كانت زيارتنا لمسلخ شركة ( ام بي اس Meat Processing Systems ) آخر فعاليات ملتقى الاستثمار السوداني الهولندي الذي اقيم بالعاصمة السياسية الهولندية خلال الفترة من 21 الى 23 من مايو الماضي .. وبرغم ان منظمي الملتقى قد عملوا جهدهم على استمرارية الحجز بالفندق حتى التاسع والعشرون من مايو وهو الموعد المضروب للعودة للخرطوم وفقا للحجز الجوي فقد كنت حريصا جدا على العودة بعد انتهاء فعاليات الملتقى مباشرة وطلبت من الآنسة امل محجوب منسقة الفعالية عن شركة سوداكسبو ان تجد لي طريقا للعودة على وجه السرعة والسبب هو اتصال هاتفي يفيد بتوعك صغيري محمد الذي لم يتجاوز عمره الشهر الرابع .. الاخبار المتواترة من السودان بمرض الصغير اغتالت احساسي بمتعة اكتشاف عوالم جديدة في العمق الهولندي .. غير ان حالة القلق ذهبت في صباح اليوم التالي فقد افادت الاخبار بتعافي الصغير وكان باقي البرنامج يقوم على حفل الجالية السودانية خاصة ان هنالك بعض الشركات والمصارف التي تريد تقديم خدماتها لابناء الجالية ،وقبيل حفل الجالية كان علينا تلبية الدعوة التي قدمها محمد صالح عبدالرحيم للوفد لتناول الغدء بامستردام ومن ثم استغلال المراكب من منطقة الدام وهي جولة سياحية تتيح للمرء فرصة التعرف على المدينة باستغلال المراكب خاصة ان هنالك اكثر من مائة جندول بالمدينة وهي بالتالي اقرب المدن لمدينة البندقية الايطالية ،كانت دعوة محمد صالح قد تأجلت اكثر من مرة وفي نهاية الامر تطورت تلك الدعوة وتولاها الاخوة عبدالدائم الهادي وبهاء الدين خميس من السفارة السودانية وشملت كل الوفد الزائر . غادرنا الهيك او لاهاي نحو امستردام عبر سيارات السفارة ووصلنا الى منطقة الدام .. كان اللافت في منطقة الدام التي تنطلق منها الرحلات السياحية هو حالة التواجد البشري الكثيف .. ولفت نظري وجود احدى عربات الشرطة .. انها المرة الاولى التي اشاهد فيها الشرطة في الشارع خلال فترة وجودي حتى ذلك اليوم والتي قاربت الثمانية ايام .. حسن انها شرطة السياحة ان دورهم هنا تقديم النصح والمشورة للسياح خاصة ان السياح يشكلون اكثر من (80%) من اولئك المتواجدين حول منطقة الدام . وبعد انتظار امام المراكب استمر لقرابة الساعة نجح محمد صالح وعبدالدائم وبهاءالدين من الحصول على التذاكر فاتخذنا سبيلنا الى احد المراكب السياحية .. فتحركت بنا المحروسة تمشي الهوينى على سطح .. كانت الدور والبيوت على حافة الجندول ويعود تاريخ بعض المباني التي لا يتجاوز اغلبها الاربعة طوابق الى القرن الخامس عشر .. عبر مكبر للصوت كان دليلنا السياحي يشير الى البنايات ذات اليمين وذات الشمال وتاريخ تشييدها كما يشير الى تواريخ تلك الجسور .. كنا نتجاوز الجندول نحو الآخر كنت تراني انظر الى البنايات والناس معا ويمكن القول ان اللافت في مدينة امستردام هو ان غالبية سكانها من الشباب والاطفال وسقف اعمار الناس هنا لا يتجاوز الستين .. اوه ان ذلك يتعارض مع ما نسمعه من ان المجتمع الهولندي مجتمع يعاني الشيخوخة .. ان معدلات النمو السكاني هنا يعتبر من ادنى المعدلات حول العالم . بعض المدن وما ان تطأ قدماك ارضها حتى تمنحك رحيق خصوصيتها وخلال ساعات يمكنك ان تعرف طعمها ورائحتها واذا اردت ان اضع انطباعي الاول عن مدينة امستردام فاقول انها مدينة ( منطلقة) حسن .. يمكن احتمال كلا التأويلين فامستردام مدينة منطلقة نحو فضاء الحرية بلا منتهى فلا غروان استغل ذات المراكب التي نمتطيها الآن جماعات المثليين الذين تجمعوا من كافة انحاء البسيطة واقاموا مهرجانات امتدت لايام قبل عام وبعض عام في المدينة .. امستردام مدينة تسمح في بعض مقاهيها بتقديم الحشيش والبنقو وغيره من ضروب المخدرات .. وهي مدينة تكشف ساقيها في غنج ودلال ووفق نهج يأخذ بلب شيخ قد صام لله وابتهل وفق نهج امرئ القيس الشاعر الفذ .. وحتى لا يذهب البعض بعيدا فاقول ان دعوات الوالدين بابعاد البعض من طريقنا قد سبقتنا الى تلك البلاد كما ان وجودنا ضمن وفد كبير قد وفر لنا اسباب النأي .. النأي من تذوق نخب امستردام لنغادر اسباب