كنت عائدا لتوي من ربوع كردفان في اعقاب جولة استهدفت الوقوف علي اعمال الكهرباء في الخط الناقل والمحطات التحويلية بقطاع الابيض الدبيبات الفولة .. كانت الرحلة التي استمرت ليومين مرهقة بعض الشيء فقررت ان اعمد الي اسكات الهاتف الجوال وقبل ان اضعه في حالة الصمت رن الهاتف في يدي .. حسنا انها الانسة امال سودا اكسبو كما تشير ذاكرة الهاتف وحتي لا تخرج علينا الانسة امال بدعوي قضائية في التعريف نقول انها الانسة امال محجوب منسقة ملتقي الاستثمار السوداني الهولندي بلاهاي .. كان الغرض من المكالمة هو مدهم بجواز سفري علي وجه السرعة بغية الحاقة بالسفارة لنيل التأشيرة فقد كنت ضمن الوفد الاعلامي الذي وجهت له الدعوة لحضور وعكس مخرجات الملتقي، وعدتها باحضار وثيقة سفري صباح الغد. وجدت ذاكرتي بعد انتهاء تلك المكالمة وقد عادت بي بعيدا .. الي ايام الطلب الباكر الي منهج بخت الرضا القديم ومستر قريفس حيث كانت جغرافية العالم من حولنا تسرح بنا لنعرف كيف يعيش آفو في الصين وفرانك في إنجلترا، ورشك في الهند، وسانشو في الأرجنتين، وقرتشن في سويسرا وكان بين هؤلاء الاصدقاء وليم في هولندا .. عفوا صديقي وليم علي تأخري وهانذا اعمل للقياك وقد اشتعل الرأس شيبا . كانت نسمات صباح التاسع عشر من مايو الباردة تغشي وجهي .. تمدني ببعض الحيوية وانا اتجاوز ابواب صالات مطار الخرطوم نحو طائر الملكية الاردنية والذي وقع عليه الاختيار ليقلنا الي هولندا او الاراضي المنخفضة كما يطلق عليها .. كانت الرحلة عبر مطار الملكة علياء بالاردن حيث قضينا به ست ساعات سمتها الانتظار المشوب بالقلق لنتنفس الصعداء عندما طلبت المذيعة الداخلية بالمطار من المغادرين الي امستردام التوجه الي الصالة رقم 12 .. كنت اتحرق شوقا واسابق خطواتي نحو الدن هيك او الهيك كما تسمي بالانجليزية او لاهاي كما تسمي بالفرنسية والعربية . خمس ساعات من الطيران المتواصل لم تشفع شاشة السينما الصغيرة التي تضم اجمل الافلام ووفق احدث تقنيات الصوت والصورة التي توفرها طائرات الايرباص الحديثة في كسر حالة الترقب التي تحكم قبضتها علي الركاب .. وكثيرا ما وجدتني اعود الي بحر التصوف في ديوان شرب الكاس للاستاذ عبدالمحمود نورالدائم .. وانا في حالة الشد والجذب بين السينما والشعر و الغفوات المتكررة سمعت المذيعة الداخلية تطلب من ضيوف الملكية العودة بالمقاعد الي حالتها العمودية مع ربط الاحزمة واغلاق الاجهزة الاليكترونية تمهيدا للهبوط بمطار سكيبخول الدولي بالعاصمة التجارية امستردام .. كنت طيلة الرحلات الجوية اجلس بمقعد مجاور لاحدى نوافذ الطائرة وشكرا لذلك الحظ الذي صادفني في رحلتي الي الاراضي المنخفضة ذهابا وعودة .. ومن خلال نافذة الطائر بدأت ارسل نظراتي في محاولة لاستكشاف عالمي الجديد .. حسنا فقد كانت الخضرة هي العلامة الابرز .. كنت اري علي مد البصر بساطا من الخضرة تتخللها بحيرات المياه الزرقاء ومن ثم بدأت معالم المدينة اكثر وضوحا ... واو .. تعبير الدهشة وسببه كثافة غير عادية في الجسور العلوية التي يمتد بعضها لبضعة كيلومترات لم نشعر باطارات الطائرة وهي تلامس الارض .. قلت في نفسي ان تلك الاراضي التي اقتلعت من عمق البحر لا تجيد غير العطاء ومن الطبيعي ان تحتضن اطارات طائرتنا وفق تلك الحميمية . وصلنا مطار سكيبخول ولمعلومية المتلقي فان هذا المطار يعتبر من اكثر المطارات حركة حول العالم اذ يتجاوز عدد المسافرين عبره الخمسمائة والخمسين ألف شخص في اليوم علاوة علي مئات الرحلات الخاصة بحركة الاستيراد والتصدير وبرغم ذلك فان معاملات الدخول والخروج تسير بسهولة