في مقالاتنا السابقة أشرنا إلى أن الدعوة للدستور الإسلامي تأتي والبلاد ترزح تحت نيران الحرب الأهلية وتحت وطأة الانهيار الاقتصادي وتحت تهديدات العقوبات الاقتصادية والجنائية.. لذلك كان من الطبيعي أن نتساءل حول جدوى هذه الدعوة، ونتشكك في نواياها وأهدافها المباشرة. وقلنا إن صياغة الدستور، أي دستور، لا يمكن أن تتم على أسنة الرماح، لأن الدستور هو بمثابة اتفاق أو عقد بين جميع أهل البلد، وليس على هوى المجموعات الحاكمة حتى ولو كانت تمثل الأغلبية. فالدساتير لا تخضع لمعايير الاغلبية والاقلية، بل أساسها هو معيار المواطن الفرد الذي لا بد ان يجد نفسه فى هذه القوانين المنظمة، والتي لا بد ان تتماشى مع حقه فى العيش الكريم فى بلاده، وتجعله يستأنس بالرأي الآخر، ويطرح افكاره، وهو واثق ان الرد عليها لن يكون بالحجر أو بالرصاص. والسودان الآن يئن ويتمزق بسبب حروب أهلية آخذة في الاتساع نتيجة للخلل البين في معادلة اقتسام السلطة والثروة، فأين هي الحكمة في الحديث عن دستور دائم، إسلامي أو مدني أو علماني، مادام ذلك الخلل مستمراً، ومادام القتال المستعر يمنع أجزاء كبيرة من البلاد من أن تشارك في صنعه؟ الأولوية هي لوقف الحرب!! أصحاب جبهة الدستور الإسلامي يعولون كثيراً على انفصال الجنوب، فكأنما بانفصاله انبتر الجزء المختلف وصرنا الى تماثل او تشابه سيامى. ولكن فصل مكون عن الآخر في الوجدانيات لا يتم هكذا كما فى معمل الكيمياء. فالمكونات التى تساهم فى تشكيل الوجدان يصعب تحديد نسبها وأوزانها، كما تصعب امكانية فصلها عن بعضها البعض، لأنها تتماوج بشكل جنونى، مداً وجزرً صعوداً وهبوطاً، فما تشكله من قمم صغيرة في هذه اللحظة، تنحسر بسرعة لتشكل قمما اخرى في لحظة تالية. فتارة صعوداً لصالح القبيلة، وتارة اخرى لصالح الدين، وثالثة لصالح الهوية الكبرى «الوطن»، ورابعة لصالح «الأنا الفردية»، وخامسة لصالح «الانا الجمعية».. وبالاضافة لما نلاحظه من تداخل مثير للجدل فى العلاقة بين هذه المكونات، فإن المكون الثقافى يصعب فصله عن الاجتماعى والدينى والاثنى. لذلك، كانت الحكمة تقول: علينا جميعاً أن نغذى ونربى ما يجمع لا ما يفرق، ما يدفعنا لنتفهم بعض ونتفهم اسباب الحدة والتشنج ونعالج ونداوى ونزيل سوء الفهم لا أن نكرس الجهد لتأجيج روح الحرب والعداءات. والمكونات الوجدانية هذه، لا يصعب فصلها عن بعضها البعض بسبب اندماجها فقط، بل أيضا لأنها تخلق شكل علاقات جديدة. فتداخل المكونات الوجدانية تنتج عنه مكونات جديدة من حالة التمازج والتلاقح بين المكونات المختلفة، فمثلاً فى حالة التزاوج بين القبائل المختلفة، تنشأ مع الايام اجيال جديدة تأخذ بسمات مختلفة تظهر فيها تأثيرات المكونات الاولى جنبا إلى جنب مع الطابع الخاص للأجيال الجديدة. وهكذا الحال فى احوال المساكنة والاشتراك فى مصدر الرفد سواء أكان البيئة أو الرزق أو التعليم. وأعتقد أن التزاوج بين المجموعات الإثنية المختلفة، في مناطق التماس، مثلاً، سينتج أجيالاً أكثر قدرة على فهم ضرورة التعايش بين هذه المجموعات، وطبيعة تكوين هذه الأجيال ستجعلها أكثر تمسكاً بالارض وبالهوية الجديدة التي عنوانها تعايش