بعد اعلان نتيجة الجولة الاولى للانتخابات الرئاسية المصرية وقد تفرق الناخبون المصريون ايدي سبأ شأن القيادات والرموز السياسية، كنا قد اثرنا في هذا المكان سؤالا فحواه (اين ترسو سفينة ام الدنيا)؟! وهو تحليل وقراءة سياسية خرجنا منها بأن الانحياز الى مرسي ورغم كل شيء هو المآل، لأن خصمه الفريق شفيق تحيط به الصعوبات والتحديات من كل جانب... وكان أول تحد هو أنه من رموز عهد الرئيس السابق مبارك ونظامه.. فوصوله الى سدة الرئاسة كان سيعني ان الثورة المصرية التي كانت حلم الشعب المصري ستنتهي الى انقلاب او (موت حلم).. رغم أنه من الناحية الأخرى أو حملة الدكتور مرسي كانت تواجه هي الاخرى تحديات كبيرة وصعبة، اذ ان وصول الاسلاميين الى السلطة وعبر صناديق الاقتراع وقد أثير في وجههم الكثير من التشوهات والتخوفات، كان يعني أن مصر حسب افادات واقاويل البعض في الداخل والخارج ستصبح ولأول مرة: اولا: دولة دينية وليست مدنية، وسيأتي ذلك بالخصم على الكثير من مكونات المجتمع المصري. ثانياً: وفي الخارج ستدفع إسرائيل وحلفاؤها في الدول الغربية الثمن. وجراء تلك التوجسات والهلوسات والهواجس فضلاً عن حقيقة ذهاب الثورة والانتفاضة الشعبية اذا ما صبت صناديق الاقتراع في مصلحة الفريق شفيق في الجولة الرئاسية الثانية.. كان السباق بين المتنافسين حادا للغاية، وكان يتعين فيه على الناخبين إعمال كل ما لديهم من عقلاينة وقدرة على حسابات الربح والخسارة لحسم الجولة الثانية للصالح العام بعيداً عن الاهواء السالبة وما اليها من نزعات ورغبات ظلت تراود الكثيرين وتحجب عنهم الرؤية الموضوعية. فالحساسيات السياسية والفكرية والمذهبية كان لا بد من تجاوزها... ولعل ذلك ما حدث، ونحن نجد أن الدكتور مرسي هو الذي وصل الى سدة الرئاسة ولو بفارق في الاصوات لا يتجاوز ال 4% ! وذلك ما لم يكن بالامر الهين... فالخطاب السياسي لدكتور مرسي إبان الجولة الانتخابية الثانية كان متوازنا الى حد كبير، ولا سيما في القضايا التي كانت مثارة حول الجماعة الاسلامية ووصولها الى سدة الرئاسة لأول مرة في تاريخ مصر، والتوجهات السياسية فيها بشكل عام. ومهما يكن من أمر، وحسب الطعون والمراجعات الدقيقة لما احتوت عليه صناديق الاقتراع أعلن فوز الدكتور مرسي، حيث اصبح ذلك أمراً واقعاً ويجب التعامل معه بموضوعية ونهج ديمقراطي معروف عالمياً.. فكانت التهانئ والتبريكات وإعلانات القبول من كل الجهات تقريباً بما فيها المجلس الانتقالي العسكري والمرجعية القبطية ثم الفريق شفيق نفسه المرشح المنافس للدكتور مرسي، وآخرون في الاحزاب والتجمعات السياسية وغير هؤلاء لا ريب.. وفي المقابل لم يكن ذلك كله كما قلنا بالمجان وبما كان يجري في ميدان التحرير وحده، وقد كان مظهر قوة وسند، غير أن العقل والحكمة هما دوماً الغالب والمرجح للحسابات في مثل هذه الأحوال.. وهنا نستطيع أن نقول إن الدكتور مرسي نفسه لم يقصر ولم يفت عليه انه سمي رئيساً لمصر في مرحلة تاريخية تستوجب النظر للأمور بما تستحق.. والشيء نفسه يُقال عن الجماعة وحزبها السياسي. ٭ مرسي اعترف بأنه رئيس مصر وليس الحزب او الجماعة، مما اعطاه موثوقية وحسن ظن كبير .. ولما زاد على ذلك أن تركيبته السياسية تشمل المرأة وغير المسلمين وخيار الرموز والنخب الفنية والسياسية وما إليها، كانت سلطته المنتخبة قد رست الى بر الامان، وعبرت بمركب الديمقراطية الجديدة الى حيث ينبغي ويتوقع. ٭ ومن ناحية أخرى عندما هنأت مرجعية جماعة الاخوان والحزب الدكتور مرسي بحسبانه رئيساً لمصر بكل طوائفها وليس الجماعة، كان ذلك قد أضاف الى الاجواء الساسية والديمقراطية السائدة جديداً لم يكن يتوقع، بل كان يخشى على الرئاسة المنتخبة من أن تسقط في غياهبه!! وما ستسفر عنه الأيام القليلة القادمة