خارطة طريق إماراتية شاملة لإنهاء أزمة «الفاشر» شمال دارفور    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدارة التنوع والتمايز والتعايش السلمي والوحدة الوطنية .. بقلم: د. سامي عبد الحليم سعيد – المحامي
نشر في سودانيل يوم 13 - 09 - 2011

إدارة التنوع والتمايز والتعايش السلمي والوحدة الوطنية
في سودان ما بعد انفصال الجنوب
د. سامي عبد الحليم سعيد – المحامي
[email protected]
مقدمة:
منذ إعلان إستقلاله في عام 1956 ، ظل السودان في حالة بحث دائم عن سلام و إستقرار دائمين. وفي إطار ذلك البحث، إعتمد صيغ دستورية و قانونية عديدة لينظم من خلالها العلاقات و المصالح المتباينة في داخله. إن إدراك حقيقة التنوع و التمايز في بنية المجتمع السوداني، جعلت مسالة البحث عن آلية لضمان التعايش السلمي، و تجنب النزاعات و عدم الإستقرار السياسي و الأمني، واحدة من أهداف الدولة و أولوياتها، مثلما كانت و مازالت واحدة من محاور الجدل الفكري بين المجموعات الفكرية و السياسية في السودان.
المعنى المقصود هنا بالتنوع، يشمل أوسع معانيه، الدينية و الطائفية و المذهبية/ السياسية والإيدولوجية / الإقتصادية / الإجتماعية و العرقية و الإثنية و الجندرية، و غير ذلك من صور التنوع التي يحفل بها السودان. فالسودان بلد عربي أفريقي، يتكون من مجموعات قبلية و حضرية، يعتنق غالبية أهله الإسلام بجانب المسيحية و المعتقدات الأفريقية ، و يحترف أهله مناشط إقتصادية عديدة، منها الرعي و الزراعة و التجارة و الصيد و الصناعات التقليدية و تقديم الخدمات و العمل في سلك الخدمة المدنية. إن كل صورة من صور ذلك التنوع تحتوي في طياتها على تنوعات فرعية فالتنوع الديني، على سبيل المثال، يحتوي على الديانة، و كل ديانة تحتوي على عدد من المذاهب و كل مذهب يحتوي على إتجاهات و هكذا الحال في صور التنوع الأخرى.
تستهدف هذه الدراسة إستيعاب ذلك التنوع و التمايز في حركة التطور الدستوري المرتقبة، لا سيما التمايز الذي من شأنه أن يؤثر على سلام و إستقرار البلاد. و لما كان التنوع الدين و القبلي و الإثني، هما عاملان حاسمان في عملية بناء السلام و الإستقرار في السودان، فإن هذه الدراسة ستعمل على البحث في مبادئ دستورية ملائمة لحالة السودان وفق ظروفه السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية، والتي من شانها أن تسهم في التأسيس لسلام دائم قائم على التعايش السلمي.
إن المحاولات الدستورية التي عمدت إلى إدارة ذلك التنوع، إمتدت منذ دستور الحكم الذاتي 1953 و إنتهاءاً بدستور السودان الإنتقالي لسنة 2005، نظمت أنماطاً عديدة و مختلفة من نظم الحكم، و عبرت عن إتجاهات فكرية متباينة، إلا أنها، و إستناداً للواقع السياسي و الإجتماعي الراهن، فشلت جميعها في تحقيق الهدف المركزي الذي ظل على الدوام يؤرق الحكومة المركزية و قادة الفكر و الرأي في البلاد، ألا و هو تحقيق السلام و الإستقرار و التنمية.
إن الفشل في تبني دستور يدير و ينظم ذلك التنوع، أدى بالضرورة إلى فشل التعايش السلمي بين تلك المجموعات المتمايزة فأنتج العديد من التحديات التي أصبحت من أبرز سمات الواقع السياسي و الإجتماعي و الأمني في السودان، التي من بينها:
1. تفشي العصبية القبلية في المجتمع، حتى أصبحت سلوكاً مؤسسياً للحكومة و الأحزاب السياسية و مؤسسات المجتمع المدني.
2. أشتداد الصراع السياسي على أساس قبلي – مناطقي – ديني- سياسي، بالدرجة التي شملت معظم أرجاء السودان.
3. تراجع الشعور الوطني في مقابل سيادة المعتقدات القبلية، حتى أصبحت الحكومة و الأحزاب السياسية تتعاطى مع أخطر قضايا الدولة على أساس قبلي أو إثني أو إقليمي.
4. تدهور أوضاع حقوق الأنسان و غياب كامل لمبدأ الأعتراف بحقوق الأقليات و المجموعات ذات التمايز الثقافي أو الديني، و غياب حرية التعبير عن الذات بالنسبة للأحزاب السياسية و المجموعات السكانية المتميزة ثقافياً.
