٭ قبل ما يقارب الستين عاماً- أى منذ عام 2591- لم تعرف جمهورية مصر باسمائها المختلفة (الجمهورية العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية) والى آخر ايام عهد الرئيس مبارك ديمقراطية يتنافس على كرسي الرئاسة فيها اكثر من مرشح كما حدث مؤخراً، وقد اطاحت ثورة 52 يناير 1102 بنظام الرئيس مبارك.. ولم تعرف غير حزب واحد هو الذي يسيطر على الجمعية التأسيسية (البرلمان) فالقوى السياسية الاخرى في جملتها كانت مغيبة بالدستور والقانون والواقع. ومن ثم لم يكن حضورها في ذلك المنبر الدستوري التشريعي ما يُذكر أو يُشار اليه كما الحال الآن بعد الثورة الشعبية. ولكن الديمقراطية تمرين سياسي له مقوماته وموجباته التي في مقدمتها الاعتراف بالآخر واحترامه وحقه في ممارسة نشاطه واللعب في الميدان.. ومن بعد يترك القرار للشعب عبر آليات الممارسة الديمقراطية المعترف بها اذا ما جرت تلك الممارسة على ما يرام وماهو مطلوب والمقصود هنا الانتخابات وصناديق الاقتراع. وفي ذلك الاطار فإن دخول عدد كبير من الكيانات والاحزاب والافراد الى قاعة البرلمان كتجربة اولى في عهد الثورة الشعبية ولابد منها كان قد شكل ظاهرة صحية ومرغوبة، وكان يتعين استكمالها بصياغة دستور جديد وقيام انتخابات رئاسية حرة وشفافة لتنتهي مرحلة ما عرف بالمجلس العسكري والفترة الانتقالية الحالية والدخول بالكامل في الحقبة الديمقراطية، فالثورة لا تكتمل إلا بحدوث ذلك كله. بيد أنه- وكما يقول الاخوة المصريون (الحلو ما يكملش..!) أى ان الامور لا تسير وتجري على نحو ما يتمنى المرء، أو يرغب، ذلك أن الحساسيات بين الفرق والاحزاب والجماعات السياسية طفت على السطح وعلى النحو الذي كان سائداً في الماضي أو بثقافة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا..!) فاليسار يسار واليمين يمين وليس بينهما ما يجمع. وتلك ثقافة- على كل حال- مضى وقتها بحكم المتغيرات والضرورات والمستجدات المحلية والاقليمية والدولية. فما اكثر القواسم المشتركة اليوم وفي مقدمتها الامساك بالحقبة الديمقراطية التي فجرتها وولدتها الثورة ويتطلع الى تحقيقها الجميع. الاسبوع الماضي كانت الانتخابات الخاصة بموقع رئيس الجمهورية أو من يحكم مصر بعد مبارك وستون عاماً كان الحاكم فيها عسكرياً.. فقد تنافس على الموقع عدد من الرموز الحزبية والسياسية ذات الخبرة وذات المرجعية والسند الحزبي والجماهيري. وقد كان أبرز ملامح وسمات ذلك: أولاً: تنافس أكثر من رمزية اسلامية على الموقع وهم الدكتور مرسي والدكتور ابو الفتوح والدكتور العوا. ثانياً: غياب مرشح غير اسلامي من الطائفة القبطية مثلاً ليعكس مبدأ التعدد الديني وحقوق المواطنة وغياب العصبية في المجتمع المصري وان لن يكن لذلك المرشح حظ كبير. ثالثاً: ظهور شخصية عسكرية وذات صلة بالنظام السابق على قائمة المتنافسين.. والمقصود هنا الفريق شفيق إذ ان وجوده على القائمة يقول بأن النظام السابق موجود وان لم يصرح هو بذلك..! أما وجود الدكتور صباحي على قائمة المتنافسين بحصة مقدرة من الناخبين جعلت منه الثالث على القائمة فقد كان في ذلك اشارة الى ان اليسار أيضاً له حضوره. ان في ذلك كله ورغم هذه الملامح والملاحظات ما يقول بأن التمرين الانتخابي تمرين ديمقراطي وسيكون الحسم فيه والقرار في نهاية المطاف لدى الناخب المصري على تعدد ميوله السياسية والحزبية والدينية وذلك ما ستسفر عنه الجولة الثانية من الانتخابات التي باتت محصورة في اثنين من الرموز المتنافسة هما الدكتور محمد مرسي والفريق شفيق، وهما بشكل عام يمثلان شخصين أو رمزين سياسيين. ٭ احدهما (الفريق شفيق) وهو رغم ما قال يقول وانجز يرمز الى حقبة الستين عاماً المنصرمة في مصر وآخرها حقبة الرئيس مبارك التي كان جزءاً منها والتي يحسب الكل ان صفحتها قد طويت. ٭ والآخر (الدكتور مرسي) اسلامي يمثل الجماعات المقصاة في حقبة الستين والتي كانت جزءاً من الثورة التي اطاحت بتلك الحقبة. فالجولة الانتخابية الرئاسية الثانية والحال كذلك ما لم يجدّ جديد في نتائج الجولة الماضية وهو ما لم يحدث ستكون بين خيارين: خيار التغيير وخيار العودة ولو رمزياً الى الحقبة السابقة الشيء الذي ربما فتح الباب لجديد في