لا أستطيع أن أخفي اعجابي بوالي القضارف كرم الله عباس، فمنذ أن تم انتخابه عمل جاهداً على ممارسة كامل سلطاته وصلاحياته وفق مقتضيات النظام الفدرالي والدستور الانتقالي. فقام أولاً بترتيب اوضاع ولايته من الداخل حتى أحال مكتبه الوثير الى مستشفى، وبذلك يكون قد سجل سبقا تقاصر عنه الكثيرون.. لكن سرعان ما تكشف له ان ترتيب الولاية من الداخل يحتاج الى مال كثير. والمال ممسوك في المركز بكلتا يديه. الشاهد ان المركز ظل على الدوام يقبض على ثروة كل أهل السودان ولا يتركها تنزل لمستويات الحكم الأدنى الا بالقدر الذي يبقيهات على قيد الحياة وذلك لتعزيز قبضته. حيئنذ صرخ الوالي صرخة مدوية وصب جام غضبه على وزير المالية الاتحادي الذي بيده تنساب الباقيات الصالحات من استحقاقات الولايات. سبقه الى تلك الصرخة والغضبة والى شمال دارفور عثمان كبر بينما صمت الولاة الآخرون وكظموا غيظهم لحكمة يعلمونها ويجهلها المحتجون. من المفترض ان يكون وزير المالية الاتحادي الحالي أكثر وزراء المالية تفهما لظروف الولايات حيث عمل وزير مالية ولائي في اكثر من ولاية، ثم واليا لولاية ظل واليها الذي خلفه يجأر بالشكوى حتى منّ الله عليه بالانعتاق فذهب الى منزله راضياً لكن واقع الأمر المشكلة لا يكمن في قبضة وزير المالية لاستحقاقات الولايات بل انما جوهر المشكلة يكمن في كيفية توزيع الموارد المالية في السودان لمستويات الحكم المختلفة وهذه الكيفية هي المسؤولة عن واقع التنمية غير المتوازنة في السودان والذي أدى الى عدم الاستقرار السياسي حتى اليوم. وكيفية التوزيع هذه لا يستطيع وزير المالية تغييرها او تعديلها لانها اصبحت (تابو) أو كادت تكون احدى ثوابت السياسة السودانية، فمن اراد ان يغيرها يصبح في نظر الكثيرين كأنما يريد ان يهدم ركنا من اركان الاسلام. على الرغم من ان هنالك مفوضيات وصناديق قامت لمعالجة أمر توزيع الموارد المالية الا ان حالها كحال الذي يريد أن يسوق بضاعة عتيقة مزجاة في غلاف جديد. الدستور الانتقالي الذي ظل سارياً حتى اليوم بعد اجراء بعض التعديلات الخاصة بالمواد المتعلقة بجنوب السودان بعد الاستفتاء، قسم السلطة في السودان الى ثلاثة مستويات قومي ولائي ومحلي، لكن يبدو من خلال الممارسة ان هنالك كثيرا من السلطات والصلاحيات ظلت ممركزة ولم يتم تنزيلها لمستويات الحكم الأدنى، وحتى تلك التي تم انزالها لم يتبعها ما يوازيها من موارد مالية، مما أفقد النظام الفدرالي كثيرا من مزاياه فأصبح فدرالي الشكل مركزي المضمون. فهنالك امثلة كثيرة تؤكد ما ذهبنا اليه لا يسمح المجال بعرضها فقط نكتفي بواحدة منها تلك التي وقفت حجر عثرة امام والي القضارف وهي قسمة الموارد المالية بين مستويات الحكم المختلفة، هنالك ثمة اسئلة كثيرة ظلت دون اجابات على سبيل المثال لماذا لا تنساب الاستحقاقات المالية للولايات دون ان ترتفع أصوات الولاة بالمطالبة وأحياناً الجأر بالشكوى مع ان الطالب والمطلوب من حزب واحد؟ لماذا تكثر شكوى بعض الولاة من قلة الموارد المالية المحولة لولاياتهم ويصمت آخرون، هل انسياب التحويلات المالية من المركز للولايات يتم على قدر ما يقدمه الوالي من فروض الولاء والطاعة أم ان هناك معايير أخرى؟. عندما تم انشاء صندوق دعم الولايات عام 1995م ليعمل على تقديم الدعم المالي وتطوير الموارد المالية للولايات، قام الصندوق في بداية عهده بتصنيف الولايات الى ثلاث مجموعات حسب الموارد مجموعة فقيرة تحتاج الى دعم ومجموعة ثانية تستطيع الاعتماد على نفسها ومجموعة ثالثة تستطيع ان تعتمد على مواردها وتقدم الدعم للآخرين، فكانت ولاية القضارف مصنفة ضمن المجموعة الثالثة، على الرغم من أن تصنيف الصندوق حينها يفتقد للدقة بل لا يخلو من المبالغة، الا ان ولاية القضارف تعتبر من الولايات الغنية بمواردها الزراعية والحيوانية الى جانب انها ولاية حدودية يمكن ان تنشط في تجارة الحدود الا انها هي الاخرى تعاني كما تعاني كثير من الولايات من خلل في السياسات الكلية التي اهملت تطوير الموارد غير البترولية ،خاصة الزراعية مثل استخدام الحزم التقنية والتقاوى المحسنة والتوسع في الزراعة المروية الى جانب ترقية صادر المنتجات الزراعية، وتجدر الاشارة هنا الى أن دولة مثل اريتريا تساهم بتصدير الزهور بنسبة مقدرة في الدخل القومي. توجد في كل الدول التي طبقت الفيدرالية أجسام او اجهزة سيادية مستقلة تقوم بتوزيع الموارد المالية لمستويات الحكم كافة وفق معايير عادلة مع توفير قدر كاف من الشفافية والعدالة ليطمئن قلب القاصي قبل الداني، وعادة ما تمثل في عضوية هذه الاجهزة شخصيات قومية متفق عليها تتم اجازتها من المؤسسة التشريعية، وبالتالي تقوم هذه الاجهزة بتوزيع الموارد المالية المتاحة على كافة مستويات الحكم وبهذا لم تكن هناك فرصة لأية جهة سياسية كانت او تنفيذية التغول على استحقاقات الآخرين بل ينساب المال لجميع المستويات بطريقة روتينية لا تدع مجالا للمطالبة بل ينصرف الجميع للعمل والتنفيذ. من خلال الممارسة يتضح ان الامر ليس كذلك في السودان، حيث كثيرا ما يستغل المال كوسيلة لاخضاع كل من تسول له نفسه ممارسة صلاحياته كاملة او ابداء رأيه صراحة في كل ما يقع في دائرة اختصاصه. معروف في كل الانظمة السياسية ان كانت مركزية أو فيدرالية ان هنالك قوانين تنظم العلاقات الرأسية والافقية بين مستويات الحكم، واذا خرجت احدى المستويات عن دائرة اختصاصها تقوم المحكمة الدستورية برد الامر الى نصابه. هكذا يتطور نظام الحكم من خلال الممارسة وتنتهي الملاسنة بين المسؤولين في ممارسة السلطات المشتركة. انشاء هياكل فيدرالية دون ان يخول لها صلاحيات حقيقية لممارسة دورها يحرم التجربة الفيدرالية السودانية من التطور. من خلال الممارسة هنالك هواجس لدى الكثيرين من تطبيقات النظام الفدرالي باعتباره يضعف المركز ويساعد على تفتيت السودان الى دويلات ولكن واقع الامر يقول ان المركزية القابضة مع انعدام التوزيع العادل للموارد المالية هو الخطر الذي يؤدي الى تفتيت السودان. الاستقطاب القبلي الحاد اليوم حتى على مستوى الجامعات باعتبارها منارات الوعي هو الآخر مهدد لأي توجه مركزي، بالتالي العلاج يكمن في تطبيق نظام فدرالي حقيقي يستطيع من خلاله كل مستوى من مستويات الحكم ممارسة سلطاته وصلاحياته دون وصاية او ضغوط من المستوى الأعلى عن طريق التحويلات المالية أو غيرها، على أن تكون المعادلة مركزا قويا وولايات قوية.