5. إستخدام الدين كعامل حاسم في العملية السياسية، بما في ذلك تكوين الدولة.
6. إنهيار مفهوم الدولة الواحدة، مع إنهيار مبدأ إحترام التنوع الثقافي و الديني في المجتمع. و تصاعد حالة المطالبات الإقليمية و القبلية بحكم ذاتي أو حكم مستقل، أو بتمثيل في الحكم المركزي ، أو غير ذلك.
هدفنا من تحديد تلك التحديات، هو تحديد إتجاهات مناقشة، التدابير الدستورية المقترحة لإدارة التنوع في السودان. عليه و بالرغم من أن مفهوم التعايش هو أوسع مما تتناوله هذه الدراسه، إلا أنه و في سياق مؤشرات تحديات الحالة السودانية، نتناول مفهوم التعايش، كما أسلفنا من زاويتيه الإجتماعية و الدينية، مع مناقشة معالجة مفهوم حقوق الإنسان و الحريات التي تكفل لذلك التنوع أن يعبر عن ذاته بحرية. و ذلك كما سنتناوله لاحقاً.
أولاً: مفهوم التعايش في ظل التنوع و التمايز
إن إحترام التعددية في مجتمع من المجتمعات، تعني مشروعية التعدد، وحق جميع القوى والآراء المختلفة في التعايش، وفي التعبير عن نفسها، وفي المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعها.
هذا الموضوع ظل محور تساؤل كبير، و بشكل كثيف بعد التوقيع على إتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان و الحركة الشعبية لتحرير شعب السودان ، فإكتسب الأمر الكثير من الوضوح و الجلاء على المستوى النظري، و لعل العديد من المبادئ المتفق عليها أصبحت تكتسب حضوراً متميزاً في منتديات التبادل الفكري في السودان، برغم الإنكار العملي للمؤسسات الحكومية لمثل تلك المبادئ إلا أن تحديات التعايش السلمي في السودان تستوجب إعتماد مبادئ دستورية تضمن إدارة التنوع على نحو سلمي، من بين تلك المبادئ، دونما حصر:
1. الاعتراف بالتنوع (بمختلف مستوياته) حتى بعد انفصال الجنوب، وإعادة النظر في إدارته على أسس سليمة، ذلك أن الحديث عن التنوع والتعدد بعد الانفصال أصبح يسير في دائرة ضيقة الأمر الذي سيؤدي إلى تعقيد الأمور في مقبل الأيام ومن ثم تكون القضايا الخلافية محلاً للتوظيف الداخلي والخارجي والاستقطاب والاستقطاب المضاد.
2. حسم مسألة الهوية الوطنية المستوعبة للتنوع أعلاه، مع الاعتراف بالتمايز الثقافي و الحضاري للمجموعات السكانية ذات الخصوصية المعينة، مع بناء أساس دستوري جامع يعزز النقاط المشتركة التي يمكن توظيفها بالتراضي بما يخدم الهوية الوطنية.
3. إحترام المكونات الأهلية الشعبية، من عشائر و قبائل ، من خلال تعزيز القيم العشائرية الإجتماعية الإيجابية، من خلال إحترام العشيرة و روابطها ، و نبذ العشائرية في معانيها العنصرية و المنغلقة.
4. إعادة النظر في الأوضاع الثقافية باعتبارها شاملة ومتداخلة في كل الأزمات التي تواجه السودان، و تلبية الإحتياجات الثقافية (من لغات محلية، عادات و تقاليد، و فلكلور) لكل المكونات الإجتماعية بتغذيتها و تمويلها و توفير مدخلات إنتاجها و تطورها.
5. تأكيد إحترام المواطنين في الدولة بغض الطرف عن الخلفيات القبلية – الدينية – الثقافية – أو السياسية التي ينتسبون إليها و إبراز ذلك الإحترام من خلال التشريعات و السلوك الرسمي للسلطة التنفيذية، و إيجاد آلية تحاسب كل من ينتهك ذلك السياق. و في هذا الخصوص يجب على المؤسسات الرسمية أن تظهر إحتراماً و تفهماً للتنوع في السودان من خلال إطلاق حرية التعبير لكافة الأفراد و المجموعات و تصريف ذلك التفهم في النشاط اليومي للدولة و الأفراد.
6. كفالة حرية النشاط السياسي الديمقراطي، بحيث تجد كل مجموعة سياسية أرضية من الحريات التي تستطيع أن تطرح رؤاها السياسية و الفكرية بصورة سلمية دون الحاجة للإصطدام مع القوانين القائمة.
7. تعزيز دور المرأة في المجتمع و دعم مساهماتها السياسية و الإجتماعية.
8. نشر ثقافة السلام و التعايش السلمي.
