القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة كانت بالامس ساحة شعبية، او بالاحرى اشبه ببيت المناسبة، لكن لأسرة واسعة الشهرة وممتدة العلاقات والحظوة، فالتدافع الجماهيري من بعد صلاة الجمعة نحوها، ونزول مواطني الخرطوم والاسر بهجةً باستعادة الجيش لهجليج، كسر صمود لافتة القوات المسلحة الشهيرة، «ممنوع الاقتراب والتصوير»، اذ لم يكن التصوير ممنوعا ولا الاقتراب بوزارة الدفاع ورئاسة الاركان المشتركة امس، فالجماهير دخلتها، كما دخل الجيش ارض هجليج، فكلتاهما ملك للسودانيين. رئيس الجمهورية ووزير دفاعه ووالي الخرطوم، والعديد من قيادات الجيش وحزب المؤتمر الوطني كانوا من فوق منصتهم وهم يخاطبون المواطنين الذين قد يفوق عددهم ال3 آلاف، عالمين بان قطاعا مقدر من الشعب هو من يمنحهم لونا ومعنى، ملامحهم وسعادتهم الغامرة وتجاوب المحتشدين بالقيادة العامة قد يكون بالنسبة لهم فرحة توازي استعادة هجليج من قبضة الجيش الجنوبي، وقد تكون هجليج - بحسب ما بدا على وجوههم - منعطفا في سياساتهم تجاه المواطن السوداني ان كان ولابد ان يفعلوا ذلك، فبحسب رؤية الشاب محمد خالد الذي التقيته هناك امس، فقد قال ان الكرة الان في ملعب الحكومة للالتفات الى قضايانا وهموم حياتنا بعد ان علمت من خلال هذا الالتفاف الجماهيري اننا نفرق بين القضايا الوطنية، و ما سواها. مشهد الطفل اليافع وهو يمتطي جوادا بشارع البلدية متجها نحو القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية عصر امس الجمعة بالخرطوم، رافعا باحدى يديه علم السودان وبالاخرى يقود حصانه وعشرات المواطنين في اقصى درجات التفاعل معه، لم يكن مشهده ذاك يعني الا شيئا واحدا ان هجليج عادت بعد غياب عشرة ايام عن سيادة البلاد، اما الطفلة البريئة رنا ذات الخمس سنوات فقد اكدت لي ومعها شقيقاها مازن ومحمد ووالدهم جعفر من امام بوابة القيادة العامة، ان الجيش استرد هجليج، فالازدحام والضجيج وعشرات الاطفال وابواق السيارات والهتافات المدوية والاغاني والرقص واختلاط الفرحة وتقاسمها بين المحتفلين بداخل وخارج القيادة، لم يجعل من رد رنا عليّ، بالعسير وان لم تقل لي شيئا، فهي قد اكتفت بابتسامات وايماءات، الا انها بعد سنوات من الان ربما ستعلم ان اليوم ذاك كان ل«جيش الهنا» كما غنى الفنان الشعبي كمال ترباس، من داخل القيادة العامة امس من فوق منصة المخاطبين للجيش والمحتشدين هناك. ثمة شيء مهم كان هناك في تخوم القيادة العامة وداخلها، غلب على العوامل الاخرى «انه الفرح»، فقد كان طاغيا، فالذي يعيش هنا في السودان بالسنوات الاخيرة يعلم ان الجماهير تخرج للشوارع بعد كل نصر تحرزه القمة السودانية «هلال مريخ»، في المنافسات الافريقية، او بانتصار احدهما على الاخر بعد هزيمته، وهزيمة الجيش الشعبي هناك بهجليج كانت قمة الفرح التي اخرجتهم للشوارع صادحة حناجرهم بالهتافات وتاركين لابواق سياراتهم العنان، ولمشاعرهم كل العنان ايضا. يقول سائق الحافلة، حسن خميس رزق الله احد مواطني حي القوز بالخرطوم ل«الصحافة» امس من داخل القيادة العامة، انه وبعد ان سمع خبر «تحرير هجليج»، تحرك من منزله صوب القيادة العامة، وانه كلما يلتقي بمواطنين