مكوناتها الأولى واللاحقة. وهذه الأجيال ستكون هي الأكثر تضرراً من الحرب والتوتر وحالة العداء، وبالتالي الأكثر قدرة على إنتاج حلول حكيمة. ولعلها من البديهيات المعروفة أن الناس، بطبعهم، مختلفون. وحتى أصحاب الديانة الواحدة، مسلمين أو غير مسلمين، لا يفكرون بنفس الطريقة ولا يرون الأمور من الزاوية نفسها. ولذلك، دائماً من المصلحة أن نغذي طبيعة التنوع فينا ببسط عدالة لا تستثنى أحداً، بدلاً من اضطهاد وقمع الآخر المختلف. وبسبب نزعة التعصب الديني، شهد تاريخ العالم الكثير من الحروب التي هلك فيها البشر وبددت الثروات وزج بالناس في السجون وسنت القوانين المجحفة المروعة للنفوس الآمنة، ولكن أيضاً، وبسبب ذات الحروب، امتلأت جيوب البعض ورفلوا فى النعيم، أما بقية الشعب، فتركوه يصطلي بنار الفقر وشظف العيش. وحتى وقت قريب، كان من الممكن أن يناقش الباحثون والمهتمون ثورية الدين في المبتدأ، وأن يحاكموا بني أمية، ولكن ما بشرت به ونشرته المدارس الدينية، القائمة على تكريس النظرة الاحادية ووضع المعايير الذاتية لتفتيش الضمائر، لا علاقة له بأولئك اللذين اخترعوا الصفر، وترجموا الحكمة الفارسية والهندية، كما في «كليلة ودمنة»، وقدموا لنا عصارة الادب والفكر العربى الإسلامي الذى اعلى من شأن العلم والعقل وحرية الفرد وقيم التعايش السلمى. إن الدولة التى تقوم على مراعاة مصلحة جماعة بعينها وتمييزها دون الجماعات الاخرى، وتطمع فى تسييد أخلاق وثقافة هذه الجماعة على الآخرين، وتسعى لكسب الولاء، حتى ولو عن طريق إخضاع هؤلاء الآخرين واذلالهم، هى دولة كلما اقتربت من تحقيق مطالب جماعتها ابتعدت عن القيم والمبادئ الانسانية التى ينادى بها أى دين. وهذه الدولة، أو السلطة، تصطدم فى كل لحظة بالتناقضات وبضرورة اتخاذ قرار سريع، لكن عادة ما يأتي قرارها منافيا لكل أعراف وتقاليد المجتمع وسائر الناس. انظر مثلاً، كما جاء في الصحف، كيف قرر والي المشروع الحضارى مواصلة اللحاق بموعده المهم ولم يتوقف ركبه لإنقاذ حياة ذلك الإنسان البسيط الذي كان يئن ألما!! وهل استجابة شباب الرحلة العلمية للنداء الانسانى، عندما تقاعس هو، مست منطقة ما في ضميره؟ ويا ترى، أين كان موقع أثر الخليفة الفاروق، عمر بن الخطاب فى ذاكرة ذلك الوالي: «لو عثرت بغلة فى العراق....»! علماً بأن ما قاله الخليفة عمر في تلك الحادثة، لم يكن مجرد حديث لحظي أو لواقعة محددة، بل كان «مانيفستو» لرفع الحساسية تجاه المسؤولية العامة! صحيح أن المشاهدات اليومية الصغيرة هى التى تكشف عن معدن النفس، فتجيز أصالتها أو تؤكد دناءتها! مثال آخر: بسبب الحرب الأهلية، لم يجلس طلاب الشهادة السودانية فى تلودي لامتحان الرياضيات. لكننا، لم نسمع بأى نوع من التضامن، الرسمى أو الشعبى، مع اولئك الطلاب وأسرهم. فنظام الإنقاذ، بسبب قمعه وإقصائه للشعب، وسلبه حريته التى تجعله يختار رد الفعل الطبيعى، دمر كل ما من شأنه توطيد وتمتين العلاقات الاجتماعية، وكل ما يدفع بلقاءات التنسيق وترتيبات التضامن. بل أصبحت ردود افعال الشعب لا تتناسب مع مستوى الاحداث، وأضحت مهمة انتشال النفس من وهدة الاهواء الذاتية الضيقة الى رحاب