إن تلك المبادئ، ليست حديثة من زاوية تحديدها أو المطالبة بها، إلا إنها لم تجد حظها المطلوب في الإستيعاب داخل المنظومة التشريعية بهدف تأطير المجتمع و مؤسساته تجاه تحقيق أهدافه. إن أهم خطوة تم إنجازها على هذا الصعيد، كانت بدون شك هي إعتماد الفيدرالية في إطار توزيع الثروة و السلطة، و برغم مساندتي الشديدة لفكرة الحكم اللامركزي كآلية لإستيعاب التنوع في السودان، إلا أن التطبيقات التي إعتمدها دستور 1998 و دستور 2005، جاءت من الناحية الإدارية تعزيزاً للانقسام الإجتماعي و دعماً للقبلية و العشائرية و ليست إستهدافاً لبناء تعايش سلمي من خلال تعزيز الوحدة الوطنية. ومن الناحية العملية الواقعية كانت الدولة عبارة عن دولة مركزية أكثر من إنها فيدرالية معبرة عن خصوصيات المناطق. و على المستوى التشريعي ، نجد لاحقاً، أن تدابير المفوضية القومية للإنتخابات، جاءت بتقسيم جغرافي للدوائر الجغرافية معبراً عن معيار قبلي صارخ في تقسيم الدوائر الإنتخابية.
مثل تلك المحاولات، ظلت على الدوام عائقاً واضحاً أمام تطوير مبدأ التعايش السلمي في السودان، و تعزيز حضوره التلقائي في المجتمع. في المقابل صعدت في الفترة الأخيرة، في دستور 2005 الإنتقالي، مبادئ إيجابية تسهم في مشاركة المرأة في عملية صناعة القرارات و السياسات العامة في الدولة من خلال إعتماد مبدأ التمييز الإيجابي لصالح المرأة.
ثانياً: إدارة التنوع الديني
هناك مرحلتان في تاريخ تضمين المؤشرات الدينية في الدستور السوداني :
1. المرحلة التي خلت من تلك المؤشرات: إن فكرة تحديد الدين الرسمي السودانية، أو جعل الدين مصدر أساسياً للتشريع، لم ترد في دستور الحكم الذاتي لسنة 1953 أو دستور السودان المؤقت 1956، و لا في دستور السودان المؤقت لسنة 1964 ( الذي تمت صياغته على هدى دستور سنة 1953 مع تعديلات غير أساسية) كما لم تأتي أي أشارة، في تلك الدساتير إلى أن أن غالبية سكانه مسلمون ولا الى مصدر للتشريع. وظل الحال على ذلك حتى إجازة دستور السودان الدائم لسنة 1973.
من الواضح أن غياب مثل ذلك النص أو النصوص عن الدستور، في الفترة الأولي، لم يؤثر في طبيعة إلإعتقاد الديني للمسلمين أو غيرهم، ولم يولد أية حالة من التنافر أو التنازع القائم على أساس الدين بين مكونات المجتمع.
2. المرحلة التي ظهرت فيها النصوص القانونية المحددة لدين الدولة: إن هذه المرحلة لم تدخل إلى الحيز التشريعي من العدم، بل سبقتها جهود تشريعية و محاولات حزبية، وصلت مراحل متقدمة في النقاش، لا سيما في لجان الدستور الدائم في البرلمان المنتخب بعد ثورة إكتوبر 1964. و كان دستور السودان الدائم لسنة 1973 و كل الدساتير التي تلته (دستور 1985 الإنتقالي و دستور 1998 و دستور 2005) ، جاءت متضمنة بالنص على موضوع الدين الإسلامي كدين رسمي للدولة، و أن الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع.
إلا إن حالة غياب النصوص الدستورية المحددة للدين الرسمي للدولة، و مصدر التشريع، و تحديد ديانة أغلب المواطنين، لم ترضي بعض النواب في الهيئة التشريعية و السياسيين و المفكريين اليمينيين في السودان، فقد شهدت تلك الفترة منذ إستقلال السودان و حتى مطلع السبعينات محاولات و مقترحات لتضمين نصوص دستورية تحدد الدين الإسلامي كدين رسمي للدولة السودانية، و تحدد الشريعة الإسلامية كمصدر (أساسي أو أحد مصادر) التشريع في الدولة . فيما يلي نشير إلى بعض تلك المقترحات و المحاولات الموثقة، بالإضافة للإعتراضات التي تصدت للفكرة:
1. تقدم الأستاذ المحامي ميرغني النصري، للجنة الدستور في أول جمعية تأسيسية بعد الإستقلال، بمقترح أن يكون دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة هي مصدر من المصادر الأساسية للتشريع ، وعارضه في ذلك عدد من الشماليين وكل الأعضاء الجنوبيين وعلى رأسهم الأب ساترنينو والسيد تسلادس بايزاما. وبالرغم من معارضة عدد كبير من أعضاء اللجنة إلا أنه عند عرضه للتصويت، أَيد الإقتراح 17 عضواً ولم يعترض عليه أحد ونصه: "الإسلام هو دين الدولة" و "الشريعة الإسلامية هي أصل أساسي من أصول التشريع في جمهورية السودان". تلك المحاولة لم تلقى حظها في الإجازة، فقد أطاح إنقلاب 17 نوفمبر 1958(إنقلاب عبود) بجهود الجمعية التأسيسية الأولى في إجازة دستور دائم للسودان. وقد أسهمت محاولة تضمين نصوص في الدستور تحدد الدين الإسلامي كدين رسمي للدولة، و الشريعة كمصدر أساسي للتشريع، في أن تبدأ مظاهر الخلاف القائم على الدين، فقد غاب كل النواب الجنوبيون عن أغلب الجلسات بما فيها تلك التي جرى فيها التصويت، في تعبير سياسي صارخ عن عدم القبول.