بالطريق فرحين تنهمر دموعه التي لم تجف طوال رحلته الى القيادة العامة كما ذكر. رزق الله الرجل الستيني والشيخ السلفي كما بدا من افاداته وردا على سؤال الصحافة، عن ماذا يعني لك استعادة هجليج وكيف تنظر لهذا الحدث، قال ان الشكر اولا لله عز وجل على هذا النصر، والتحية لجنود القوات المسلحة، مضيفا ان على الحكومة الاستفادة من احتلال هجليج وصونها حدود البلاد مستقبلا، واعرب عن اعتقاده انه كان يتوقع في هذه اللحظة بالذات من الرئيس عمر البشير تحكيم شرع الله، ليصف هذه الحرب بانها حرب صليبية ولا بد من الاستعداد لها، وحينما سألته عن احد الهتافات الذي كان يردد البعض «جوه .. جوه جوبا حوه»، وتأثيره السياسي على مجريات الاحداث خاصة وان العالم كان يشاهد ويسمع مباشرة، نبه الى ان العالم محكوم بمنظماته الدولية الاممالمتحدة ومجلس الامن وغيرها من المنظمات، التي قال ان امريكا تسيطر عليها. الشعارات الغاضبة والعدائية والمناوئة والمحقرة لحكومة دولة الجنوب كان لها نصيبها، حيث كانت تتماهى وتنسجم مع المشهد الموحد ضد «العدو الغاشم»، فهتاف «الحشرة تطير يا البشير»، و«كل القوة جوبا .. جوبا»، و«كل السودان نساء ورجال الى جوبا» و«اكسح .. اكسح يا بشير» و«جبان جبان يا باقان»، هي عين رؤية المواطن شمس الدين مبارك مختار - تاجر- الذي يقول ل«الصحافة» امس قبالة القيادة العامة امس، انه لا بد من تطهير الحكم في جوبا من الحركة الشعبية، وانه ان لم يحدث ذلك فان البلاد لن تستقر، اما شعوره لاستعادة هجليج، قال لي انه لن يستطيع توصيفه مهما حاول، مضيفا انه اتى من حي ابوادم بالكلاكلة طوعا وبمحض ارادته، ولخص لي شعوره «بانه يشعر بانه يولد من جديد». اما العميد معاش، درية صالح حسن تقول ل«الصحافة» ان تحرير هجليج من يد الجيش الشعبي، هو يوم عيد لنا، مضيفة ان «دعواتنا لله اعادتها الى حضن الوطن، ومتوقعة ان يتم تحريرها اليوم، في الجمعة المباركة». وقالت ان الحرب اغلقت باب المفاوضات مع الدولة الجنوبية، لما وصفتها بالكذب والمكر عندها، وعدم اقتناعها في العيش بسلام، بعد كل ما قدمه لها السودان، ومضت الى ان من واجب الشعب ان يؤازر القوات المسلحة، وان كامل الحدود مع دولة الجنوب لا بد ان تؤمن، وبالنسبة للمفاوضات رأت بان الحكومة مستقبلا ان لمست لدى الدولة الوليدة استيعابا للدرس وانه الشيء الامثل فيمكن ان تتفاوض معهم. لم تغب عن المشهد هناك في القيادة العامة الفئات المحسوبة على الحزب الحاكم، فالحركة الاسلامية بمحلية الخرطوم، وشابان واقفان كما المجسمات، يحملان لافتة كتبت عليها مقولة سيد قطب الشهيرة: «سأثأر لكن لربٍ ودينٍ، وامضي على سنتي في يقينٍ، فاما الى النصر فوق الأنام واما الى الله في الخالدين». الطريقة السمانية الطيبية القرشية الحسينية، منسوبوها كانوا في حلقة ذكر ربما للمرة الاولى في القيادة العامة، يتقدمهم مرشد الطريقة الشيخ محمد حسن الفاتح قريب الله وكذلك اتحاد طلاب جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا، واتحاد المصارعة السودانية، واتحاد المرأة ولاية الخرطوم. الدبابون كذلك كانوا هناك واشرطة حمراء ملتصقة على جباههم، وتكبيرات جهادية تكاد تشق عنان السماء.