ظللت أتابع الانتفاضات الشعبية العربية من تونس إلى مصر فاليمن وسوريا حالياً.. ولاحظت أن العرب يتحدثون عن تلك الانتفاضات الشعبية وكأنها الأولى من نوعها في المنطقة العربية.. ولأننا شعب متواضع لا يتحدث عن نفسه كثيراً فقد تحملنا تلك الصيحات المغرورة سياسياً بالرغم من أننا كنا أول شعب في المنطقة العربية يسقط نظامين عسكريين وليس نظاماً واحداً فقط بانتفاضتين شعبيتين خلال القرن العشرين في 1964م و1985م.. ولكن لأن العرب يعتقدون أن السودان مشكوك في عروبته كما قال الطاغية العراقي صدام حسين عندما وقف النظام المايوي مع اتفاقية كامب ديفيد ورفض مقاطعة مصر - وخارج الإطار العربي «الأصيل» فلم يهتم أحد بتلك الانتفاضات. وقد يقول لي أحد القراء المحترمين إن هذا تاريخ بعيد قد لا يعرفه الشباب العربي الذي فجر الانتفاضات الشعبية.. وأقول إن التاريخ يدرس في المدارس والجامعات، فهل كثير علينا أن يدرس التاريخ السياسي للسودان ضمن التاريخ السياسي العربي؟ وإذا كنا نجد الأعذار للإخوة في تونس واليمن لبعدهما الجغرافي والسياسي عن السودان فلن نجد أي عذر للإخوة في مصر.. فمن منا لا يعرف التاريخ السياسي لمصر.. فلماذا هذا التجاهل المتعمد للتجربة الثورية السودانية؟ فالإخوة في مصر يدرسون الآن تجارب الشعوب في أقصى بقاع العالم.. في أمريكا الجنوبية وفي آسيا ويتناسون التجربة العظيمة للشعب السوداني الذي يدعون أنه شعب شقيق.. بل وشعب واحد، وغير ذلك من المقولات الرومانسية لزوم المجاملة. أقول هذا بمناسبة الدوار السياسي الذي تعيشه مصر هذه الأيام بسبب التخبط السياسي الذي حدث بعد انتفاضة 25 يناير 2011م.. أجريت انتخابات برلمانية.. وانتخب رئيس جمهورية قبل أن يتم وضع دستور للبلاد.. وها هو المجلس العسكري يزيد الطين بللاً فيعتمد حل البرلمان المنتخب ويتحدث عن تعديلات دستورية.. ولا أحد يعلم حتى الآن ما هي حدود صلاحيات كل من رئيس الجمهورية المنتخب والمجلس العسكري.. بل لا أحد يعرف أمام مَنْ سيؤدي الرئيس المنتخب القسم.. لو تمت دراسة التجربة الثورية السودانية ومعرفة جوانب ضعفها وقوتها لأدرك قادة العمل السياسي في مصر أن الخطوة الأولى بعد سقوط النظام السابق كانت يجب أن تكون انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور دائم للبلاد، ثم بعد ذلك إجراء انتخابات برلمانية وانتخابات رئاسية. إن التخوف من وصول مرشح جماعة الإخوان المسلمين لرئاسة الجمهورية في مصر هو تخوف مشروع في غياب دستور دائم يلزمه بثوابت وطنية معينة كمدنية الدولة ووضعية القوات المسلحة والإطار الدستوري للعلاقات الخارجية وغير ذلك من المسائل. فمن يضمن أن رئيس الجمهورية المنتخب لن يستغل هذا الفراغ الدستوري لدفع الدولة المصرية إلى اتجاه معين ينسجم مع توجهه ومعتقداته السياسية الحزبية.. بل أقول إنه ليس مستبعداً أن جماعة الإخوان المسلمين نفسها قد تعمدت دفع الأمور في اتجاه تقديم انتخاب البرلمان وانتخاب رئيس الجمهورية قبل وضع الدستور لضمان تمرير بعض القرارات قبل وضع الدستور.. فأغلبية البرلمان لهم.. ورئيس الجمهورية منهم. إن السياسة في المنطقة العربية مازالت «لعبة قذرة»، لذلك أعتقد أن مصر تقف الآن في بداية طريق شائك ومعقد مليء بالمتاعب السياسية والصراعات الدائرية التي ستستمر لعقود قادمة، لأن الإسلام السياسي في مصر تحديداً وفي جميع الدول العربية الأخرى لن يتنازل عن طرح ما يسمى «مشروع النهضة الإسلامي» الذي يهدف إلى أسلمة المجتمع مهما حاول التأقلم والتلون، لأنه الكرت السياسي الوحيد الذي يمتلكه.. وهذا مشروع هلامي يدخل المجتمعات في دوامات سياسية واقتصادية واجتماعية لا نهاية لها. ورسالتي في هذا المقال موجهة لجميع الواهمين الذين يحدثوننا ليل نهار عن عروبة السودان ويهرولون نحو العرب.. والعرب يتجاهلوننا تماماً إلى حد الاحتقار.