2. بعد نجاح الثورة في إكتوبر 1964، إنشغلت الجمعية التأسيسية المنتخبة بموجب دستور 1964 المؤقت، بإجازة دستور دائم للبلاد، و من ضمن ما إنشغلت به لجان الدستور هو موضوع علمانية الدولة أو دين الدولة، و قد قاطع النواب الجنوبيين جلسات تلك اللجان إعتراضاً على الزج بالدين في شئون الدولة، و مخاطر تلك النقاشات على مستقبل وحدة السودان، فقد أبدى عضو اللجنة الفنية السيد ناتالي الواك تخوفه من أن تؤدي إسلامية الدستور الى إعاقة التقدم الإقتصادي، ليس ذلك فحسب بل إنها قد تهدد الوحدة الوطنية. في نهاية المطاف جاءت مسودة الدستور الدائم لسنة 1968 في المادة الثانية منه على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية"، وجاءت المادة 113 بالنص على أن :"الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة". إلا أن مشروع دستور 1968 ، الدائم لم يرى النور بفضل إنقلاب 25 مايو 1969 (إنقلاب جعفر محمد نميري).
3. في الفترة التالية لإجازة دستور السودان الدائم لسنة 1973، شهدت إمعاناً مركزاً في عدم إعتبار التنوع الديني في البلاد، فقادت البلاد إلى مرحلة من تصعيد و الإستقطاب الحاد القائم على أساس ديني، فأفضى ذلك عن أطول و أشرس حرب إهلية يشهدها السودان، في جنوب السودان، قائمة أساساً على عدم الإعتراف بحالة التنوع الديني و الثقافي.
إذا كانت الحالات إعلاه تمثل حالات الإعتراض السياسي و الفكري (السلمي) من قبل المجموعات غير المسلمة داخل البرلمانات المنتخبة في السودان، فحالات الإعتراض المسلح (غير السلمي) الرافضة لإقحام الدين في الدستور، شكلت صورة من أوضح صور غياب التعايش السلمي القائم على الإمعان في عدم الإعتراف بواقع التمايز الديني في السودان، و شهد السودان، في الأوقات التي كان فيها أصحاب فكر الإسلام السياسي على سدة الحكم (منذ مطلع الثمانينات من القرن السابق و حتى وقتنا الراهن)، أقسى صور التمزق و تصاعد حالات النزاع المسلح.
المخرج الدستوري لمعالجة التنوع الديني في السودان ، كانت على الدوام، في تبني دستور قومي يعبر عن كافة السودانين، دون أدنى تمييز أو إنحياز قائم على أساس الدين، من خلال نصوص دستورية تستوعب التنوع الديني و تضمن التعايش السلمي بين مكوناته. و لعل تجربة دساتير السودان في المرحلة من دستور الحكم الذاتي 1953 و دستور السودان 1956 و دستور السودان المؤقت 1964، تعد تجربة رائدة يستوجب إستلهامها حين يأتي الحديث عن دين الدولة و مصدر التشريعات.
ثالثاً: تنظيم حقوق الإنسان في إطار التنوع
لا شك أن حقوق الإنسان، هي عامل حاسم في مسألة إستدامة السلم و التعايش المشترك، و يكتسب الأمر خصوصية و أهمية ضافية في سياق مناقشة الحالة السودانية. فمن المهم الإنتباه لمسألة إدارة التنوع و التمايز في السودان بصورة سلمية، ومحفزة تجاه تأطير كل المجموعات السكانية في سياق وطني واحد معبر عنهم دونما أدنى تمييز، سواء كان على أساس ديني أو إجتماعي.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن خصوصية الأوضاع ، في المناطق المتأثرة بالنزاع المسلح، بما فيها دارفور و المناطق الثلاثة في أبيي و جنوب كردوفان و جنوب النيل الأزرق، تتطلب تحقيق حلول تشريعية إستثنائية و متميزة تستوعب إحتياجات المرحلة التاريخية التي يمر بها السودان. حيث أن النزاع المسلح في تلك المناطق قد أنشأ ظروفاً إستثنائية، لا سيما على صعيد الحقوق و الحريات، و التي قد لا تنطبق في إجمالها على كافة أنحاء السودان، ولكن الإقرار بتلك الحقوق و الحريات للخاضعين للظروف الأستثنائية في سياق النزاع المسلح، يضفي على مسالة حماية الحقوق و الحريات صفة الشمولية، باستيعاب التباينات و التمايزات بين فئات المجتمع، وفقاً للظروف التي تعيشها كل مجموعة، الأمر الذي يخلق أرضية مواتية لبناء الثقة و يدفع بإتجاه بناء السلام الإجتماعي في عموم القطر.
