل مع السياسي الحاذق رئيس مجلس السيادة الزعيم اسماعيل الازهري الذي يستطيع ان يلوي ذراع اي شخص.. وليت الصادق رد عليَّ قائلا: انني مخطئ .. بل قال: «انني اعرف ذلك ولكنني اتخذت موقفاً ولن اتزحزح عنه»..! وكان تعليقي هو «إنني مقتنع الآن اكثر من اي وقت مضى بأنك لا تصلح لرئاسة الوزارة»!! وهكذا فقد نصح الراحل المحجوب السيد الصادق المهدي في منعرج اللوى منذ الوهلة الاولى، ولكن وكما هو واضح فإن السيد الصادق لم يستمع لتلك النصيحة المخلصة، وربما قد يمكن ويجوز القول إنه لم يستفد ولن يستفيد منها حتى ضحى الغد، وعلينا أن ننتظر لنرى وندعو له بالهداية من رب العزة والجلالة المولى سبحانه وتعالى إ نعم المولى ونعم النصير. نصيحة نميري للصادق: وفي ما يتعلق بالنصيحة السابقة من ذات الشاكلة التي وجهها الرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري للسيد الصادق المهدي في سياق الدعوة للضرورة الملحة لإعادة النظر في الخلط بين الدين والسياسة وتفادي مأزق القداسة الذي يترتب على ذلك وما ينجم عنه من معضلة ظلت مستعصية على الحل والمعالجة الناجعة والناجحة كما ثبت في التجربة، بهذا الصدد وفي هذا الخصوص بالنسبة للسيد الصادق المهدي وغيرها من التجارب المماثلة الماضية والراهنة، فقد جاءت وارادة في كتاب «المصالحة الوطنية الاولى في السودان .... انتكسوها أم انتكست».. للكاتب الصحافي اللبناني والعربي المخضرم الاستاذ فؤاد مطر، حيث ذكر الراحل نميري في ذلك الكتاب الذي صدرت طبعته الاولى بالعاصمة اللبنانية بيروت عام 1999م: إن مشكلة الصادقة المهدي هي أن السودانيين لا يعرفونه سوى انه حزبي قديم واحد ورثة الثورة المهدية، ومثل هذا الأمر كان يبدو مهماً لو أن التغيير الاجتماعي لم يحدث في السودان، ولكن هذا التغيير حدث، وفي كثير من المرات كنت أقول للصادق إن هوايتك القديمة لا تعود بالنفع عليك.. بل إنني كثيراً ما صارحته بأن انتماءه الحزبي والطائفي يسبب له ضرراً كبيراً.. وهو كان ضمناً يرى ذلك، لكنه كان يقول: ماذا أعمل، هذا قدري.. وكنت ارد عليه: من المهم ان تنسى الهوية القديمة وتعمل معنا ميدانياً.. وكثيراً ما كنت استند في تحليلي معه الى بعض الوقائع، ومنها أن بعض ابناء واقارب الامبراطور الاثيوبي السابق هيلاسلاسي كانوا قد تجمعوا في اوربا بعد سقوط حكم ذلك الامبراطور، وحاولوا ان يفعلوا شيئا في مواجهة الثورة التي اطاحت بذلك الحكم الامبراطوري في إثيوبيا في سبعينيات القرن العشرين «المنصرمة» لكنهم عجزوا عن ان يفعلوا شيئاً لمواجهة تلك الثورة الاثيوبية. وعجزوا عن استقطاب جماعات في داخل إثيوبيا لمصلحتهم .. وحتى عندما عاشت إثيوبيا ظروفاً اقتصادية صعبة في مرحلة لاحقة لتلك الفترة، لم يجد ابناء الشعب الاثيوبي أن الحل البديل هو أبناء الامبراطور السابق واقاربه، فقد سقطت الصيغة القديمة ولا حل الا في صيغة جديدة. الصادق ونميري وقصة اللقاء المثير: ويشير الراحل نميري إلى أن المصالحة الوطنية التي كان قد ابرمها مع الصادق المهدي عام 1977م، استمرت اكثر من سنتين على شيء من الجمود نتيجة لتردد الصادق على حد قوله الذي أضاف فيه إنني أقول بين وبين نفسي لا بد أن يضع هذا الرجل حداً لتردداته.. وبعدما بلغته انني متضايق من أسلوب تحركه وعاتب عليه، اتصل يطلب تأمين لقاء معي. وعندما لم يتحدد اللقاء أرسل إلى نسيبه الدكتور شريف التهامي الذي كان يشغل حينها منصباً وزارياً مهماً في السودان هو منصب وزير النفط والطاقة والثروة المعدنية، يطلب مني تحديد موعد استقبل فيه الصادق.. وهنا وجدت انه قد آن الاوان لحسم بعض المسائل، ومن أجل ذلك قلت للتهامي ان الصادق لا يلتزم بما تفاهمنا عليه، ويتحدث عن اتفاق من تسع نقاط يقول