الذات فى تفاعلها الحر مع الآخر وتجاوبها مع الاحداث، أضحت مهمة فردية، في حين هى، تاريخياً، مهمة يقع عبء تفعيلها وتنشيطها على عاتق الدولة عندما ترعى وتحتضن الممارسة الرشيدة ومحاسبة المسؤولين، إضافة إلى كفالة الحقوق وتوفير الخدمات الضرورية وإطلاق سراح المبادرة الفردية والجماعية. يعتقد التكفيريون والمهووسون دينيا، أن بدعوتهم للدستور الإسلامي ينصبون لنا فخاً أو يضعونا في مصيدة أن نكون مع أو ضد الإسلام! ولكنا نقول لهم: نحن مع دستور يكفل الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية التعبير وحرية الفرد وحرية المثاقفة.. فهل دستوركم مع ذلك أم ضده؟ نحن مع دستور يضمن حقوق المرأة، يدافع عنها ويقف ضد أى قانون يحط من كرامتها أو يقلل من شأنها، ومع مساواتها مع الرجل.. فهل أنتم مع ذلك أم ضده؟ نحن مع دستور ينص على التداول السلمي الديمقراطي للسلطة، وعلى أن يكون الناس سواسية أمام القانون، لا كبير ولا شريف على القانون ولا حصانة لأحد.. فهل دستوركم مع أم ضد ذلك؟ نحن لا نرضى أن يكون السوداني، أي سوداني، دافع جزية في بلاده.. فماذا تقولون؟ نحن مع حرية البحث العلمى وحرية الاجتهاد الفلسفي والديني، ومع تحرير العقل ومقارعة الفكرة بالفكرة وضد التكفير والجمود والانغلاق والتجهيل والعنف فى مواجهة الآراء والافكار، ومع التعامل بذهن مفتوح مع متغيرات ومستجدات العصر ومنجزات الحضارة الإنسانية، من الشرق أو الغرب، فهل أنتم مع أو ضد؟ نحن مع دستور عنوانه ما توافقت عليه التجارب الانسانية ولخصته فى مواثيق وعهود دولية وإقليمية لحقوق الانسان، لا يجب هدرها ولا انتهاكها، ولا يعلو عليها أو يتعارض معها أي قانون أو تشريع، فهل أنتم مع أو ضد؟ نحن مع حرية الفن والابداع، ومع الفنانين المبدعين بصفتهم اكثر انحيازاً للتعبير المنفرد عن الذات وآلام الآخرين وباعتبارهم مرآة للمجتمع ولروح العصر، فما هو موقفكم؟ نحن مع دستور يمنع كنز الذهب والفضة و«70% مما تربح السندات!»، ويمنع سياسة التمكين واحتكار الوظائف والاعلام، ويمنع الخصخصة الجائرة، وضد أن تكون ميزانية الأمن والحرب أضخم من ميزانية الصحة والتعليم، دستور يفرض على الدولة تبني المشروعات التنموية والانتاجية التى تستوعب المواطنين وطاقاتهم وطموحاتهم، فهل دستوركم مع ذلك أم ضده؟ وفي النهاية، نحن نقول إن مصيدة مع أو ضد الإسلام هي محاولة ساذجة، فضلاً عن أنها مكررة ومكشوفة، لإبعاد الأعين عن ممارسات الإسلاميين في السياسة وحكم السودان، والتي تجلت في أمثلة كثيرة، منها: التمكين الشخصي على حساب العام.. الحرب.. كبت الحريات.. الفساد .. الجهوية وارتفاع وتيرة نعرة التعصب إلى درجة غير مسبوقة.. التدهور المريع في التعليم والصحة.. تمزق النسيج الاجتماعي.. التدهور القيمي والأخلاقي والسلوكي..الخ. وأيضاً لإبعاد الأعين عن تطلعات الشعب السوداني بكل فئاته إلى دولة تراعى وتصان فيها الحقوق، حقوق أي مواطن بغض النظر عن قبيلته أو دينه أو ثقافته أو وضعه الاجتماعي..الخ، وباختصار، نحن نردد مع شاعر الشعب: «العندو دين ما ببنى قصرو العالى فوق جوع الغلابى الكادحين، والعندو دين ما بسرق البلد العبادو موحدين».