نسعى هنا الى التنبيه الى ضرورة إيجاد صيغة دستورية تعالج مسألة الحقوق و الحريات لتستوعب (خصوصية) المرحلة التاريخية التي يمر بها السودان، و في ذلك قد تكتسب بعض الحقوق أولوية قصوى دون غيرها من حقوق، و ذلك إستيعاباً لمقتضيات الفترة الإنتقالية التي تمر بها الدولة وهي تحاول الخروج من ويلات النزاعات المسلحة و الحروب الأهلية إلى فضاء التعايش السلمي و الديمقراطي، و بالتالي تعمل على إيجاد حلول ناجعة تخاطب بشكل مباشر العوامل التي تهدد السلم الإجتماعي و السياسي و تقعد مشاريع التنمية.
و في هذا الصعيد، و نحن نحاول ان لا نغفل المعايير الدولية المطلوبة في تطبيقات حقوق الإنسان، لا يمكننا بالضرورة أغفال خصوصية مجتمعاتنا التي مازالت تحاول الخروج من بيئة الحرب، و بناء المجتمع السلمي، فمن غير المتصور إنكار وجود تمايزات ثقافية بين شعبنا و بعض شعوب العالم، الأمر الذي يجعلها – و نحن نحاول إدماج تلك المعايير الدولية - تتمتع بخصوصيات ثقافية لا سبيل لتجاوزها، خصوصيات تجد تجلياتها في اللغة والأدب والدين والتراث الفكري ومختلف صور المعارف والقيم والمعتقدات التي تميز شعوب العالم عن بعضها وتطبعها بطابع ثقافي وحضاري خاص. هذا التمايز وتلك الخصوصيات الثقافية والحضارية قد تؤكد في النهاية وتدعم منظومة مبادئ حقوق الإنسان العالمية، و لا ضير إن جاءت تدابير حقوق الإنسان الداخلية - في بعض تجلياتها -متعارضة مع تلك المبادئ الدولية ومتناقضة معها لطالما كانت تستهدف إستدامة السلم و التعايش السلمي في المجتمعات الإنتقالية.
جاء دستور السودان الإنتقالي بالعديد من مبادئ حقوق الإنسان، و بالمقارنة، يصنف الدستوريون، دستور 2005 على أنه الأكثر مراعاةً لحقوق الإنسان وفقاً للمعايير الدولية، إلا إنه و بالرغم من ذلك فشل ذلك الدستور في إدارة علاقات التنوع في السودان (فيما بين المجموعات السكانية، و ما بين بعض المجموعات و الدولة). كما لم بقدر الدستور أولويات المرحلة الإنتقالية و مبادئ قيادة المجتمع على أسس جديدة.
فيما يلي بعض اهم الحقوق و الحريات، التي تستوعب إحتياجات إدارة التنوع الإجتماعي و السياسي و الديني في السودان، و التي يتطلب وجودها بشكل خاص في الدستور المرتقب بعد إنفصال جنوب السودان:
1. الحق في العدالة:
إن حالة العدوان المركب (العدوان و العدوان المضاد) الذي خلفه النزاع بين القبائل و المجموعات السكانية والحكومة المركزية و الجماعات المسلحة، أنشأت العديد من الإحتقانات، التي كان مبعثها، في الأساس، غياب العدالة. إن إنشاء عدالة مستقلة و نزيهة تصون و ترد الإعتبارلضحايا النزاعات المسلحة، يجب أن يعتبر في سياق أي جهد يسعى للحل السلمي الديمقراطي للنزاعات المسلحة. إن العدالة و على الرغم من إتساع مضمونها، إلا إنها يجب أن تستهدف إيجاد الأمن و السلم و التعايش بين فئات المجتمع في الإقليم المعني، و تشمل العدالة في هذا السياق كل ما أرساه التطور الأنساني، و ما ينسجم ما طبيعة النزاع في السودان، في سبيل فض النزاعات بين المتحاربين، و بناء الثقة الأجتماعية، و إعادة الإعتبار، و تحقيق كرامة الشعوب وأمنها و سلمها وإستقلالها. و تعد العدالة والمصالحة هما عنصران أساسيان ومترابطان لتحقيق السلام الدائم في كل أرجاء السودان، وضروريان لتعزيز سيادة القانون. و من جانب آخر، اعتماد آليات العدالة الانتقالية من أجل الانتصاف، ومن أجل المساءلة القانونية لمرتكبي أعمال العنف المتصلة بالنزاعات المسلحة في السودان سيهدئ من الرغبة ف الثار و الإنتقام الشخصي، و يضفي على الإجراءات طابعها الرسمي و يعيد بالتالي الإعتبار للمجموعات التي يثبت أنها خضعت لمعاملة ظالمة.