إننا توصلنا اليه، ولما كان هذا الأمر لم يحدث، وليست لدينا وثيقة مكتوبة بهذا المعنى، وحرصاً مني على عدم التفريط في المصالحة، فإنني أفضل أن تتم اللقاءات بشكل موسع يختار فيها الصادق من يحضر معه على ألا يختار نوعية متوترة، وأنا عندي من هو مؤمن بالمصالحة ونستطيع أن نتباحث في الأمر في مثل هذه اللقاءات الموسعة، بحيث لا يعود هناك مجال للقيل والقال والتأويلات.. وقد طرحت هذه الفكرة على أساس أنه بعد سنتين ونصف من اللقاء الأول للمصالحة الوطنية كما جرى في بورتسودان عام 1977م لا بد من وضع الأمور في نصابها. حكاية دائرة المهدي: ويضيف المرحوم نميري أن الصادق رحب بالفكرة وتم اللقاء الموسع الذي حرصت على ان يشارك فيه الى جانبي كل من نائب رئيس الجمهورية حينها الفريق عبد الماجد حامد خليل ورئيس جهاز الأمن اللواء عمر محمد الطيب في ذلك الحين.. وكلاهما بذل الجهد الكثير من أجل انجاح تلك المصالحة الوطنية آنذاك.. ولقد فوجئت بأن الصادق عرض في ذلك الاجتماع الموسع أربع نقاط اعتبرتها أنا نقاطاً خاصة بينما يعتبرها هو نقاطاً عامة. وقد كان إحدى تلك النقاط حول دائرة المهدي.. وعندما عرض الصادق هذه النقطة بالذات قلت لها وبحضور الآخرين.. إن أملاك هذه الدائرة جرى توزيعها على الناس، وآمل ألا تبحثوا هذه الأمور بالأسلوب الذي يثير الحساسيات.. ولذلك آمل ان تحافظوا على التوازن الذي أوجدته لكم في العائلة، وهو كما ترون توازن عادل ومدروس، وقد مضت عليها سنوات، كما آمل ان تأخذوا في الاعتبار انني بصفاي رئيساً للجمهورية أستطيع اتخاذ قرارات في شأن أملاك الدائرة تمنع تولد الحساسيات.. ويضيف المرحوم نميري: إنني لم اعتبر النقطة الثانية التي طرحها الصادق المهدي والمتعلقة بابن عمه والي الدين الهادي المهدي الذي اصطاده الشريف حسين الهندي زعيم المعارضة السودانية بالمنفى في تلك الفترة ذات اهمية، فقد حدث في اطار مناورات اولئك المعارضين الذين هم في الخارج وتحالفاتهم، ان انضم ولي الدين الهادي المهدي إلى حلقة الهندي آنذاك. واعتقد ان الصادق بالغ في تعليق اهمية على ذلك، لأنه يعرف أنه ليست لابن عمه قاعدة في السودان، بل ان عمه المرحوم الهادي نفسه لم يعد له قاعدة لكي يرث ولي الدين قاعدة ابيه، فقد تغيرت هذه القاعدة، ولعل الصادق هو الوحيد بين الانصار الذي تكيّف مع التغيير الاجتماعي الذي حدث.. ولذلك فإن ما فعله الشريف حسين الهندي زعيم المعارضة في المنفى بالنسبة الى ولي الدين الهادي المهدي هو «شيطنة» سياسية، وقد حاول الشريف الهندي أن يفعل الشيء نفسه مع بعض العناصر من الختمية في ذلك الحين، ولكن مثل هذه الألاعيب سرعان ما تتكشف ثم ولمجرد أن تظهر لهم الحقائق فإنهم يبتعدون عن عناصر السوء. قصة صراع الإمامة: ويشير المرحوم نميري إلى أن النقطة الثالثة التي طرحها الصادق المهدي في اللقاء الموسع معه قد كانت متعلقة بمسألة الإمامة.. ويضيف قائلاً: عندها قلت له ليس من المصلحة اعتبار هذه النقطة مهمة لأنها ستشق العائلة، وسيكون الانشقاق حاداً خصوصا أن احمد المهدي يجهز نفسه لكي يكون هو الإمام.. وعندما انتقلنا للنقطة الرابعة المتعلقة بالمرحوم الهادي المهدي قلت في هذا الصدد إن الإمام الهادي أصيب في احدى القرى على الحدود السودانية مع الجارة اثيوبيا، وحاول الجنود انقاذه لكنه كان ينزف بشدة واسلم الروح ودفنوه في مكان هناك.. اما اين هو هذا المكان فإنني لم اسأل، وحتى اذا سألت فإنني لن اجد الاجابة الشافية، فكيف سنعرف أين دفن المرحوم الهادي المهدي في مساحة ارض تبلغ حوالي مائة كلم2؟! وقد مرت على الحادثة في تلك الفترة تسعة فصول خريف، ونزلت امطار كثيرة، وتغيرت معالم الارض فمن سيعرف أين بالضبط تم دفن المرحوم الهادي