كثيرون منا ربما لا يعرفون عن الارجنتين سوى لاعبها الفذ دييغو ماردونا ،المدرب الحالي لنادي الوصل الاماراتي، وأنها دولة متميزة فى كرة القدم وأنها نالت كأس العالم عامي 1978 و1986، وربما علمنا أخيرا باسم لويس مورينو أوكامبو مدعي محكمة الجنايات الدولية «الذي طالب بتوقيف عدد من مسؤولي حكومتنا وفى مقدمتهم السيد رئيس الجمهورية» وأنه من تلك الدولة المجاورة للبرازيل فى أمريكا الجنوبيةن، لكننا لا نعرف الكثير عن اقتصاد الارجنتين ولا شيئا عن حجم مساهمة الزراعة فى اقتصادها، ترى ما هو الوضع الزراعي فى هذا البلد الكبير الذي تبلغ مساحته 2.780.092 كم2؟ كنت أشاهد ذات صباح فيلما وثائقيا فى قناة الجزيرة الوثائقية عن الزراعة فى الأرجنتين وهالني أن 60% من دخلها القومي يأتي من زراعة محصول الصويا، وحده، الذي تصنع منه الزيوت وأعلاف الحيوانات، وعلمت أن الارجنتين تعتبر واحدة من أهم البلدان التي تنتج الصويا ثم إن 90% من إنتاجها يصدر إلى الخارج، وما تبقى يستهلك في السوق المحلية، ويتنوع نشاط السكان فى ذلك البلد، لكنه يتركز على الزراعة، فهي من أكبر منتجي المواد الغذائية في العالم، وتنتج القمح والذرة، الى جانب الصويا، ودوار الشمس، وقصب السكر ، وتمتلك الارجنتين ثروة حيوانية كبيرة من الابقار والاغنام ، والماعز ، وتنتج القليل من البترول ، «حالها يشبة حال السودان فى الزراعة والثروة الحيوانية والنفط، لكنها تتفوق علينا كثيراً فى هذه الجوانب» وتستخرج الأرجنتين الفحم ، والحديد ، والفضة ، وتمتلك بنية من الصناعات الخفيفة، أفضل بكثير من واقع الصناعات فى بلدنا. فاذا كنا قد فشلنا فى كرة القدم التي نجحت فيها الأرجنتين ودول عديدة ولا نحلم بوصول المونديال حتى عام 2090 ربما، فلماذا لا ننجح فى الزراعة وموارد بلدنا لا تحصي ولا تعد؟. قلت فى نفسي بعد مشاهدة تلك المادة الوثائقية، فى تلك القناة ، وفى ذهني ما آل اليه حال الاقتصاد الوطني بعد انفصال الجنوب ، هل بامكاننا العودة الى ما قبل استخراج النفط؟ الذي كان فى جانب كبير منه نقمة على البلد ، وليس نعمة عليها، أن نقوم باحياء مشروع الجزيرة، والقطن الذي كان فى يوم من الأيام ذهب السودان الأخضر، وأن نزرع ما يكفي حاجتنا من القمح فى الشمالية ونهر النيل وغيرها؟ونصدر للآخرين ونهتم بالصمغ العربي الذي تهتم به الولاياتالمتحدةالأمريكية وكثير من دول العالم لأنه يدخل فى صناعاتها ؟ قلت: ربما توجد مؤشرات على أنه يمكننا عبور أزمتنا الخانقة دون نفط أو بوجود القليل منه لو جعلنا الزراعة حرفة رئيسية بالاستراتيجيات والخطط والمشروعات العملية الجادة والطموحة، لا بالشعارات وحدها، خاصة شعار النفرة والنهضة الخضراء الكذابة البراعة. نقلت وسائل الإعلام السودانية أخيراً عن وزير العلوم والتقانة، عيسى بشري قوله : إن السودان يخطط لزراعة مليوني فدان بشجرة «الجاتروفا» «الذهب الأخضر الجديد ربما للسودان» لينتج مليوني طن سنوياً، من الوقود الحيوي، الأمر الذي يضع الدولة خلال الأعوام القليلة القادمة حسب الوزير، ضمن قائمة أكبر الدول المصدرة لهذا النوع من الوقود فى العالم ، والذي يعد من البدائل السريعة والمناسبة في إطار التوجه العالمي للوقود الحيوي، والوقود الحيوي هو الطاقة المستمدة من الكائنات الحية سواء النباتية أو الحيوانية منها، وهو أحد أهم مصادر الطاقة المتجددة، على خلاف غيرها من الموارد الطبيعية مثل النفط والفحم الحجري وكافة أنواع الوقود الإحفوري، وهو وقود نظيف يعتمد انتاجه في الاساس على تحويل الكتلة الحيوية سواء أكانت ممثلة في صورة حبوب ومحاصيل زراعية مثل الذرة وقصب السكر أو في صورة زيوت مثل زيت فول الصويا وزيت النخيل، وشحوم حيوانية، الى ايثانول كحولي