2. حق الأطفال و النساء و الشيوخ في الحماية:
بوصفهم أضعف الفئات البشرية في المجتمع، وبوصفهم أكثر الفئات المتضررة من غياب معايير حقوق الإنسان و غياب ديمومة السلم الإجتماعي، و بوصفهم عناصر غير منخرطة في الأعمال العدائية، يحتاجون في ظل النزاع المسلح الى حماية خاصة، تختلف عن تلك التي تنص عليها الدساتير في سياق الحياة الطبيعية السلمية، إذ أن تلك الفئة هي الأكثر إستهدافاً في سياق النزاع المسلح، و هي الأقل مقدرة في الدفاع عن نفسها. إن وضع المرأة في السياق المسلح، أمر في غاية الحساسية و التعقيد، إذ إن كل النزاعات المسلحة كانت تستعرض بشاعتها و لا إنسانيتها من خلال إستهداف لتلك الفئات الضعيفة في المجتمع، لا سيما المرأة، بوصفها موطن الكرامة والعزة و الإباء و الشرف لكل فئات المجتمع، لذا فاللذين يستهدفون تلك المجموعة من المجتمع إنما يستهدفون ضرب قيم المجتمع، فتلك القيم على الرغم من إقترانها بالمرأة، أو بالطفل إلا إنها حقوق جماعية للشعب، يجب حمايتها و رعايتها على نحو ينهي كل الأنتهاكات الجسيمة الراهنة و يؤسس لبناء سلام إجتماعي دائم.
3. حقوق المعاقين و المسنين و ذوي الإحتياجات الخاصة:
الذين بسبب ظروفهم تلك ،يخضعون لظروف أكثر قسوة في سياق النزاع المسلح، لعدم تمكنهم من التعاطي مع الظروف السلبية المصاحبة للنزاع بالقدر الذي قد يعقد من ظروفهم تلك و كذلك يقلل من فرص حمايتهم و سلامتهم. و في زمن ما بعد الحرب فإنهم يواجهون ظروف الفقر و التمييز الإجتماعي و العطالة، فيكونوا بصورة من الصورة جانباً هشاً في المجتمع قد يسهم في إنهيار التعايش السلمي، بتبنيهم وسائل غير سلمية ضد المجتمع و مؤسساته بغرض خلق فرص عيش مناسبة لهم. إن حماية هذه الفئة بمراعاة ظروفها من قبل المتحاربين في زمن الحرب، و بواسطة قواعد تشريعية ملزمة و صارمة أمر لآزم في إطار بناء الثقة في النظام السياسي و دوافعه. و قد صادق السودان على الإتفاقية الخاصة بحقوق الأشخاص العاجزين في تاريخ 24 من شهر أبريل 2009.
4. حقوق النازحين واللآجئين و المشردين:
هم الفئة الأكثر وضوحاً في مشهد ضحايا النزاعات المسلحة، فحالتي اللجؤ و النزوح، هما الأثر المباشر لإفتقار المواطنين للأمن و السلام، و الأعداد الكبيرة للآجئين و النازحين، تجعل للمسألة إلحاحاً خاصاً و يؤشر حجم الإنتهاكات التي يتعرض لها المواطنين فقط بسبب وجودهم في الأقليم الذي يشهد التنازع المسلح. إن الأشخاص النازحين الذين تركوا منازلهم وأراضيهم قد يفتقرون إلى وسائل كسب العيش ، وربما كانوا معزولين أو يعيشون في مناطق غير آمنة، وقد يصبحون ضحايا العنف بتجنيدهم قسراً في القوات المقاتلة، أو بالتعرض للاغتصاب وحتى القتل، وقد ينفصل الأفراد عن عائلاتهم، فيما يمكن أن يجد أولئك الذين هربوا بدون أوراق تثبت أوضاعهم المدنية صعوبة في الحصول على الخدمات الاجتماعية أو في التحرك بحرية داخل البلاد. لهذا ينبغي وضع قواعد قانونية لتأمين بعض الأمور منها مثلاً الحفاظ على وحدة الأسرة أو إمكانية حصول النازحين على الوثائق اللازمة للتمتع بحقوقهم . إن العناية بهذا الفئة يجب أن تتخذ أشكالاً واضحة على الصعيد التشريعي و الإداري و السياسي. و قد عالجت المبادي الموجهة للنزوح الداخلي التي تبنتها الأمم المتحدة، الحقوق الخاصة بفئة النازحين بالمزيد من التفصيل.