المهدي؟! نميري يعلن القناعة المستخلصة: ويضيف الراحل نميري: لقد بدا لي ان تركيز الصادق المهدي ومن هم حوله على هذه المسائل سببه المواقع في العائلة وأنصارها وليس المصالحة الوطنية الشاملة.. وقد قلت للصادق إن كثيرين اتصلوا بي وقالوا إن الذي لا تفصح عنه هو إنك تريد ان تكون نائبا لرئيس الجمهورية او رئيسا للوزراء، ولأنه عندما يتم ذلك لا تعود عندك مشكلات، واوضحت له أن ردي عليهم كان هو أنكم أنتم الذين تريدون للصادق مثل هذا المنصب وليس هو.. وفي الواقع فإن حديثي مع الصادق منذ البداية لم يكن حديث مناصب، وانما كيف نبني وحدة بين المواطنين السودانيين، لكني اكتشفت مع الاسف ان الكلام الذي نقله لي البعض لا ينبع من فراغ، وقد كنت افضل ان يشارك الصادق المهدي في المسؤولية بدلا من أن يكثر من الحديث عن الاقتصاد السوداني، وكيف انه في رأيه اقتصاد منهار. ولقد كنت أفضل لو أن الصادق تولي وزارة الاقتصاد او وزارة المالية او وزارة التجارة بدلا من أن يكون هاجسه التنظير، وماذا يقول عنه الذين معه وحوله... فقد كان عليه أن يقول انا عندي خطتي لاصلاح مسار الاقتصاد السوداني، كما كان عليه أن يقول أنا لدي أساليب لتحسين الخدمات، بدلاً من أن يكثر من الحديث حول تدهور الخدمات في السودان، وإنني واثق أنه عندما يفكر الصادق في السودان اولا ثم نفسه ثانياً فإن قطار المصالحة سيندفع، فالفرق بيني وبين هؤلاء من أمثال الصادق المهدي وغيره، هو ان هاجسي الاساسي يتمثل في مصلحة الوطن بينما هواجسهم تنحصر في أشخاصهم وحجم مكاسبهم من المصالحة الوطنية، وكأنها صفقة وليست قضية وطنية بكل ما تحمل من ابعاد كبرى وشاملة وواسعة. عودة لنصيحة حسين خوجلي: وبالعودة للنصيحة التي وجهها الأستاذ حسين خوجلي للسيد الصادق المهدي، فإنه تجدر الاشارة الى انه ذكر في الخاتمة: سيدي الإمام، لأننا نحبك ونحترمك وانت تعلم ذلك، فإننا نرجو من أجل الإسلام والسودان والانصار والانقاذ والمرجئة والرافضة، أن تصالح السلطة الحاكمة القائمة بشرف أو تعارضها بشرف.. أو أن الشعب السوداني الحليم سيضطر أن يتخذ قراره التاريخي بمنحك إجازة تاريخية مفتوحة، ويتهد بتكاليفها في إحدى جزر الهند الشرقية لتمارس الاسترخاء واعادة التوازن والنقد، وتعيد قراءة الراتب ومقدمة بن خلدون. الحسرة والدهشة المحيرة: كما ذكر حسين خوجلي قبل أن يختم مقاله على النحو المشار اليه، أن كثيرين مثلي كانوا ومازالوا لا يعلمون بعد أن خرج الصادق المهدي من الانتخابات العامة جريحا: هل شارك الرجل ام قاطع او كان بين بين، أو لم يكن أصلاً لا في العير ولا في النفير.. وكانت دهشتنا بالغة حين دفع ابنه الضابط العميد عبد الرحمن الصادق الصديق مساعداً لرئيس الجمهورية كاملا غير منقوص الامتيازات، ليتفرغ هو لاجتهاد جديد يبرر به أن ابنه وقائد جيشه وحامل أختامه وأسراره الذي اصطنعه لنفسه خمسين عاما اجتهاداً، يريد عبره أن يقنعنا بأن تربيته الليبرالية الديمقراطية تسمح له بعد انهيار النظام الذي يعارضه بالكلمات القارصات، أن يذهب هو إلى برلمان الشعب ويذهب ابنه لمحكمة الشعب. ويضيف حسين خوجلي: ولأنني أعرف أيضاً معرفة تامة «معرفة أولاد حلة» السيد نصر الدين الهادي المهدي نائب الإمام والذي حارب الجميع من الأقرباء والغرباء في سبيل الوقوف مع السيد الصادق المهدي... وأعلم أنه لم يتخذ ولن يتخذ قراراً إلا إذا أذن له السيد بذلك.. فقد كانت دهشتنا أعظم حين علمنا أن الإمام سيقدم صنو روحه نصر الدين للمساءلة ويدينه بالجرم المشهود، لأنه وقع مع الجبهة الثورية أن يقاتلوا هم هناك ويتفرغون هم نضالاً بالكلام، ولسان حاله في معرف النضال الوطني يقول لهم: لا خيل عندك تهديها ولا مال.. فليسعد النطق إن لم يسعد الحال!!