أو ديزل عضوي، مما يعني إمكانية استخدامها في الانارة وتسيير المركبات وإدارة المولدات، ويتم الحصول على الوقود الحيوي من التحليل الصناعي للمزروعات والفضلات وبقايا الحيوانات التي يمكن إعادة استخدامها، مثل القش والخشب والسماد ، وقشر الارز، وتحلل النفايات ، ومخلفات الاغذية، التي يمكن تحويلها الى الغاز الحيوي عن طريق الهضم اللاهوائي، والكتلة الحيوية المستخدمة كوقود يتم تصنيفها على عدة أنواع مثل النفايات الحيوانية، والخشبية والعشبية، كما أن الكتلة الحيوية ليس لها تأثير مباشر على قيمتها بوصفها مصدراً للطاقة، ومن مزايا الوقود الحيوي رخص تكلفته وإمكانية إنتاجه في أي وقت وفي اي مكان، بسبب توافر مواده الاولية وعدم تقيدها بأيةعوامل جغرافية أو طبيعية، وهي ميزة كبرى تفتقدها مصادر الطاقة الاخرى المتجددة. غير أن ميزة الوقود الحيوي الكبرى التي يؤمل تطويرها والتوسع فيها، انه يمكن إنتاجه من الطحالب المائية ومن نباتات اخرى سريعة النمو، وغير ذات قيمة غذائية مثل الجاتروفا كما هو التوجه الحالي فى السودان . وأبرز الدول التى تستخدم الوقود الحيوي كطاقة بديلة للنفط ، اميركا والبرازيل والمانيا والسويد وكندا والصين والهند، وفى امريكا مثلا يستخرجون من الذرة والصويا الوقود الحيوي ، وفى أوربا من اللفت، وفي البرازيل من قصب السكر ، وفي جنوب شرق آسيا من زيت النخيل، وتتمثل أنواع الوقود الحيوي فى الغاز الحيوي والايثانول والديزل الحيوي، لكن قطعا مثل هذا التوجه لا يرضي منتجي ومصدري النفط فى العالم، باعتباره بديلا جيدا للنفط ، وباعتباره طاقة نظيفة صديقة للبيئة أكثر من البترول، وزيادة الطلب على هذا النوع من الطاقة هو بسبب الاحتياجات المتزايدة على الطاقة نظرا لارتفاع تكاليف النفط، والرغبة في الحصول على مصادر طاقة نظيفة والرغبة في زيادة الدخول الزراعية في البلدان المتقدمة، ومن باب أولى أن يلج بلد فقير كالسودان، الى عالم هذه الطاقة ، حتى يجنب شعبه شرور مشكلات نقص النفط ، وارتفاع تكلفة إنتاجه أو استيراده، ولا يعني هذا بحال من الأحوال عدم اهتمام الدولة بزراعة السلع الغذائية الاستراتيجية خاصة القمح والذرة والدخن، لأن تجاهلها يعني أيضا زيادة عدد الفقراء والجوعي ، فى السودان ، وقد اعتمدت العديد من الدول معايير لتعزيز التنمية المستدامة لإنتاج الوقود الحيوي واستخدامه، وأبرزها الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. وقد أصدرت الوكالة الأوربية لمعايير الطاقة المتجددة في عام 2009م، معيارًا يتطلب أن تكون 10% من وقود النقل مستمدة من الطاقة المتجددة بحلول عام 2020، ويعتبر هذا المعيار هو المعيار الأكثر شمولية، كما يتطلب هذا التوجيه أن تكون انبعاثات الغازات الدفيئة أقل ب 50% من الغازات المنبعثة من الوقود الإحفوري، وذلك حتى سنة 2017م، كما لا ينبغي أن يتم إنتاج النباتات المنتجة للوقود على أراضي ذات قيمة عالية في التنوع البيولوجي، وألا تقلل من كربونية التربة. ونأمل أن تراعي الجهات المختصة كل هذه الأمور حين الشروع بشكل جدي فى هذا المشروع الحيوي المهم والذي هو بالطبع لن يكون حلاً سحرياً لمعضلات اقتصادنا الذي بدأ الترنح ولكنه يساهم فى دعمه بقدر. وقد صرح وزير العلوم والتقانة، عيسى بشري، بأن السودان على مشارف أن يكون خلال الأعوام القليلة القادمة من أكبر الدول المصدرة للوقود الحيوي بعد إنفاذ الخطة الجارية لزراعة مليوني فدان بشجرة الجاتروفا لإنتاج مليوني طن سنويا «لا ندري متى ستبدأ عمليات الزراعة بصورة فعلية، وكم من وقت نحتاجه حتى زراعة كل هذا الكم من الأشجار، وكيف ستروي؟ وكلها أسئلة سيجيب عنها المختصون، ولكننا بعد اكتمال عمليات الزراعة نحتاح إلى نحو خمسة أعوام حتى نجني الثمار». والجاتروفا هى شجرة يبلغ ارتفاعها 5 الى 8 امتار، وفروعها غليظة وأروراقها بيضية وعريضة وثمارها عبارة عن كبسولة طولها 2 الى 3 سم ، وتزهر فى ابريل وتؤتي ثمارها فى مايو، ويمكن زراعتها فى التربة الصحراوية الرملية ولا تحتاج الشجرة الى ري كثير ولا الى تسميد ولا إلى أية مواد عضوية أخرى وهي نبتة معمرة ، وتنتج عند عمر «ثلاث سنوات» كمية من وقود الديزل، وتنمو شجرة الجاتروفا أيضا في المناطق الاستوائية وتتحمل درجات حرارة عالية تفوق ال «48» درجة مئوية، وتنمو في أمطار بحد «250» ملم في العام وهو حد لا يصلح للمحاصيل الزراعية، وتزرع الجاتروفا من البذرة أو الشتلة أو العقلة في أحواض أو مساطب، وتسقى أما بالري التنقيطي أو الرش أو الأمطار ، ويستمر إنتاج الجاتروفا حتى «40 45 عاماً» من عمر الشجرة، وتحتوي بذور الجاتروفا علي زيت بنسبة «30 35%» ويحتوي هذا الزيت على 21% زيوت مشبعة و79% زيوت غير مشبعة، وهو زيت آمن بيئياً والزيت لا يصلح للاستخدام الآدمي، ويخلط أيضا مع زيت الديزل والكيروسين بنسب متفاوتة، كما يستخدم أيضاً في التلميع وصناعة الصابون وبعض الاستخدامات الصناعية الأخرى. وفي ديسمبر 2008، أنجزت إحدى شركات الطيران فى نيوزيلندا أول اختبار لطائرة تجارية في العالم باستخدام وقود مصنع جزئياً من الجاتروفا، وقد تم إجراء اختبار الطيران خلال اثنتي عشرة ساعة طيران، وقد أقلعت الطائرة من مطار أوكلاند الدولي، وتم استخدام مزيج من الوقود الحيوي ووقود الجاتروفا بنسبة 50:50 وزودت بها إحدي طائرات البوينج ومع ذلك فإن المهتمين بسلامة البيئة يطالبون عند إنتاج الوقود الحيوي بالالتزام بالمعاهدات الدولية والقوانين الوطنية المنظمة مثل «جودة الهواء ومصادر المياه وأساليب الزراعة الحديثة والعلمية» وشروط العمل وما إلى ذلك، كما يجب أن تصمم وتنفذ عمليات إنتاج الوقود الحيوي بحيث تشمل جميع أصحاب المصالح في عمليات التخطيط والمراقبة، كما يجب أن يقلل الوقود الحيوي من انبعاثات الغازات الدفيئة مقارنة بالوقود الإحفوري، ويجب أن يشجع إنتاج الوقود الحيوي على الممارسات التي تؤدي إلى تحسين التربة والتقليل من تدهورها، وجب إنتاج أنواع الوقود البيولوجي بأكثر الطرق فعالية من حيث التكلفة، مع الالتزام بتحسين كفاءة الإنتاج والأداء في جميع مراحل تقييم أداء الوقود الحيوي، وأهم شيء عندنا فى السودان كما فى بقية انحاء العالم ، ألا يؤثر إنتاج الوقود الحيوي على الأمن الغذائي. و توفر زراعة الجاتروفا فى بعض الدول العالم فوائد للمجتمعات المحلية، فهي تتطلب أيدي عاملة كثيفة لالتقاط الثمار، مما يوفر فرص عمل في أجزاء من المناطق الريفية خاصة فى الهند وأفريقيا، وفى السودان ننتظر أن تسهم زراعة مساحات واسعة من الجاتروفا فى حل جزء من مشكلة البطالة التى تؤرق شبابنا وتسهم فى توظيف عدد مقدر من المهندسين الزراعيين وغيرهم سواء فى عمليات الزراعة أو أنتاج الوقود الحيوي نفسه، كما أن هذا النوع من الوقود سوف يساهم أيضاً فى دفع وتيرة الاقتصاد السوداني كما فعل مشروع سكر كنانة بانتاج كميات من الايثانول وتصديره الى دول الاتحاد الأوربي. وقال مصدر مسؤول بالمصنع قبل سنوات إن طاقة المصنع سترتفع إلى 200 مليون لتر من الإيثانول سنوياً بحلول 2013م، ترى كم يمكن أن تجني خزينة الدولة إن أعدنا لمشروع الجزيرة سيرته الأولي وإن اهتممنا بزراعة القمح فى الشمالية وزهرة الشمس والسمسم فى القضارف؟ العودة الى ما قبل تدفق النفط فى السودان، أى التوجه الى الزراعة وفق رؤية ثاقبة ومدروسة هو التوجه السليم، الذي نحتاج اليه ليخرج بلادنا من كبواتها ،لا انتظار عائد يأتي الينا من تصدير نفط الآخرين. ٭ كاتب وصحافي سوداني مقيم في الدوحة