في هذا السياق ربما كان أكثر، مما جعل بعض الجهات الخارجية غير العربية تبادر بتهنئة الرئيس المصري الجديد كالإدارة الأمريكية مثلاً. وهذا أيضاً لم يكن بالمجان فيما يبدو وإنما عبر مؤشرات سياسية خارجية طمأن فيها الرئيس الجديد من يهمه الأمر إلى أن الرئاسة معترفة بكل تعهدات وارتباطات بلدها الخارجية.. فالسلطة المنتخبة لن تحيد عن ذلك قيد انملة.. وفي ذلك اشارة الى اتفاق (كامب ديفيد) للسلام الذي مضى عليه اكثر من ثلاثين عاماً، حيث كان قد وقع في 1979م من القرن الماضي.. وهذه كلها تطورات نحسبها إيجابية وفيها من ملامح الحقبة الجديدة في مصر ما يدعو الى التفاؤل والاستقرار، بل ربما قال المراقب إن ام الدنيا قد رست سفينتها على بر الامان، وخرجت من دوامة الاضطرابات والمطبات الهوائية والمائية التي كانت تهب عليها في الفترة الماضية التي عرفت بفترة الثورة والديمقراطية أو الربيع المصري. وفي هذا كله مؤشرات إيجابية هبت رياحها على الداخل المصري والخارج الاقليمي والدولي في آن واحد... وبخاصة دول الجوار ويعني منها (جمهورية السودان) التي عانت ما عانت في الحقبة المباركية مما اضاع على البلدين الكثير من المصالح المشتركة والمتبادلة.. وخاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في منتصف عقد التسعينيات من العام الماضي التي وجهت فيها السلطة في مصر سهامها نحو السودان..!! أما اليوم وقد رحل الرئيس مبارك ونظامه وحلت محلهما سلطة جديدة ربما كانت هي الاقرب للسودان ونظامه الحاكم.. فإن تبادل المصالح والمنافع عبر (الحقوق الاربعة) التي لم تنفذ من قبل بالكامل، سيفتح الطريق أمام علاقة جوار جديدة وحقيقية تلبي مطامح الشعبين في مصر والسودان .. وأبرز ذلك مياه النيل والزراعة وهما في قائمة اولويات البلدين (مصر والسودان)، إذ لدى كلٍ ما يحتاجه الآخر ويحرص عليه، ولديهما معا ما يحرصان عليه اكثر وهو (مياه النيل) في زمن طغت فيه على السطح (حرب المياه)... وزحفت فيه الدولة العبرية (إسرائيل) الى دولة جنوب السودان الوليدة وقبلها الى إثيوبيا وغيرها من دول المصب والمنافع!! ولما كان لجمهورية مصر العربية وضعها الخاص والحساس في المنطقة العربية تحديداً، وهي التي ترفد الجميع بالعمالة المهنية والفنية والأسواق، وتؤثر في العلاقات الخارجية وآليات تحريكها كالجامعة العربية، فإن الوضع الجديد في الجمهورية سيكون له دوره في احياء ذلك كله، وربما اضافة ما هو جديد إليه، فقد رست سفينة أم الدنيا على واقع جديد (ديمقراطي ومنفتح)، وله سنده الجماهيري وخبراته التي ستضيف الى الواقع المصري ولا تكون خصماً عليه، وربحاً وكسباً لجهات أخرى كما كان يحدث بالنسبة للدولة العبرية (إسرائيل) التي كانت تربح خصماً على المصريين في الغاز والمنتجات الأخرى، وعلى الفلسطينيين في غزة، حيث كان معبر رفح يعمل لصالح إسرائيل وليس لصالح الفلسطينيين!! لقد آل النظام الجدد بقيادة الدكتور محمد مرسي على نفسه احترام العهود والمواثيق المصرية في الحقب الماضية، ولكن ذلك لا يعني أن الترتيبات والعلاقات لا تعاد قراءتها على ما يحقق المصلحة ويحفظ الأمن والسلم والتوازن في العلاقات والمصالح مع الآخرين.. فقد رست سفينة (أم الدنيا) علي بر جديد يختلف شكلاً ومضموناً عن نظام الرئيس السابق مبارك.. وهذه حقيقة نحسب أن لها ما يدعو إلى النظر إليها بعين فاحصة وذهنية موضوعية.. وهذا ما حاولناه في هذا التحليل السياسي أو القراءة السريعة للمستجدات في مصر، حيث أننا كنا قد طرحنا في وقت سابق سؤالاً كان في زمانه ومكانه تقريباً وفحواه (أين ترسو سفينة أم الدنيا)..؟!! واليوم طرحنا ما فحواه (أخيراً رست سفينة أم الدنيا)، وهو ما نحسب أنه قد حدث، غير أننا نعلم أن الله (سبحانه تعالى) أبى ألا يكون كاملاً إلا كتابه.