عندما تعثر افتتاح مصنع سكر النيل الأبيض أوشكت القيامة أن تقوم، فتقدم وزير الصناعة باستقالته التى لم يقبلها رئيس الجمهورية، ثم سارع الرئيس بتشكيل لجنة تحقيق، بينما ماجت الساحة السياسية والإعلام بقصص لا صلة لها بحقيقة ما حدث، فبدأ بعض الناس ينسجون حكايات من خيالهم حول هذا التعثر، وطالت الاتهامات الكثيرين مما حدا بالجهات المسؤولة لحظر النشر في الموضوع. كل هذا الانفعال وتلك التداعيات نفتقدها اليوم والبلاد تواجه مأزقاً كبيراً ومصيرياً جراء التصعيد الخطير الذى تمثل في اجتياح قوات دولة الجنوب منطقة هجليج بكل ما تمثله من مورد حيوى لاقتصاد الوطن ولحياة ومعاش مواطنيه. إن خطورة ما حدث فى هجليج لا يقف في كونه أمراً يمس سيادة الدولة وهيبتها ووحدة ترابها فحسب، بل يتعدى كل هذا إلى المساس بأقوات المواطنين وتصاريف الحياة اليومية للناس من جرعة الدواء الى رغيف العيش الى سبل الحياة. ولعل التلهف المحموم على محطات الوقود والقفزة الجنونية فى أسعار العملات الصعبة وفى أسعار السلع التي واكبت الحدث، تقف مؤشراً واضحاً على هذا الارتباط. ورغم التطمينات التى تسوقها أركان الحكومة إلا أن ما أعلنه وزير المالية من إجراء تعديلات فى الموازنة لمجابهة المستجدات والتحولات الاقتصادية التى تمر بها البلاد على حد قوله يؤكد هذا الارتباط، فارتفاع أسعار العملات الأجنبية والشح المحتمل فى الوقود هما دوماً نذير شؤم بجنون الأسعار وانفلاتها، مما يرفع سقف معاناة بسطاء الناس وسوادهم الأعظم الى السماء. لقد ظلت حكومة «القاعدة العريضة» منذ مجيئها ومنذ يوم ميلادها تشكو البدانة والترهل، فهى عاجزة عن الحركة الدوؤبة التى تواكب الأحداث المتسارعة، وهى عوضاً عن أن تكون جزءاً من الحل أصبحت جزءاً من الأزمة، وبدانتها وترهلها يثقلان كاهل خزينة الدولة المرهقة أصلاً بأعباء مالية لا تتناسب إطلاقاً مع ما كان يرجى من تشكيلها. إن المواطن ليعجب ويتحسر من مردود المكونات الحزبية لهذه الحكومة تجاه الأزمة الحالية، فجيش المساعدين والمستشارين والوزراء ووزراء الدولة والولاة ونواب الولاة والوزراء الولائيين والمستشارين وكبار التنفيذيين لم يفتح الله على معظمهم بقول رشيد يتلمس السبل العاقلة لمجابهة الأزمة، اللهم إلا من تباريهم فى الإطلال علينا من شاشة التلفزيون ليقولوا كلاماً باهتاً ومستهلكاً ومكرراً ليؤكدوا به فقط وجودهم فى الحكم دون أن يعينوا الحكم على مجابهة الأمر أو يقدحوا أذهانهم لتقديم المشورة والنصح المفيدين. إن هذا الأداء السلبى من كافة المكونات الحزبية لحكومة القاعدة العريضة يأتي نتاجاً طبيعياً للفلسفة التى أنتجتها، فالحكومة التى تضم أحزاباً كرتونية مستنسخة بالاسم فقط من الأحزاب الأصل، وتضم فى ذات الوقت بعض أحزاب الأصل التى تضع رجلاً فى «القيف» وأخرى فى المركب ثم تدفع بالأبناء قليلى الخبرة والتجربة للحكم، ثم تعود وتنكر المشاركة... مثل هذه الحكومة المليئة بالتناقضات والعاجزة حتى عن الحركة بفعل الترهل، والمثقلة بما جاد به رحم الترضيات الحزبية والجهوية، والتى يتنصل حتى المشاركون فيها من أدائها ويرمونها بالحجارة.. كيف ننتظر منها الفعل السياسى الرشيد الذى يجابه هذه الأزمة وهي على ما هي عليه من عجز وعدم فاعلية؟! إن السيد رئيس الجمهورية بما يملك من تفويض دستوري يملك معه أيضاً القدرة