وانسياب ونظام دقيق اذ لم تتجاوز اجراءات دخولنا وتفحص اوراقنا الدقائق الخمس وقبيل ان نتجاوز صالة الوصول لابد من الاشارة الي ان هذا المطار كان مربطا بحريا للبواخر قبل ان تمتد اليه يد التجفيف والتحوير شأن معظم الاراضي الهولندية ليتحول الي مطار يأتي في مصاف وطليعة المطارات حول العالم ليحكي للعالم اروع فصول قصة لتسخير الموارد الطبيعية والبشرية . في صالة الوصول وجدنا حفاوة الاستقبال حيث كان سفير السودان بهولندا سراج الدين حامد يوسف وثلة من منسوبي السفارة السودانية في استقبالنا ليحكي اهمية الرحلة ووصول الوفد المشارك الي الاراضي المنخفضة وما يعول عليه في الملتقي من كسر للحالة التي ضربت سياجا محكما حول السودان لتكون ضربة البداية لفك تلك القبضة من العمق الهولندي الذي يري فيه المراقبون عمقا للاستكبار الغربي الذي يستهدف السودان. حفاوة الترحاب والبشر التي تلمسناها في وجوه الجميع عقب مغادرتنا باحة المطار لكأني بها قد تناغمت مع حالة المناخ اذ تصادف وصولنا مع حالة الشروق الدائم فأهل تلك المنطقة من العالم ينتظرون لمدة طويلة تمتد لاكثر من ثمانية شهور من العام ارتفاع درجات الحرارة حتي تعود الخضرة لتكسو بلادهم .. حدثني احد الاخوة المقيمين هناك ان الناس بهولندا في حالة من تبادل للازياء مع الارض فاما ان تلبس الارض الخضرة في الصيف ليتعري الناس الا من قليل او تتعري الارض في الشتاء ليلبس الناس من المعطف والصوف ونحوهما ما يقيهم زمهرير الشتاء القارس في تناسب عكسي بديع. غادرنا المطار الي العاصمة السياسية لاهاي الواقعة علي بعد «60» علي متن عربات المارسيدس الفارهة وكان نزلنا فندق «ان اتش هولند» والذي يصنف ضمن الفنادق العالمية الفخمة .. وبعد اخذ قسط من الراحة كان علينا الانضمام الي اخرين في حفل تعريفي قصير ببيت السفير بالحي الدبلوماسي . رأي عام غالب بين كافة الشرائح الاجتماعية لاهل السودان ظل يؤكد بعدم القدرة علي احداث اي حالة من التقارب الاقتصادي بين السودان وهولندا بل يؤمن بعض المراقبين للحراك السياسي باستحالة اي اختراق لحالة العداء غير المعلن بين السودان وهولندا غير ان هنالك من يري بغير ذلك بل ان دعاة التقارب يذهبون الي مؤشرات الواقع الماثل التي تؤكد ان الفضل في نمو قطاع مثل الدواجن ما كان له ان يحقق حالة النمو الراهن الا بفضل العون الهولندي الذي وفر الاعلاف المركزة وكذلك قطاع البطاطس ولا زال هذان القطاعين يعتمدان علي هولندا ويري هؤلاء بامكانية احداث حالة من الاختراق الوهمي لجدار العزلة خاصة عبر شراكات بين القطاعين الخاص والعام في السودان وهولندا. التقت رغبة القائمين علي امر السفارة السودانية بلاهاي في تقديم ما ينفع الناس بالسودان مع اصحاب بعض الشركات الهولندية الملمة بالموارد التي تحظي بها البلاد والمتطلعة الي اقامة شراكات مع القطاع الخاص بالسودان لتأخذ شركة سودا اكسبو المتخصصة في المعارض والمؤتمرات المبادرة لتصادف نجاحا منقطع النظير في اقناع عدد من شركات القطاع الخاص والمصرفي فكان بنك السلام وبنك الخرطوم والبنك الزراعي وتأتي اهمية المصارف لكونها العمود الفقري لاي تقارب اقتصادي اذ تعتبر حرية حركة رأس المال اهم مقومات الجاذبية للاستثمار وعبر المصارف تتم حركة تبادل السلع والخدمات والتقنيات ومن القطاع الخاص وفدت شركات كبري استطاعت ان تخلق لها اسما في الحراك الاقتصادي سواء في مجالات الدواجن ومشروعات زراعة البطاطس اضافة الي شركات عاملة في مجال الانشاءات والاسكان وهذه كانت تهتم بتقديم خدماتها للسودانيين المقيمين بهولندا والذين يقاربون التسعة آلاف مواطن.