بعد تفجر الربيع العربى تحولت القنوات الفضائية العربية الى وحش اعلامى لا يكتفى بمطاردة الاحداث ونقل الاخبار وتحليلها ومتابعة انعكاستها، بل ساهمت فى صناعتها وصياغتها وتسويقها اقليمياً ودولياً، الامر الذى اثار جدلاً كثيفاً فى الاوساط الاعلامية حول اداء القنوات الفضائية فى الثورات العربية، منهم من رأى ان مشاركة القنوات الفضائية فى التعبئة والتحريض بشكل واضح سقطة مهنية ومخالفة صريحة للمعايير الاعلامية السائدة، بينما يرى فريق آخر ان القنوات انحازت الى الشعوب، وان المهنية والمعايير يجب ألا تقف حاجباً امام الكشف عن بطش الانظمة لشعوبها، وأن ازاحة هذه الانظمة بكافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة سيخلق مناخاً افضل للحريات الصحفية، ويرسخ ذات المعايير المهنية التى تم انتهاكها فى سبيل تحقيق اهداف نبيلة، من ضمن التهم التى تؤخذ على تلك القنوات التلاعب بالصور ونشر صور مأخوذة من مصادر غير موثوق بها، مثل مواقع التواصل الاجتماعى «الفيسبوك وتويتر واليوتيوب»، وكذلك عدم الحياد وتورط القنوات فى التحريض والتعبئة، بجانب تبني تلك القنوات بعض الملفات الاقليمية وغض الطرف عن اخرى وفقا لتوجهات الجهات الممولة، مثلاً القنوات التابعة لدول الخليج دون استثناء تتهم بأنها لم تهتم بالانتفاضة فى البحرين بينما ساهمت مساهمة كبيرة فى نجاح الثورات فى تونس وليبيا ومصر، وبدرجة أقل الثورة فى اليمن، ومازالت تفرد مساحات واسعة للثورة فى سوريا، وقناة «العربية» تضغط بشدة على الملف الايرانى، كذلك ال «بي. بي. سى» العربية تولى اهتماماً خاصا باوضاع الاقباط بمصر، وقناة «الجزيرة» تتهم بأن لها اجندة موالية للاسلاميين، وكذلك قناة «الحرة» تتهم بأنها تتبنى اجندة امريكية وهكذا . وما قامت به القنوات من دور فى تشكيل الرأى العام خلال الربيع العربى دفع عدداً من الدول الراغبة فى لعب دور اقليمى فى المنطقة، إلى اطلاق قنوات ناطقة بالعربية مثل تركيا وايران وفرنسا وروسيا والولايات المتحدةالامريكية وغيرها. وخلال الأيام الماضية التى شهدت الاحتجاجات الشعبية فى عدد من المدن السودانية احتجاجاً على السياسات الاقتصادية الاخيرة، ربما اعتقد كل من شاهد القنوات الفضائية العربية أن الحكومة ستسقط فى اليوم التالى بسبب الزخم والضجيج الذى صاحب تغطية تلك الاحداث، وكذلك الحكومة ساهمت فى ترسيخ هذا الانطباع بالاجراءات الامنية المشددة والانتشارالشرطى الكثيف. ولحسن طالع الحكومة ان الاحداث الاخيرة تزامنت مع تطورات سياسية اخرى على الساحة العربية مثل تسليم السلطة فى مصر من المجلس العسكرى الى الرئيس المصرى المنتخب محمد مرسى، وتطورات الاوضاع فى سوريا، ولولا ذلك لتفرغت القنوات للملف السودانى، وافردت مساحات واسعة للاحداث الاخيرة، وشاركت في التحريض والتعبئة على نحو ما قامت به تلك القنوات فى الثورات العربية. وبالرغم من ذلك لم تقصر الفضائيات فى نقل اخبار الاحتجاجات مع تضخيمها، ومن تلك النماذج فى الاسبوع الماضي، كنت شاهدا على تظاهرة طلابية بكلية المصارف التى يقع مقرها بالقرب من وزارة الخارجية، حيث خرج الطلاب الى شارع الجامعة وتجمعوا بالقرب من مدخل كبرى المك نمر، وبعد دقائق معدودة جاءت الشرطة وفضت التظاهرة، وتمكنت من اجبار الطلاب على العودة الى مقر الكلية، وبعد عودتى الى المنزل جلست امام التلفزيون لمشاهدة نشرة الاخبار باحدى القنوات، وقرأ المذيع العناوين، وجاء فيها «مظاهرات حاشدة فى محيط القصر الجمهورى بالسودان»، ولولا اننى كنت قبل قليل بموقع الحدث لاعتقدت ان المتظاهرين يحاصرون القصر الجمهورى، وكنت سأظل انتظر بياناً رئاسياً مماثلاً للبيان الذى ألقاه عمر سليمان عشية تنحي حسني مبارك عن السلطة. وكذلك من النماذج التى شاهدتها بنفسى بث اخبار منسوبة الى مصادر من الناشطين، بالرغم من ان تلك القنوات لديها مراسلون فى السودان. وكذلك تابعت يوم الجمعة الماضية التى أطلق عليها جمعة «لحس الكوع» في احدى القنوات برنامجاً عن الاوضاع بالسودان، وكان المذيع يسأل الضيف سؤالاً ايحائياً: ماذا ستطلقون على يوم الجمعة المقبلة؟ هل تودون أن تطلقوا عليها جمعة «شذاذ الآفاق»، مع العلم أن الضيف لم يتحدث عن عزمهم الخروج فى جمعة اخرى. وإن كانت هنالك دروس مستفادة من أحداث الأيام الماضية والتغطية الإعلامية المصاحبة لها، فهي ما تجسده العبارة الشهيرة «لا تسلم الجرة فى كل مرة»، . وهذا الامر ذكرنى بطرفة ادروب مع احد الفلسطينيين الذى كان يجيد لعبة «الكراتيه» عندما فشل ادروب فى تفادى اللكمات المتلاحقة التى كان يوجهها الفلسطينى إلى وجهه، فوقف أدروب بعيداً عنه ثم صرخ قائلاً: «فلسطينى إسرائيل كيف؟».