أراد الكاتب الصحافي المخضرم محمد حسنين هيكل أن يظهر رئيس دولته السابق بصورة العسكري البسيط والساذج الذي يهوى تلميع الأحذية، مدعياً بأنه لا يعرفه على حقيقته وليس بمقدور أي فرد مهما قرب من مبارك أن يسبر غور شخصيته المركبة ليجعل منه لغزاً محيراً للمصريين والعالم، في حين كشف في الجزء الثاني من كتابه «مبارك وزمانه» متسائلاً: «ماذا جرى في مصر ولها؟» عن ست رسائل مفتوحة كتبها لمبارك أوائل نوفمبر عام 1982م، ونشرت في شتاء سنة 2008م، متناولاً أسباب تأييده للرئيس مبارك قائلاً: (إنني يا سيادة الرئيس تابعت سجلكم في الخدمة العامة بأقرب مما يخطر لكثيرين.. وأقول والله شاهد كما أن هناك شهوداً من البشر أحياء إنني كنت موجوداً في مكتب «جمال عبد الناصر» حينما وقع الاختيار عليكم لرئاسة أركان حرب سلاح الطيران في الأوقات العصيبة من حرب الاستنزاف والاستعداد بعدها لعبور قناة السويس بالقوة المسلحة طبقاً لخطة «جرانيت «1»). ويضيف هيكل: «ولقد رأيت بنفسي وسمعت كصديق مقرّب كيف استقر رأي «جمال عبدالناصر» عليكم لهذه المهمة في تلك الأوقات، وكان ذلك بناءً على ما ورد في التقرير السري بملف خدمتكم بأوصاف: «وطني كفء لديه ملكة القيادة». ويبدو أن عامل السن ودواعي الشيخوخة قد أوقعت هيكل في مثل هذا التناقض البيّن ما بين إظهار الرئيس بمظهر العسكري الساذج، ووصف تقارير مخابرات عبد الناصر السرية لمبارك بالوطني والكفء وصاحب الملكة القيادية التي أهلته لإنجاح الضربة الجوية في حرب العبور، ومكنته من لعب أدوار تأمنية سرية بالخرطوم مساندة لنظام الرئيس السابق جعفر محمد نميري، خاصة في أحداث الجزيرة أبا عام 1970م، وانقلاب هاشم العطا في يوليو 1971م، مما رفع من أسهمه عند الرئيس أنور السادات، ليوليه بعدها منصب نائب رئيس الجمهورية، وتسوقه المشيئة الربانية لحكم مصر خلفاً للسادات بعد حادث المنصة الشهير، ثم ينتهي به الأمر إلى المثول خلف القضبان على سرير نقال بعد أن تجاوز الثمانين من عمره. ولم تقف مغالطات هيكل عند حد الرئيس المخلوع مبارك، بل امتدت إلى وثائق سودانية مهمة، وكشفت عن أن وضع القنابل في سلة المانجو أدى لنجاح العملية في الجزيرة أبا بعد أن رفضت مصر طلب الرئيس نميري ضرب مواقع الأنصار في الجزيرة أبا بالطيران المصري. وبحسب هيكل: «عندما رُفض طلبه لجأ الرئيس السوداني إلى السوفيت، وبالفعل فإن بعض خبرائهم قادوا ثلاث طائرات «ميج 17» وحلقوا بها فوق جزيرة «أبا» في مظاهرة تخويف حققت الهدف دون قصف، فقد شعر المهدي بقلق أنصاره في الجزيرة، ومن أن يكون ظهور الطيران عملية استكشاف يعقبها سقوط القابل، وهرول للخروج من «أبا» متجهاً إلى «كسلا» في الشرق «في الغالب يقصد الوصول إلى إثيوبيا» ثم حدث أن المخابرات السودانية استطاعت تحديد موقع «المهدي»، وهنا جرت محاولة اغتياله وسط «هدية» من ثمار المانجو أُرسلت إليه. وفي تلك الظروف ثارت شكوك بأن «حسني مبارك» كان اليد الخفية التي دبرت إرسال الهدية الملغومة، وظهرت أصداء لهذه الشكوك في الصحف الموالية ل «المهدي» في «الخرطوم !». وبهذا الخفة والسطحية يعالج هيكل في كتاباته وثائق التاريخ التي يدعي امتلاكها الحصري لتبرئة وتمجيد «عبد الناصر» وإدانة من خلفوه في الحكم، ولو أدى الأمر إلى لي عنق الحقيقة، ويجري التساهل في عرض الوثائق السودانية لأن معظم مثقفي الخرطوم يعتمدون على المشافهة في سرد الأحداث التي لم تجد من يميط اللثام عنها بتوثيق مهني، لذا صارت مثاراً للجدل والفبركة التاريخية.