5. حقوق المتضررين:
إن العديد من المواطنين الذين ينتسبون الى قبائل أو عوائل أو مجموعات سكانية بعينها أو إقليم بعينه، أصابهم ضرر فقط بسبب أنتماءاتهم تلك، ففقدوا أمنهم وإستقرارهم وتعرضوا الى تمييز لا مبرر له قانوناً، و فقدوا وظائفهم أو مقاعدهم الدراسية أو ممتلكاتهم، أوشردوا داخل السودان أو خارجه، أو تعرضوا الى أي شكل من أشكال المعاملة التمييزية بسبب إنتماءاتهم تلك، برغم عدم ضلوعهم المباشر في أي عمليات عدوانية ضد أي من المجموعات. إن إيجاد آليه تشريعية و مؤسسية لدرء تلك الأضرار و تأهيل الضحايا بحيث ينخرطوا في المجتمع، هو حق لابد من تأسيسه للمتضررين من الحرب أو النزاع المسلح و العمل على عدم حدوثه بواسطة المنخرطين في الأعمال العدائية بما فيها المؤسسات الحكومية. و مثل هذا الحق – لعدالته - ظل حاضراً دائما في المفاضات الحكومية مع الفصائل الدارفورية المسلحة المناهضة للحكومة المركزية.
7. حماية البيئة الطبيعية:
أصبحت مسألة حماية البيئة الطبيعية مسألة مثيرة للقلق على المستويين المحلي و الدولي ، فالأضرار الخطيرة التي أصابت البيئة الطبيعية في عدد كبير من النزاعات المسلحة في السودان ساهمت في زيادة حالة الاستضعاف لدى الذين عانوا أصلاً من القتال. إن البيئة ذات قيمة كبيرة بحد ذاتها، ، و هي ضمانة لكسب الرزق كذلك، وتلعب دوراً حاسماً في ضمان حياة وبقاء الأجيال الحاضرة والقادمة.
غير أن حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة، أو في وقت السلم، ظل أمراً غائباً تماماً في الدستورالسوداني، على الرغم من أنها قد وردت في إطار التنظيم القانوني العادي. و يجب في هذا الصدد يجب أن يتم تصحيح الوضع، وتقييد يد السلطات الرسمية و الجماعات المتنازعة من العبث بالبيئة، إنسجاماً مع القانون الدولي الذي يحتوي على بعض الأحكام ذات الصلة مثل واجب عدم مهاجمة البيئة الطبيعية ما لم يكن هناك هدف عسكري، أو حظر الهجمات التي من شأنها التسبب بأضرار عرضية غير متناسبة مع البيئة. أن حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة يتطلب صياغة تفاصيل أوفى، تستوعب الهدف من حماية البيئة، و تحدد أشكال وصور الأنتهاكات الماسة بسلامة البيئة، بما ينسجم مع التعهدات الدولية ذات الصلة، حيث أن البيئة و مشاكلها أصبحت أمراً إنسانياً تتشارك فيه الانسانية جمعاء.
إن حرصنا على تضمين هذا الحق في دستور السودان، لمرحلة ما بعد الإنفصال، هو أن البيئة كانت على الدوام أحد الظروف المؤسسة للصراع المسلح بين المجموعات السكانية، لا سيما في مجتمعات الصحراء وشبه الصحراء و السافنا ، بسبب المراعي و الوديان. و يكتسب المر أهمية بعد إنتشار حقول البترول في تلك الإقاليم، فتجد بعض المجموعات السكانية، برغم عدم إستفادتها من مستخرجات البترول، تتعرض لضرر مباشر من خلال تدمير البيئة التي يعيشون في ظلها، فيكون سبباً لبدء أعمال غير سلمية تستهدف حماية بيئتهم من التخريب.
8. الثقافات و التراث المحلي:
تعد مسالة التراث المحلي و الذاتية المحلية لبعض الجماعات، تعبير عن الشخصية ، والأقرار بذلك، يعني أقرار بالتمايز بين المجموعات السكانية، على الرغم من إشتراكهم في الوطنية و الثقافة الجماعية المشتركة. إن الإنكار تحت أي مبرر لحق أي مجموعة سكانية في التعبير عن خصوصيات تراثها / لهجتها / عاداتها ، تحت أي مبرر كان، يولد دون أدنى شك، الإحساس بعدم التكافؤ، و عدم الإعتراف، و التمييز ، و يقلص من الأحساس بالوطنية الجماعية ، وينمي الأنانية الإقليمية/ الجهوية/ العشائرية، كما يهدد بشكل صارخ السلم الإجتماعي الجماعي في البلاد. إن التمايز في السودان هو عمود الثراء الثقافي، وأن التمازج الحضاري و التاريخي في السودان الذي إستطاع إن يرسم ملامح التسامح الإجتماعي، و القبول بالتمازج و التبادل دونما أدنى تعقيدات، هذا التواصل يجب أن يترسخ بالإقرار بضرورته و أهميته، من خلال الأعتراف بالثقافات و بالتراث المحلي في إطار الوحدة الوطنية الجامعة.