والمرجعية على إقالة هذه الحكومة التي تتقاصر قدراتها عن مواجهة دقة وحساسية الظرف التاريخى الحرج الذى تمر به البلاد، ورغم ما تردده الحكومة وما تتمسك به من دفوعات «نظرية المؤامرة» التى ترمي بها فى وجه أطراف خارجية وداخلية، إلا أننا نرى فى هذه الدفوعات تنصلاً وعدم قدرة على المواجهة، فالتربص بالوطن ونحن لا ننكره يتطلب أول ما يتطلب حكومة قوية قادرة على الفعل الإيجابى المضاد والرشيد، بدلاً من التبارى والإنهماك فى إطلاق الاتهامات.. نريد حكومة تمشى وتسوق الدولة معها وفق إستراتيجية واضحة المعالم لا يحكمها الشطط والزعيق فى أمور حيوية تتطلب الهدوء والعقل.. حكومة تجابه وتحاصر النخب الحاكمة فى الجنوب بمنطق السياسة الرصين الذى يجعل من المجتمع الدولى ظهيراً لنا لا علينا، ويفضح الأساليب اليائسة لتلك النخب.. حكومة تخرس أصوات قارعى طبول الحرب المتشوقين الى إعادة السيناريوهات القديمة بذات الهمة التى يتم بها التصدى لبعض الأقلام فى الصحف ووسائط الإعلام ... حكومة تدرك أن تأمين الجبهة الداخلية ليس بالخطب النارية والتهديد بالويل والثبور وعظائم الامور، وانما بالتصدى لهموم الناس المعاشية ورفع المعاناة عن كاهلهم وتقديم أنموذج القدوة الحسنة بكل ما فيه من طهارة اليد ودرء الشبهات وأخذ المفسدين أيا كانوا بالشدة المطلوبة.. حكومة تنزع لافتات التهميش المشبوهة من أيدى قوى التمرد الجهوية، وتجردها من بضاعتها التى تغذى بها الإعلام العالمى، وذلك عبر بسط العدل والتنمية المتوازنة والشراكة فى السلطة والثروة لكل ولايات السودان، دون الالتفات لمن يريدون إعلاء أعراقهم ومذاهبهم وجهوياتهم فوق أعراق ومذاهب وجهويات الآخرين.. حكومة لا تناطح المجتمع الدولى بل تعمل بعقل وروية لتوسيع دائرة الأصدقاء وتقليص الأعداء، ولقد رأينا فى الأزمة الأخيرة كيف أنصاع مجلس الأمن والمنظمة الدولية للحقائق على الأرض إزاء المنطق الذى يجنح للعقل لا للهتاف والوعيد.. حكومة تفعل كل ما لم ولن تفعله حكومة القاعدة العريضة.. وهى ليست بعريضة. ونأمل ألا يفهم مطلبنا بتشكيل حكومة لإنقاذ الوطن أنه يأتى متناغماً ومنسجماً مع ما تطالب به بعض قوى المعارضة، فتلك القوى تريد حكومة قوامها «لحم الرأس» الذى يضم كل بانوراما الطيف السياسى الحاكم والمعارض فى البلاد. وهذا المطلب فى نظرنا لا يختلف عن حكومة «القاعدة العريضة» التى نطالب بذهابها، بل ربما تكون أكثر ترهلاً وتناقضاً. وفى تقديري أن مكونات الحزب الحاكم وقوى المعارضة مجتمعة لا يملكان البديل المقنع لمجابهة الأزمة الراهنة، فالحزب الحاكم جرب الحلاقة على رؤوسنا لسنوات وعقود، والمعارضة بدورها لم تفلح فى بناء أجسامها الحزبية العليلة على نمط معافى، وتشكو تنظيماتها من الهيمنة والانفراد بالقرار داخل الحزب، ويشكو منسوبوها من غيبة الديمقراطية.. فكيف يتأتى لنا أن نراهن عليها أو على غريمها الحزب الحاكم، ونرهن لهما مستقبل الوطن فى هذه الأيام الحرجة؟ إن حكومة إنقاذ الوطن إنقاذاً حقيقياً التى نطالب بها، ينبغى عليها أن تتجرد من كافة الانتماءات الحزبية إلا الانتماء القومى والوطنى، وأن تحظى بإجماع كافة القوى السياسية الفاعلة دون الشراكة فيها إلا شراكة الدعم والمؤازرة، وأن يتم انتقاء عناصرها وفق معيار الكفاءة والمهنية والخبرة والتجربة لا معيار الانتماء السياسى.. حكومة يمتلك أعضاؤها رصيداً وافراً من المصداقية والعلاقات الدولية التى تفتح أبواباً أُغلقت فى وجه الوطن لسنوات طوال.. حكومة محدودة العدد لا يزاحم أعضاءها ذاك الجيش من المساعدين والمستشارين الذين لا يشيرون، أو وزراء الدولة الذين جاءت بهم الترضيات والقسمة والنصيب.. حكومة تعيد للوطن هيبته وللشعب ثقته. وقد يظن البعض أننا نطلب «لبن الطير» فمثل هذه المواصفات فى نظرهم ما عادت متوفرة تحت سماء الوطن، ولكن أقول لهؤلاء أن الأمر لا يتطلب سوى عيون مبصرة تعرف كيف تبحث عن هؤلاء الرجال الذين هم كالذهب لا يصدأ عطاؤهم ولا تنضب خبراتهم، وأن تعرف كيف تجدهم، بل تعرف قبل هذا كيفية التحرر من نهج الولاءات والترضيات والمجاملات الذى بات يحكم المشهد السياسى فى بلادنا. إن حكومة القاعدة العريضة الحالية هذه قد أصبحت عبئاً ثقيلاً على مؤسسة الرئاسة، فهى ما تنفك تكبلها وتغرقها فى تفاصيل العمل التنفيذى الذى ليس من مهامها، فمؤسسة الرئاسة جهة سيادية ينصرف عملها الى أعمال السيادة والإشراف ومراقبة أداء الجهاز التنفيذى دون أن تقحم نفسها فى تفاصيله، ولكن واقع الحال وبسبب عجز الحكومة وترهلها وقلة حيلتها بسبب انعدام الكفاءة لدى بعض عناصرها فإن الرئاسة تجد نفسها مضطرة لإدخال يدها فى كل صغيرة وكبيرة. إن الأزمة الحالية قد كشفت الخلل البائن فى التركيبة الهشة للحكومة مما يجوز لمؤسسة الرئاسة صرفها إلى منازلها والاجتهاد فى الإتيان بحكومة حقيقية من المهنيين وأصحاب الكفاءة والرصيد الوطنى الذين نأمل الاستعانة بهم في أوقات المخاطر والخطوب، لأنهم الاقدر على تجاوزها، وهو أمر لن يتحقق إلا في ظل حكومة تكون نتاج رضاء وتوافق - وليس مشاركة من المواطنين حتى وان لم تكن تضم في عضويتها ممثلين للقوى السياسية الحاكمة والمعارضة، لتجابه بمسؤولية وطنية وقومية لاخراج البلاد من الازمة الراهنة وما هو متوقع من أزمات باتت تلوح في الأفق على نحو ليس بعيداً. وأخيراً نأمل أن يستجيب القائمون على الأمر الى ما ندعو اليه، وأن يبدأ العمل الآن وليس الغد في تكوين تلك الحكومة التي ندعو اليها، لأننا نرى في ذلك خلاصاً للوطن مما يعانيه من مشكلات وأزمات أخذت تشدد الخناق على الوطن والمواطنين، فإن أمر تنفيذ ما نقوله بيد رئيس الجمهورية الذي تقع على كاهله كافة المسؤوليات الوطنية. ونأمل ان يتدبر الأمر ملياً حتى لا تقع البلاد في مستنقع لا مخرج منه في ظل هذه الحكومة التي تكاثرت اخطاؤها بسبب تضارب الاختصاصات بين مسؤوليها، مما جعلها تعيش حالة الربكة وعدم التركيز في كثير من الأمور ذات الحساسية. فكان الذي حدث بكل ابعاده الآنية والمستقبلية. فنأمل أن يكون الحدث عظة للقائمين على الامر، وان يتخذوا بشجاعة ودون تردد ما يستوجب اتخاذه من إجراءات يتطلبها الموقف تقديراً لهذا الشعب الذي تناسى بكل فئاته الظروف التي يعايشها والتف حول الحكومة مندداً بعدوان حكومة الجنوب، وفي المقابل فإن حكومة الجنوب قد سددت بعدوانها على هجليج ضربة قوية لحلفائها، حيث بات الشعب السوداني بكل فئاته يلتف حول الحكومة بحسبان أن العدوان على هجليج هو عدوان على السودان الوطن وليس السودان الحكومة، ولعل المسؤولين في حكومة الجنوب يعون ذلك الدرس جيداً، ويسعون لأن تكون العلاقات بين البلدين قائمة على حسن الجوار وتبادل المصالح، وفي ذلك فائدة للجميع.