الامر برمته إلا ان ذلك كله وغير متروك الى صندوق الانتخابات في الجولة الثانية الشيء الذي يحتاج الى حسابات وتدقيق ومراجعة ممن لم يدلوا بأصواتهم في الجولة الاولى وعددهم كبير للغاية أى اكثر من 05% تقريباً ممن يحق لهم الادلاء بأصواتهم.. وكذلك للذين ادلوا بأصواتهم لآخرين كالسيدين ابو الفتوح وصباحي وغيرهما. وكلا الامرين- بتقديرنا- في غاية الصعوبة لما ساد الفترة الانتقالية من خصومات سياسية ومشاحنات وعدم استقرار على خطة استراتيجية ترسم ملامح ما بعد الفترة الانتقالية. فالتوجه الواحد في المرجعيات والاهداف وهو التوجه الاسلامي بفروعه الرئيسة (الحرية والعدالة والنور) وغيرهما لم يحسب حساب ما يمكن أن يؤول اليه الحال اجمالاً جراء الاجراءات كما حدث للسيد حازم ابو اسماعيل وجراء ما تسفر عنه صناديق الاقتراع ليجعل ذلك من حسم الشأن في الجولة الاولى امراً مستحيلاً بل فتح الباب لتحدي وصول الفريق شفيق الى الموقع التنافسي الثاني إذ لو أن ما حصل عليه الدكتور ابو الفتوح وكان قد اوصله الى الموقع التنافسي الرابع في السباق الرئاسي فضلاً عما حصده الدكتور العوا- قل أو كثر- قد صب لصالح الدكتور مرسي وهو الاول كما جاء في نتيجة الفرز والانتخابات التي شُهد لها بالشفافية الى حد كبير لكفى الله الشر- كما يقولون. وليس الحال كذلك فحسب وإنما بالنظر الى استمرار الثورة والتغيير فإن ما كان مطلوباً ولابد منه أكثر من ذلك إلا أن التمرين الديمقراطي يقتضي المنافسة وبروز الاحجام والاوزان للرموز والاحزاب والجماعات ولا سيما في الجولة الاولى حيث لم تكن التوقعات والتحديات بحجم ما حدث أى زحف الفريق شفيق الى المرتبة الثانية في السباق الرئاسي.. وذلك بغض النظر عما يجري الآن من طعون وجهت سهامها بالكامل الى الفريق شفيق وحصيلته من الاصوات غير أنه حسب للمؤتمر الصحفي للجنة بالامس فقد سقطت تلك الطعون. إن السؤال: الى اين ترسو سفينة أم الدنيا.. الذي جعلنا منه مدخلاً لهذا التحليل السياسي أو القراءة لما يجري في مصر اليوم والمؤشرات كلها تقول بأن الحال على مفترق طرق تقريباً فالدكتور محمد مرسي- مرشح حزب العدالة وان حصل على الاغلبية المطلوبة في الجولة الثانية لا يبدو محل رضا من آخرين شأن الفريق شفيق. وجماعات اليسار أول هؤلاء بطبيعة الحال إذ هم يريدون دولة علمانية لا دينية ولهم مواقفهم التاريخية والمستمرة من الاتجاه الاسلامي وان جمعتهما في السابق معارضة النظام الحاكم وأخيراً الثورة والانقلاب الشعبي والجماهيري على ذلك النظام. ان الخلاف والاختلاف في المباديء والتوجهات السياسية من الامور المألوفة والمعروفة بين الجماعات والاحزاب بيد أن هناك ما يدعو الى التقارب والمواقف الوسطية عندما تدعو التحديات والتغيرات الى ذلك لا سيما عندما يكون الحال مرهوناً بمصالح قومية ومشتركة عبر عنها بالامس عمرو موسى وعندا تكون هناك مرجعيات وضوابط دستورية ينبغي احترامها والعمل تبعاً لها.. والاشارة هنا الى الدستور والتقاليد الديمقراطية والنظر الى المستقبل بواقعية وجميل وحسن أن حدد الدستور الفترة الرئاسية بأربع سنوات يعود بعدها الحال الى الناخب المصري الذي ستكون له تدابيره ومرئياته التي يؤسسها على تقييمه وتقويمه للأداء عبر الفترة الرئاسية المعنية. وعليه أمام مصر- أم الدنيا- الآن ان ترسو سفينتها على الخيار الافضل والامثل بعد انتفاضة وثورة شعبية ينظر اليها الكل بأمل ورجاء. فالدكتور مرسي والفريق شفيق المتنافسان على كرسي الرئاسة سيصبحان في الاسابيع القليلة القادمة محل فرزوخيار انتخابي دقيق يحدد مع من يقف صاحب القرار المصري حزباً سياسياً كان أو جماعة أو شخصية مستقلة. وعندئذ فقط يستطيع المراقب والمحلل السياسي أن يحدد أين يرسو مركب الديمقراطية في مصر أم الدنيا. إن ثمة حراك سياسي واعلامي نشط ينتظم الساحة السياسية في مصر الآن بغرض جسر الفجوة والتقارب وكسب الآخر أو تحييده. وهذا ما يقوم به تحديداً قطبا السباق الرئاسي وغيرهما ممن يعنيهم الأمر بعد الجولة الاولى إذ لكل من المتنافسين انصاره ومساندوه حباً فيه أو بغضاً للآخر..! ذلك ان لكل من مرسي وشفيق من يأخذ منه ذلك الموقف أو منهما معاً كما رشح في ما قال الدكتور صباحي ظهر الأمس.