9. الحق في التنمية:
تعد التنمية عامل محوري و فعال في تحقيق السلام و التعايش السلمي و خلق أفضل الفرص للتطور السياسي السلمي، و هذا الحق بالنسبة للسودان يعد حجر الزاوية في بناء سلام دائم. تم إقرار الحق في التنمية في عام 1981 في المادة 22 من الإعلان الأفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب، كحق مقرر للأفراد و الجماعات. إن الفقرة (1) من المادة 22 نصت على أن لكل الشعوب الحق في التنمية الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية ، و ذلك إستناداً لحقهم في الحرية و الكرامة ، و حقهم في المساواة في التمتع بالرفاه الإجتماعي.
10. ديمقراطية و سلمية تداول السلطة:
لا ريب أن الحياة السياسية في السودان، ظلت على مدى تاريخها تشوبها العديد من الحالات الغير سلمية، و ربما أن الحروب التي خاضتها الحكومة المركزية بعد الإستقلال، كانت كلها ضد مجموعات سياسية و إجتماعية سودانية. إن عدم إنتهاج السلطة المركزية لنظام حكم ديمقراطي، يكفل إنتقال السلطة بصورة سلمية وديمقراطية، و كذلك مصادرة حق التعبير و التنظيم ، الأمر الذي لم يترك باباً للتداول السلمي الديمقراطي للسلطة و إلا إغلقه، مما دفع اصحاب الرأي المخالف لإتباع الوسائل الغير السلمية تعبيراً عن رؤاهم السياسية و أفكارهم. إن إنكار حق المجموعات السياسية في العمل السياسي بشكل ديمقراطي ، و إتباع نظم و قوانين و آليات تكفل ديمومة بقاء الحاكم في السلطة لأطول فترة زمانية، كلها ظلت تؤسس لواقع عدم الإستقرار و لتلاشي الثقة في السلطة و قوانينها بوصفهما لا تعبران عن الكافة.
الخاتمة:
1. إن مسالة التعايش السلمي بين كافة مكونات النسيج الاجتماعي و السياسي في السودان، ظلت مسالة تؤرق الباحثين الدستوريين و السياسين و مؤسسات الدولة، منذ فجر الإستقلال و إلى وقتنا الراهن، و كانت دائمة الحلول الدستورية المتبناه من قبل الممسكين بمقاليد الحكم، تعبر عن رؤية أحادية غير مستوعبة للتنوع في السودان، و لا تعبر ايضاً عن المتطلبات المستقبلية لبناء تعايش سلمي في السودان.
2. إن أحد أهم الأسس التي يقوم عليها عدم عدم الأستقرار (السياسي، الإجتماعي، الإقتصادي ، الأمني.. ) هو عدم الإقرار بواقع التنوع والتمايز في المجتمع السوداني على المستوى الدستوري. ويأتي الحديث عن التنوع ليشمل كافة أنواع التنوع كما سبق افشارة في هذه الورقة. و قد أفضت سياسة إنكار الآخر إلى أن بدات بعض المجموعات الإجتماعية و السياسية في اللجؤ إلى وسائل غير سلمية أو غير قانونية للتعبير عن إحتياجاتهم ، وأدت تلك السياسة بالنتيجة إلى إنفصال جنوب السودان.
3. إن بنية المجتمع السوداني، ليست فريدة، من زاوية تنوعها، بالمقارنة بمعظم المجتمعات الإنسانية الأخرى، فكل المجتمعات الديمقراطية العتيقة في العالم، قائمة على اساس إعطاء تقدير خاص للتنوع و التمايز في المجتمع، تفادياً لخلق أي هشاشة في بنية السلام و الإستقرار في المجتمع. و الأمثلة في هذا تفوق قدرتنا في الحصر.
4. إن هذه الورقة لا تتبنى صيغة دستورية معينة لدستور مرحلة ما بعد إنفصال جنوب السودان، بقدر ما حاولت تأشير مبادئ دستورية جديرة بالإعتبار حين يكون الأمر متعلقاً بصياغة مبادئ للتعايش السلمي و الإستقرار السياسي و التنمية المستدامة و تحقيق مصالحة داخلية واقتسام منصف للثروة والسلطة علاجا للاثار الفادحة الناجمة عن الحروب و الديكتاتوريات منذ إستقلال السودان. واي دستور يغفل هذا النهج او ينتهك هذه المبادئ و الأسس لايسهم بأي حال من الأحوال في صياغة مشروع التعايش السلمي المنشود، إنما يهيئ السودان لمرحلة جديدة من عدم الإستقرار و إستمرار الاحتراب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.