الفتنة والنفس الامارة بالسوء تكابدها من بعيد لبعيد .. وعلى عكس امستردام تأتي الهيك او لاهاي التي يمكن وصفها بانها مدينة وقورة ... الناس في الهيك اكثر احتشاما ولا تحس في المدينة بملامح التحرر الا في امسيات نهاية الاسبوع .. او عندما يرتاد المرؤ مقاهي وسط المدينة وحول محطة قطاراتها الشهيرة ولاهاي تضم الكثير من المؤسسات والدور القضائية العالمية فهي مقر محكمة العدل الدولية وتضم ايضا محكمة الجنايات الدولية التي بات يتردد اسمها كثيرا في الشارع السوداني بعد استغلالها ضد السودان عبر الارجنتيني لويس اوكامبو . في احدى صالات لاهاي اقام المكتب التنفيذي للجالية السودانية بهولندا حفلاً، وفي الحفل التقيت المهندس محمد موسى الزبير وهو على حد قول اهلنا النوبيين بلدياتنا من قرية طليح الزبير من اعمال ريفي المناقل . الاخ محمد استقر به المقام بهولندا بعد التحاقه باحدى الشركات هناك جاء محمد واسرته لحضور الحفل واخذوا جرعتهم من العرضة على انغام اللحن الخالد يا وطني يا بلد احبابي في وجودي اريدك وفي غيابي ،قلت مداعبا محمد كيف هي حال كواهلة امستردام ؟ في اشارة الى اطفاله الصغار فأجابني بان لا خوف عليهم وما زالوا متمسكين بكاهليتهم برغم متطلبات التوافق مع الوطن الجديد . خلال حفل الجالية وردت كثيرا مفردة المهاجرين ..فابناء الجالية لا يصنفون وضعهم كمغتربين وانما يرون بانهم مهاجرون فاغلبهم يحملون الجنسية الهولندية وباتت هولندا وطنا بديلا وكثيرون منهم لا يفكرون في العودة والاستقرار بالسودان، وانما يريدون لايجاد صلة تواصل مع السودان سواء من خلال اعمال وشراكات تجارية واقتصادية تعود عليهم وعلى البلاد بالنفع خاصة ان بينهم اصحاب اعمال لهم القدرة على مد البلاد بكل التقنيات في مجال الزراعة بشقيها النباتي والحيواني . حالة التناغم بين مكونات السفارة السودانية بلاهاي لافتة للنظر فهناك يختفي تماما حالة الصراع بين الكادر الدبلوماسي والاداري و الاستشاريات سواء كانت تجارية او زراعية او قنصلية فكثيرا ما تجد حالة من الشد بين منسوبي السفارة الدبلوماسيين مع غيرهم من مستشارين وملحقين وكثيرا ما تجد اولئك الملحقين يشكون تغول الدبلوماسيين على اعمالهم فكان الشاهد في السفارة السودانية بلاهاي هو حالة التناغم وروح فريق العمل هي السائدة لتجد عبدالدائم الهادي في بعض الاحيان يقوم بدور القنصل وفي احيان اخرى بدور الدليل والمرشد للوفود الزائرة وكذا الامر مع المهندس بهاءالدين خميس الملحق الزراعي ، وهنا لابد من الاشارة الى هذا النهج المتفرد للسفارة السودانية بلاهاي راجين ان يكون ذلك شأن كل بعثاتنا بالخارج. من المفارقات التي تستحق الوقوف عندها ان هولندا قد تمكنت من سوق منتجات الالبان حول العالم بفضل (4) مليون رأس من الابقار بينما تبلغ جملة المواشي في السودان بعد الانفصال حوالي (40) مليون رأس وبرغم هذا العدد المهول فالبلاد لا زالت تستورد الالبان والاجبان وغيرها . هولندا اغلقت (16) من سفاراتها حول العالم واغلب السفارات التي تم اغلاقها في افريقيا وابقت على سفارتها في السودان ما يعني ان تلك البلاد حريصة على اقامة علاقات مع الخرطوم و على القطاع الخاص ان يعمد الى استغلال هذه السانحة خاصة ان تجربتنا مع هولندا تشير الي انها دولة معطاءة ويظل قطاع الدواجن والبطاطس دليلا دامغا على الدعم الهولندي . ونحن في خواتيم الوقوف مع ملتقى الاستثمار السوداني الهولندي لابد ان نتقدم بآيات الشكر والتقدير لاولئك النفر الذين جملوا تلك الايام بدءً بسفير السودان بلاهاي واسرة السفارة وسودا اكسبو العاملة في مجال المعارض والمؤتمرات. والشكر موصول على لسان الآنسة آمال محجوب لسفارة هولندابالخرطوم بدءً بالشباب العاملين بالاستقبال والقسم القنصلي خاصة السيدة الدكتورة سامية فانوس والسيدة جاكلين والسيدة ايفون بالقسم التجاري راجين ان نلمس مخرجات الملتقى واقعا يمشي بين الناس، من خلال مضاعفات مخرجات صناعة الدواجن والبيوت المحمية وغيرها ،للاستفادة القصوى من الموارد الضخمة التي ُتحظى بها بلادنا والى لقاء قريب